في ليلة ماطرة.. الشعب يريد..
في ليلة شتوية باردة.. باردة جدا ..
البرد يسري في المدينة، البرد يتلوّى في الشوارع، البرد يدخل البيوت من الشقوق يدخل الأجساد من أطرافها.. البرد يريد أن يهرب من برده يريد أن يلتحم بشيء ما يبثّ فيه الحرارة.. فتساقط عليه المطر..
المطر باردة.. قطرات المطر لاسعة تثقب الهواء و تقع على الأرض، الأرض سعيدة بالمطر أو هكذا تبدو لأنها تستقبلها بقبل في شكل دوائر تتّسع .. تتّسع و تتلاشى.. لكن هذا لا يمنع من أن الليلة كانت شتوية جدا..
أتململ في فراشي الدافئ.. بعيدة عن الريح المبللة بالمطر.. رغم دفء الغرفة اشعر بالبرد ، كانت المدينة تبدو صامتة و قد أسلمت نفسها لليلة شتوية قاسية جدا..
هرب الدكتاتور .. ترك البلاد و فرّ، لم يستطع أن يصمد وهو المدجّج بالسلاح أمام هتافات شباب الثورة.. ترك بعض أذنابه يسعون في محاولات يائسة إخماد ثورة لا تزال في قلوب الشباب..تشتعل.

هناك في ساحة الحكومة بالقصبة – في العاصمة تونس – ثمة حركة و أقترب، ثمة كتل لأشخاص تتململ والضوء ينبعث من فوانيس الشارع ويصطدم بالريح والمطر والبرد و يصل ضوءا أغبر فاترا .. لكنه يكشف – بعد أن اقترب أكثر – على مجموعة هائلة من الشباب المعتصم في ساحة القصبة.. شبان و شابات يتّقدون نظارة ونشاطا وحماسا تختلف أعمارهم من العشرين أو قبلها بقليل إلى الستّين أو بعدها بقليل ولكن جميعهم كانوا يحملون قلوبا شابة تضجّ بالحياة تطفح بحب الوطن.. شباب صنعوا الثورة ويدافعون عنها بشدة .. يدافعون عنها ضد الملتفّين حولها الذين يريدون أن يسحبوها إلى الخلف دفاعا عن مصالحهم الشخصية، دفاعا عن أنانيتهم ومراكزهم الاجتماعية ، دفاعا عن ترفهم و بذخهم الذي قدّ بنهب ثروات البلاد و امتصاص عرق المهمّشين و المسحوقين..
في ليلة شتوية جدا كان الشباب المعتصم يلتحفون معاطفهم تغطيهم أحلامهم.. تصطك أسنانهم وترتجف أطرافهم من شدّة البرد ولم يغادروا مكان الاعتصام.
كانت أشجار الساحة تؤنسهم وأوراق الأشجار المتحركة كأنها تحادثهم والمطر المتقاطر من أوراق الشجر ببطء كأنه يعتذر لهم .. ولم يغادروا..
كنت أتململ في فراشي الدافئ على قلق وكان الشباب المعتصم المتجمّد من البرد يمسكون بتلابيب أحلامهم يشدّون على حافة الثورة حتى لا يسقطون و تقع هي في حضن سارقي الوطن..
كنت أتململ في فراشي الدافئ على قلق..
وكان الشباب المعتصم يتدفؤون على ضوء الثورة المتأججة في قلوبهم .. يتدفؤون بأملهم في الغد، يتدفؤون بمحبتهم للوطن .. كانت ثقتهم في نضالهم تجعلهم .. أقوى .
المطر تنزل بغزارة
الريح تتلوّى من شدّة البرد
والبرد يتيبس في أطرافهم و لا يطال أرواحهم..
الشباب المعتصم يتبادلون نكاتهم و يرسلون ضحكاتهم ويؤلفون شعاراتهم و يصنعون الحياة..

في ليلة شتوية باردة..
شباب الثورة المعتصم في القصبة .. لن يستطيعوا النوم هذه الليلة.
المطر تسيل على الأرض تبلّل أحذيتهم و تلامس أرجلهم، تبلّل فراشهم وتداعب أجسادهم وهم يتضوّرون من البرد ويبتكرون الأغاني ويضحكون..
كنت في فراشي الدافئ أتململ .. على قلق.
و كان شباب الثورة المتجمّدون من البرد يتدفؤون بأحلامهم الجميلة..
سيكون الوطن ..أجمل.

بعد ليلة شتوية باردة .. ذهبت في الصباح إلى ساحة الاعتصام.. كانت آثار الأرق بادية على عينيّ المنتفختين.. وجدت شباب الثورة وقد نشروا أغطيتهم المبلّلة ومعاطفهم التي يتقاطر منها ماء المطر.. معلّقة على سور الحديقة التي تتوسّط الساحة، على أغصان الأشجار، كانوا يستقبلون صباحهم بالضحك ويرفعون بأصوات قوية شعاراتهم وأهازيجهم في وجه السماء الملبّدة و التي باتوا الليل يظفرون كلماتها على الضوء المغبّر للفوانيس في ليلة شتوية باردة، باردة جدا.
كانوا ملتفين حول ثورة رائعة أطردوا من خلالها الدكتاتور ويسعون لطرد أذنابه راقني مشهدهم و طربت نفسي..و انخرطت معهم في هتافات قوية تشق الفضاء.
* روائية من تونس