افتتاح مهرجان دبي “بطفل العراق” .. الجحيم القاتم

اختار مهرجان الخليج السينمائي أن يفتح دورته الرابعة، والمنعقدة حاليا في مدينة دبي الإماراتية، بفيلم تسجيلي بعنوان “طفل العراق” قاتم عن العراق والعراقيين. فمن بين مجموعة الأفلام العراقية المشاركة في المهرجان، والتي يصل عددها إلى أربعة وعشرين فيلما موزعة على مسابقات المهرجان وتظاهراته، وقع الاختيار على فيلم الشاب العراقي علاء محسن ، ليبدأ دورة لم يشأ منظموها أن تكون بعيدة عمّا يضرب العالم العربي من رياح التغيير السياسية. حيث تضمنت كلمتا مدير المهرجان عبد الحميد جمعة، والمدير الفني للمهرجان مسعود أمر الله بحفل الافتتاح يوم الخميس الماضي، تنويهات بثقل الثورات العربية الأخيرة على حركة الفن والسينما، والمسؤولية التي تنتظر صناع السينما، للاستجابة للحركة الاجتماعية والنفسية للشارع العربي.
يقدم فيلم “طفل العراق”، موضوع العودة للبلد الأول للمخرج، وبعد سنوات طويلة من الحياة في بلد آخر( الدنمرك هذه المرة). هذه العودة، كانت قد قدمت في أفلام تسجيلية عراقية عديدة، أنتجت في السنوات التي أعقبت نهاية نظام صدام حسين في عام 2003. إذ قام مجموعة من السينمائيين العراقيين بتسجيل عودتهم الفعلية إلى العراق، وقدموها في أفلام، تأثرت ظروف إنتاج معظمها بالوضع الأمني الصعب في العراق في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد اندلاع العنف الطائفي والاثني، واقتراب العراق من حافة السقوط في حرب أهلية طويلة. إذ ضرب العنف المتصاعد بخطط المخرجين السي��مائية. إضافة إلى قسوة المفاجأة التي كانت تنتظر معظمهم، من التغييرات الهائلة التي ضربت البلد في السنوات الثلاثين الأخيرة، وتكسر تلك الصورة المغلفة بالمثالية التي كانوا يحملونها عنه.
رغم تشابه الرحلة التي قام بها علاء محسن مع الرحلات التي قطعها مخرجون عراقيون آخرين، إلا أن الفرق الأساسي بين فيلم “طفل بغداد” وأفلام تسجيلية عراقية مشابهه، هو الفرق بين الجيل الذي ينتمي إليه المخرج الشاب، وذلك للمخرجين العراقيين الآخرين، والذين عاشوا تجارب هجرة مختلفة بظروفها عن التي يمر بها جيل من العراقيين الشباب (وصف العراقيين غير أمين هنا تماما)، عاش معظم حياته في دول غربية، لا يملك ذكريات واضحة أبدا عن البلد الذي تركوه في سن مبكرة كثيرا. جيل يعاني كثيرا من “تركة” البلد الأصلي التي تعقد اندماجه مع المجتمعات الجديدة. حتى ان “العراق”، تحول نفسه إلى احد عناصر الخلاف بين هذا الجيل وجيل الأباء.
لا يبدأ فيلم “طفل العراق” بعاطفية مؤثرة عن حلم العودة للبلد، كتلك التي بدأتها أفلام عراقية سابقة. فالبطل يفصح ومنذ المشاهد الأولى في الدنمرك بأنه لا يرغب العودة إلى العراق، هو يدفع بقوة إلى تلك الزيارة. وان استجابته آخرا وبعد تردد لسنوات، جاءت لإرضاء والدته، التي تركت له تذكرة العودة جاهزة على منضدته، قبل أن تتوجه هي نفسها مع بقية العائلة إلى مدينة الديوانية في العراق.
الرحلة التي قطعها الشاب إلى بلده والتي بدأت من بغداد، قبل أن تتجه جنوبا إلى “الديوانية”، ستتحول إلى كابوس حقيقي للمخرج. الكابوس سينتهي أيضا بفاجعة. فالأم الأربعينية التي كانت تنتظر الابن في مدينة الديوانية، وقدمها الفيلم في مشاهد عديدة، كسيدة تجتهد لإعادة العلاقة بين ابنها وبلدها، ستموت بشكل مفاجئ في العراق،وبعد أزمة قلبية، لتترك الابن يواجه الأزمة الأشد قسوة في حياته.

من فيلم “طفل العراق”

لا يتضمن الفيلم إشارة عن زمن تصويره. فالفيلم يبقى، وعلى الرغم من التحسن الأمني الملحوظ وخاصة في مدن الجنوب العراقي داخل البيوت العائلية للمخرج، وتندر المشاهد الخارجية فيه. قام المخرج بنفسه بتصوير معظم مشاهد الفيلم. ومنها أيضا المفكرة الصورية التي يسجلها باللغة الدنمركية. اللغة الأقرب للشاب من العربية، التي بدت أشبه إلى لغة الطفل الذي لم ينضج، أي تماما، بعمر المخرج عندما اتجهت عائلته إلى الدنمرك، هاربة من ملاحقة أمنية حكومية عراقية.
ما تكشفه مشاهد عديدة من “طفل بغداد”، عن اليوميات العراقية القاسية، من انهيار الخدمات، إلى تقديم بعض من البؤس الذي خلفه النظام السابق، هو أفضل من الكثير مما قدمته أفلام عراقية تسجيلية في السنوات الماضية. لكن الفيلم بالحقيقة، هو عن المأزق الإنساني الخاص لشاب عراقي عادي في بلده. والأعمق بكثير من مشقات قضاء أيام صيفية حارة جدا في العراق، بما تتضمنه من عادات روتينية يومية فرضتها الظروف الجديدة، كالانتقال بين خدمة التيار الكهربائي الحكومية، إلى خدمة المولدات الكهربائية الخاصة. ومحاولات الجميع الهروب من شدة صيف حر عراقي لا يرحم. فالذي لم يفصح عنه الفيلم، وبقي كقاعدة جبل الثلج، الذي شاهدنا قمته فقط في “طفل بغداد”، هو تلك الحياة التي عاشها الشاب “علاء” في الدنمرك، والشروط التي فرضتها عليه. هناك بعض الإشارات فقط، مثل الحديث عن حكومة يمينية تحكم الدنمرك منذ سنوات، والتي أثمرت سياستها المتشددة رفض طلب لجوء سياسي لعم علاء، والذي بعد أن سئم الانتظار في الدنمرك، عاد إلى “الديوانية”، ليخطف ويقتل بطريقة وحشية. كذلك يقدم الفيلم صورة قديمة لعلاء مع طلاب مدرسته الدنمركية، وربما قريبا جدا من السنوات الأولى لوصول عائلته إلى الدنمرك. في الصورة يظهر “علاء” كطفل اسمر نحيل وسط الطلاب ذو الملامح الأوربية. ليس من العسير تخيل المسار الذي أخذته حياة “علاء” في تلك السنوات الأولى في البلد الجديد، من رغبة تلقائية للتأقلم مع الحياة الجديدة، وما يفرضه العراق، والذي يتصدر الأخبار منذ عقدين من الزمان في التذكير بالحياة الماضية. والتمزق الذي يعجز الكثيرين على حمله، أو إيجاد سلام معه.
يبقى الفيلم مع الشخصية الرئيسية، في محاولاتها لاكتشاف “عراق” جديد تقع في حبه. المحاولة تتعثر دائما، لأسباب تتعلق بعدم جهوزية المخرج لتجربة متطلبة مثل هذه. يتعامل المخرج بصدق كبير مع ذاته ومع الكاميرا، لا أقنعه يلبسها أمام الكاميرا ولا يزوق كلماته لتعجب أحدا. هو يقول ما يؤمن به كل مرة. هذا الاتجاه الذاتي في التعاطي مع التجربة، أحال المستوى الفني للتصوير أحيانا، الى قضية اقل شأنا. فالفيلم اقترب بشدة  بالنهاية من بطله، وقدمه في أكثر لحظاته صدقا وانكسارا بتميز لافت.
ليست مشاهد دفن الأم، هي مشاهد الوحيدة للمقبرة في الفيلم. فالأم كانت قد اصطحبت العائلة كلها لزيارة قبر “العم” المقتول وقبل أيام فقط من موتها المفاجئ. مشاهد المقابر تلك الشديدة التأثير، ستترك ندبتها على الابن أيضا، والذي يكشف وبعد أشهر من عودته إلى الدنمرك، إن ذكرى زيارته إلى العراق، لن تدفع به إلى مسافة أبعد من تلك ما قبل الزيارة. العراق عاد مجددا إلى حياة “الشاب” العراقي!


إعلان