مشاهد منقوشة في متحف الذاكرة

في نهاية ذلك اليوم عادت إلى بيتها بمنيل الروضة سيراً على الأقدام فقد اختفت السيارات وسُبل المواصلات من الشوارع. فقدت فردة حذائها اليسرى. ملابسها غارقة بالمياه، مُوحلة بعد أن سقطت عدة مرات. عيونها متورمة حمراء من البكاء والغازات منتهية الصلاحية، وجهها شاحب ترتسم عليه أحداث الساعات الماضية. أمام باب العمارة وجدت أمها منهارة تسيل دموعها وهى الممنوعة من البكاء لأنها أجرت عملية جراحية في عينيها منذ أيام قليلة. بينما الأب الذي يحيا بخمس دعامات في القلب يكاد يقتله الخوف عليها. عندما دخلت من باب الشقة ورآها بوجهه المتشح بالذعر والقلق سمعته يقول بغضب: “إنتي جيتي؟!..”، ثم دخل حجرته وأغلق عليه الباب لما يزيد عن أربع ساعات. منذ تلك اللحظة لم تخرج ثانية للتظاهر خوفاً على والديها.        
   
رماد الغضب

يتدفق حديث “نهى” كالنهر في سهولة ويُسر. خَرَجت من بيتهم في ذلك اليوم قبل العاشرة صباحاً دون أن يراها أحد. تركت أختها ووالديها وانطلقت في الشارع لتنضم إلى المتظاهرين في ميدان التحرير. هناك تقاسموا قطع الخبز الحاف مع قليل من شربات المياه. التوتر والترقب يُخيم على الأجواء. الوقت يمر بطيئاً قبل أن تبدأ الإحتكاكات مع رجال الأمن. أرادت أن تُطمئن والديها، لكن الموبايل لا يعمل. طلبت من رفيقتها هاتفها الخلوي. هو الآخر لا يعمل. انتشر الخبر كالهشيم في النار. السلطات فصلت خدمة الهواتف الخلوية لمنع التواصل بين المتظاهرين. تخيلت أجهزة الأمن أنها بذلك تُحاصر الشباب، وتنصب من حولهم شِباك الفشل واليأس، إنهم لا محالة واقعون في الشرَّك. لكن الإرادة وروح التحدي وخزين الغضب الكامن في نفوس هؤلاء المحتجون حطم جدران الفخ الحصين، وانطلق كالمارد لا يقبل سوى الحرية والعدالة بديلاً.
   رجال الأمن المدججين بالأسلحة على كافة أشكالها هم من بدأ التحرش بالمتظاهرين العُزل إلا من الإرادة والعزيمة، إلا من هتافات “عيش .. حرية.. عدالة إجتماعية”، وتنديدات الاحتجاج على تردي الأوضاع الإقتصادية، وانتشار الفقر والبطالة، وتضخم الفساد، وارتفاع الأسعار، مطالبين برفع الأجور وإجراء اصلاحات إقتصادية وسياسية وتعديل الدستور، وإلغاء قانون الطوارئ، وحل مجلس الشعب. 
شنت قوات الأمن هجومها الشرس بخراطيم المياه والهراوات والعصي والقنابل المسيلة للدموع منتهية الصلاحية والرصاص الحي. مارست الركل بالأقدام وتمزيق الملابس والسباب قبل إعتقال عشرات العشرات ممن سقطوا في أيديهم. تحركت سياراتها المدرعة في كافة الاتجاهات غير عابئة بمن تدهسهم تحت عجلاتها. أخذت سحب الدخان الخانقة تحاصر المتظاهرين سقط منهم عشرات الضحايا. تتفرق الجموع. تنتشر في الشوارع الجانبية. بعضهم يحمل الضحايا الملطخين بالدماء إلى أقرب مسشفى، بينما يُواصل الآخرون التظاهر. نوبات من الكر والفر، من التراجع والإقدام، من الإختناق والبكاء، من الخوف الممتزج بالبسالة والصمود. يجرون في الشوارع هنا وهناك، ثم يعودون. بعضهم ينتظر القنابل المسيلة للدموع تُلقي بالمدافع وسط الميدان فيلتقطها ثم يُعيد إلقائها ثانية على رجال الأمن والشرطة فتتعالى الهتافات، آخر يتصدي لسيارة الأمن المركزي المدرعة فتغرقه بالمياه.  

اعتراف…
تحكي “نهى” عن آمالها، ومخاوفها. أُنصت إليها. أغبطها لأنها عاشت هذه اللحظة التاريخية وشاركت فيها. كانت جزءاً من هذه الكتلة الشعبية الملتحمة بصوتها الهادر. أحكي بدوري. أعترف أنني لم أُشارك طوال حياتي في تظاهرة سياسية. منذ طفولتي دأبت أسرتي على تحذيري من خطورة التورط في مثل هذه الأنشطة. ليس من العدل أن أُحمِّل أسرتي وحدها مسئولية عدم إنخراطي في تلك الممارسات، فقد تمردت على الكثير مما فرضوه عليَّ منذ سنوات دراستي للإعلام بجامعة القاهرة. أعترف أن المخاوف راودت تفكيري وظلت تسكن أعماقي. في طفولتي وسنوات مراهقتي شاهدت عدداً من شباب القرية دُمر مستقبلهم جراء مشاركاتهم السياسية. وأنا رغم إنتمائي إلى عائلة إقطاعية كبيرة نشأتُ في بيت رقيق الحال جراء خلاف حاد وقع بين أبي وجدي. كنت أذهب مع أبي إلى الحقل، والبحيرة لاصطياد الأسماك قبل الفجر. ترسخ في وعيي أن التعليم والعمل هما وسيلتي الوحيدة للإفلات من هذا الفقر اللعين، أنهما طوق النجاة من الحياة التي أمقتها. لم يكن لدي استعداد للتضحية بأحلامي على أي مذبح. لازمني يقين فطري أن الإخلاص في عملي الإعلامي ومعالجة قضايا تمس أوضاع الناس في بلادي – حتى لو من خلال نقد الأعمال الفنية – يغفر لي عدم ممارستي للتظاهر والإحتجاج. مع ذلك كلما قادتني الظروف للتواجد قريباً من مُظاهرة ما كنت أتوقف أمامها. أرقب أفرادها عن بُعد. أتمنى لو كنت جزءاً من هذا النهر. أمر بجوارهم. ألتحم بهم للحظات تسكرني ثم أنفصل عنهم من جديد.

مُروِّع ورائع..
يظل ما شاهدته على شاشة التلفاز يوم الخامس والعشرين من يناير مُروعاً ورائعاً واستثنائياً. بعد منتصف الليل هاتفني أخي من شرم الشيخ متسائلاً: أين أنت؟ أجبته: “في البيت. لماذا؟” أسمعه يتنهد قبل أن يقول: “الحمد لله.. افتحي قناة الجزيرة، ميدان التحرير مشتعل.. ربنا يستر.” 
أتأمل ما يجري أمامي. لا أصدق ما آراه. التوتر يستولى عليَّ. يا الله ما كل هذا العدد!!، وما مبرر تلك القسوة الوحشية مع شباب أعلن أن مظاهرته سلمية؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ الأرق يستولي علي والسيناريوات السيئة تلاحقني حتى الصباح. أحتسي قهوتي وأخرج. أتجول حول ميدان التحرير والشوارع المحيطة. آثار ليلة الأمس لاتزال قوية، شواهد العنف تصرخ، سيارات متفحمة، مئات من قطع الحجارة متناثرة في كل مكان، الطرق المؤدية لميدان التحرير مغلقة. الأمن ينتشر في كل مكان. 

استراحة الثوار

تتواصل الإحتجاجات وتتأجج الدعوة لجمعة الغضب. عقب صلاة الجمعة أخذت تتصاعد الأصوات والهتافات القادمة من بعيد، هادرة مثل موج البحر. أطل عليهم من الطابق السادس في شارع مراد بالجيزة. بين يدي الكاميرا تسجل هتافهم “الشعب يُريد إسقاط النظام”. رجال الأمن عند النفق يتصدون للحشد فينعطف في الشوارع الجانبية ثم يعود للشارع الرئيسي، لكن جميع الكباري والمنافذ المؤدية إلى التحرير أُغلقت أمامه. مع ذلك لم يستسلم المتظاهرون، رجال ونساء وشباب وفتيات وأطفال. ظلوا يدورون حول حديقة الحيوان، يمروا بجامعة القاهرة وصولا إلى ميدان الجيزة عائدين إلى شارع مراد من جديد، أكثر من سبعة مرات. الأعداد تتزايد والناس تستجيب لندائهم. نساء تُلقي إليهم بزجاجات للمياه تروي عطشهم من النوافذ. ألمح الأعلام ترفرف بين أيديهم، وآخرى تُطل من شرفات المنازل فتتعالى الهتافات: “إنزل.. إنزل.. إنزل”. تتساقط دموعي دون قدرة مني على منعها.  
أسمع حاجزا حديديا يسقط بعنف، يليه حاجز آخر، وثالث. ألتفت لمصدر الصوت. ألمح الشباب المتظاهر ينتفض لسلوك اثنين من الصِبية المندسين بينهم. يهرول المتظاهرون إلى مبنى الكنيسة. يُعيدون الحواجز إلى وضعها، يُعنفون المراهقين مرددين بقوة “سلمية.. سلمية..سلمية، مسلم ومسيحي إيد واحدة” تنهمر الدموع أقوى. لماذا أبكي؟. لأني غير قادرة على كسر حاجز الخوف، الخوف على الكاميرا التي دفعت فيها “تحويشة العمر” فصارت تحول بيني وبين الإلتحام بهؤلاء الشباب والشابات؟ أم لأني في لحظة إحباط ويأس كنت فقدت إيماني بهذا الشعب، وتناسيت أنه بتاريخه الطويل وحضارته العريقة لابد أن ينتفض يوماً ما ليُخرج أحسن وأجمل ما فيه؟

* إعلامية ومخرجة مصرية


إعلان