افتتاح وثائقي لمهرجان الخليج السينمائي الرابع

«طفل العراق» للمخرج الشاب علاء محسن

بشار إبراهيم – دبي

كان أمراً لافتاً اختيار فيلم وثائقي، لمخرج عراقي شاب، كي يكون فيلم افتتاح الدورة الرابعة من مهرجان الخليج السينمائي (التي انطلقت مساء 14/4/2011). وسيزداد الأمر تشابكاً عندما ننتبه إلى أن جداول عروض المهرجان، سوف تتضمن العديد من الأفلام الروائية الطويلة، والأفلام الوثائقية، والروائية القصيرة، لأسماء مخضرمة وهامة في تاريخ السينما العربية، من ناحية، ولأسماء شابة جديدة ومتميزة، أسست لحضورها اللافت، خلال السنوات الأخيرة، من ناحية أخرى.
قرار شجاع دون شك، أن يتم اختيار فيلم وثائقي، ولمخرج شاب. وهو قرار ينطوي، دون أدنى شك، على العديد من الدلالات، التي ينبغي لجمهور المهرجان، وللسينمائييين الخليجيين، قبلهم، الانتباه إليها، والتقاط الرسائل الفنية والتقنية، التي تقف خلف هذا القرار، الذي كان له أن يثير مواقف متعددة، بين مؤيد بقوة، وبين متردد، ومتسائل، وربما معترض!..
وما بين هذا وذاك، يبقى أننا ممن ينحازون لمثل هذا القرار الجريء، الذي نراه ينطلق من وعي دقيق، بهوية هذا المهرجان، وغاياته وأهدافه، والأسباب التي وُجد من أجلها!.. فإذا كان من الطبيعي أن يسعى مهرجان دبي السينمائي الدولي، لاستحضار أهم أفلام العام، في العالم، ليكون فيلم الافتتاح، كما فعلت الدورة الأخيرة، قبل أشهر معدودات (نهاية العام 2010)، والتي افتُتحت بفيلم «خطاب الملك»، وهو أثبت أنه فيلم العام بحق. فإن على مهرجان الخليج السينمائي، أن يذهب في اتجاه آخر، وموازٍ تماماً. اتجاه البحث عن فيلم جديد، لشاب ينبئ بموهبة قادمة، يمكن له أن يكون حافزاً ودافعاً ومحرضاً لنظرائه، من المخرجين الخليجيين الشباب، والطامحين لدخول عالم صناعة الفيلم، في الخليج العربي، تحديداً.
لا يتردد رئيس المهرجان؛ السيد عبد الحميد جمعة، في وقفة خاصة، في التعبير عن نقاط عدة، رأى أنها كانت الحاسمة في اختيار هذا الفيلم للإفتتاح. ويصل من ثم إلى استخلاصات دقيقة، تحوّل هذه النقاط

رئيس المهرجان عبد الحميد جمعة

إلى مجموعة من الرسائل، التي يرجوها أن تصل واضحة، مفهومة، إلى المخرجين الخليجيين الشباب، الذين وُجد هذا المهرجان من أجلهم.
هذا فيلم لمخرج شاب، أمكن له بالقليل من الإمكانيات المادية، والبسيط من الإمكانيات التقنية، صناعة فيلم يستحق الوقوف أمامه؛ مشاهدته، والتأمل فيه، واحترام الجهد المبذول فيه. لعل في هذا درساً للمخرجين الشباب، خاصة من أولئك الذين يتذرَّعون بعدم توفر الإمكانيات، ويطالبون بالكثير، حجّة لإقدامهم على صناعة أفلامهم.
لم يحتج هذا المخرج الشاب، سوى لكاميرا صغيرة، زهيدة الثمن، وبإمكانيات تقنية رقمية محدودة، ودونما أجهزة إضاءة، أو أجهزة صوت، ودونما الكثير من المعدات الثابتة والمتحركة: لا شاريو ولا كرين ولا جيمي جيب، لينجز فيلماً مؤثراً، يمكن له أن يكون فيلم افتتاح في مهرجان سينمائي.
وهذا فيلم يؤشر بقوة إلى أهمية الصورة، بل وأهمية المبادرة إلى التصوير، وإتقان استخدام الكاميرا، في كل وقت، وحين. إذ سنرى، في ثنايا هذا الفيلم، كيف تحوَّلت وقائع تصوير رحلة شخصية، بدت عادية في أحيان أولى، كأنها لا تعدو أن تكون لعبة فتى يافع بكاميرته الشخصية، فكان أن تحوَّلت إلى فيلم مؤثر، من خلال حادث، لم يكن له أن يكون عادياً، أو عارضاً في حياة هذا الشاب، وتحوَّل إلى نقطة انعطاف مصيرية في حياة هذا الشاب وأسرته، ونقطة تحوّل درامية هامة في سياق الفيلم، انتقلت به من مستوى الفيديو المنزلي، الذي ظهر عليه العمل في كثير من زمنه، إلى مستوى الفيلم، على ما انتهى عليه العمل.
وعلى مستوى المضمون، فإن الفيلم يعيدنا بقوة إلى الموضوع العراقي، الذي سنرى أنه لن يكون غائباً في الكثير من أفلام المهرجان. ولكن أن يكون فيلم الافتتاح عن شأن عراقي راهن، في زمن الثورات العربية، التي أخذت اهتمام وسائل الإعلام إلى تونس ومصر واليمن وليبيا.. بعيداً عما يجري في العراق، الذي ما زال يحاول النهوض من دماره، ولملمة جراحه.. فهو تأكيد جدير بالاهتمام، يذكِّر بأن المنعطف التاريخي الذي تشهده المنطقة، عموماً، إنما بدأ من العراق، وما شهده منذ قرابة عقد من السنوات، على الأقل، وأن ما يجري في غير بلد عربي، ينبغي له أن لا يُذهلنا عما جرى، ويجري، في العراق.
وقبل هذا وبعده، يبقى أن الفيلم، بالصيغة التي أتى بها، امتاز بصفتين أساستين، هما: الصدق والبساطة. الصدق، إذ يدور الفيلم حول موضوع ذاتي شخصي بحت، فبقي وفياً لهذا الموضوع، دون أي ميل للادعاء، أو الفذلكة، أو التنظير. وبقي بعيداً، وبمنجاة عن الشعارات، أو الشطحات السياسية، أو الفكرية، التي وقعت بها أفلام عدة. بقي الفيلم صادقاً مع نفسه، ومع الشخصيات التي يلتقيها، أو يعبرها، ومع المواقف الضاحكة منها أو الحزينة. المبهجة منها أو الفاجعة. لا ميل هنا للابتذال، ولا للتصعيد الميلودرامي، حتى في أكثر اللحظات حزناً.
كما حافظ الفيلم على منهج البساطة، على الأقل من خلال استعمال وظيفي للكاميرا، والابتعاد عن أي فذلكة بصرية، أو ولع بالمشهدية، التي يمكن أن تذهب بالاهتمام عن الموضوع الأساس، الذي كان عليه أن يتكثف خلال ساعة من الزمن، هي مدة العرض، فيما تتناول في الواقع تحولاً مصيرياً وحياتياً للمخرج الشاب وأسرته، وموقفه تجاه نفسه، وبلده، في آن. وبرز في الفيلم الاشتغال المونتاجي الوظيفي، أيضاً، الذي ينتقل من مشهد إلى آخر، ومن لقطة إلى تالية، مكثفاً الحالة، ومختزلاً الزمن، درءاً لأيّ وقوع في الملل، أو النفور، وإنقاذاً للفيلم من أي تكرار، ودوران حول الذات، أو مراوحة في المكان. دون إنكار وجود بعض الأخطاء المونتاجية المتعارف عليها، بالشكل المدرسي، أو التقليدي. ولكن من قال إن الفيلم جاء تقليدياً أصلاً؟..
الشاب العراقي: علاء محسن، الذي صعد، بدعوة من مدير المهرجان مسعود أمر الله آل علي، إلى المنصة، قبيل العرض، فتلكأ، وارتجف، وبحّ صوته، بين أيدي الكلام، أمام الجمهور الذي ملأ صالة العرض، يتقدمهم الشيخ منصور بن محمد بن راشد آل مكتوم، والسيد عبد الحميد جمعة، رئيس المهرجان.. وبحضور نخبة واسعة من نجوم الخليج العربي، وحشد من المخرجين السينمائييين الخليجيين والعرب وغير العرب، وثلة من النقاد، والصحفيين، والطلبة، والمهتمين والمتابعين.. أقول: الشاب علاء محسن، الذي بدا مرتبكاً متلعثماً على الخشبة، سوف يتألق على الشاشة متحدثاً، ومعبراً، ومعترفاً، ومحاوراً، يقود الفيلم، ويحمله، دون أن يسمح للفيلم بالافلات منه في لحظة، أو يترك له فرصة الضياع من بين أيديه، أبداً.
فيلم «طفل العراق»، للمخرج الشاب علاء محسن، وهو فيلم وثائقي موسط الطول (مدته 54 دقيقة)، ينتمي بطريقته الخاصة إلى تيار كامل من الأفلام العراقية الجديدة، التي تقوم ببنيتها على رحلة عودة من بلاد المنفى إلى العراق، لإعادة استكشافه، بعد سنوات غياب طويلة. تلك الرحلة التي ستتحول في الوقت نفسه إلى اكتشاف الذات أيضاً. الأنا الفردية، وأفراد الأسرة، وواقع الأهل والأقارب. ومعهم، الناس والأمكنة، والذكريات التي نامت طويلاً.

المخرج علاء محسن

من «الدانمرك» إلى «الديوانية»، سيعود المخرج الشاب علاء محسن. ويعود بنا إلى وقائع العراق اليوم. عراق الدمار، والجراح، والإهمال. ليس عراق الموت، والرحيل الفاجع، فقط، بل عراق الحرّ الشديد، وانقطاع الكهرباء. العراق الطارد لمن تبقى من أبنائه، من الشباب الذين لا زالوا يطمحون للمغادرة، والذهاب إلى الخارج، حتى تهريباً، أو بطريقة غير شرعية!..
من زاوية الرؤية هذه، قد لا يبدو فيلم «طفل العراق»، مفارقاً للكثير من الأفلام التي فعلت طراز هذه العودات المؤقتة. ولكنه من ناحية أخرى، وهي الأهم، فإنه فعل ذلك، بطريقته الخاصة؛ طريقة الشاب الذي لا زال في الحادية والعشرين من عمره، والذي وإن أمضى أكثر من نصف عمره في البعيد، في منفى اسمه «الدانمرك»، وعلى الرغم من أن هذه البلاد قدمت له الأمن والراحة المعيشية، إلا أنه بقي يتنازعه شوق للوطن الأم، وسؤال الانتماء الذي يحاول الفرار منه، فلا يستطيع.
يبقى من الجدير، واستكمالاً للقول بصدد هذا الفيلم، إن مهرجان الخليج السينمائي، في دورته الرابعة، والتي ستستمر حتى العشرين من شهر نيسان/ إبريل الحالي، يشهد إقامة دورة سينمائية تخصصية، بإشراف المخرج الإيراني المعروف عباس كياروستامي، يتولى فيها العمل مع 45 مخرجاً ومخرجة سينمائية، من خليجيين مواطنين، ومقيمين، ومخرجين عرب وغير عرب، بما يتكامل مع هوية المهرجان، وأهدافه، وغاياته، في الانتقال من كونه مجرد «منصة عرض»، لأفلام، إلى مساهم ومشارك في تأهيل أجيال قادمة من صنّاع الأفلام.


إعلان