“التجلي الأخير لغيلان الدمشقي”.. يعود إلى القاعات

“التجلي الأخير لغيلان الدمشقي” ، هو اسم الفيلم الأحدث للمخرج هيثم حقي، ورغم انه ليس حديث الإنتاج 2008 ، إلا انه مازال يعتبر الأحدث ، لأن هيثم حقي من حينها متوقف عن الإخراج السينمائي ، بينمامازال ناشطا في كتابة السيناريو، وكلنا يذكر له فيلم “الليل الطويل” الذي كتب السيناريو له، بينما قام بإخراجه حاتم علي .  

تدور أحداث فيلم غيلان الدمشقي، الذي يلعب بطولته فارس الحلو ، وكنده علوش وغيرهم، حول سامي، الشاب في مقتبل العمر رغم انه يبدو هرما ظاهريا، يعمل موظفا في مديرية الصحة رغم عدم انسجامه معها، يهوى تربية الطيور والاهتمام بالنباتات، وليست لديه ميول أخرى سوى ممارسة الأكل بشراهة . يعيش غيلان الدمشقي  المفكر الإسلامي في ذهن وعقل هذا الشاب الطامح لنيل درجة الماجستير، ورغم أنه فقد والدته، القريبة الوحيدة  المتبقية له ، إلا أنه لم يشعر بالحزن الكافي تجاهها أو هكذا بدا لنا، فهو يعيش بعيدا عن ارض الواقع وفي ملكوته الخاص الذي رسمه لنفسه وارتضاه كمكان يهرب إليه من عالمه الذي لا يتوافق معه، فقد احتل غرفة والدته اثر وفاتها مباشرة، واستمتع بالرقاد على سريرها المريح الذي طالما تمناه ولكنه اكتشف على الفور انه ليس مكانه المريح الذي طالما حلم به  فمن هنا سيراقب ويكتشف أن جارته في السكن تعمل كعاهرة بشكل إجباري لإرضاء زوجها المقامر ، مع ذلك لم يستطع أن  ينبث ببنت شفه عما رآه. ورغم أنه على  الجانب الآخر من هذا العالم ( الحي الذي يسكنه) ، جيران محترمون يحيطونه عطفا وحبا، إلا انه لم يتمكن من الاستحواذ على قلب ابنتهم التي يطمع أهلها بعريس ثري لها، بينما هي متعلقة بشاب آخر يشاركها ميولها السياسية والثقافية، واكتفت بجعل سامي أخا كبيرا لها ، فما كان منه إلا أن ساعدها على الهرب، رغم معرفته بأن تلك الفعلة ستحمل له وابلا من المشاكل وسوء الفهم والعناء النفسي . سامي الخائف والمتردد وصاحب الشخصية الانطوائية ، وجد في  غيلان الدمشقي ، حلما يستنجد فيه كلما ضاقت الحال به .
وغيلان الدمشقي كما تذكر كتب التاريخ الإسلامي هو  منظر للفكر السياسي العربي في فترة التأسيس الإيديولوجي في الدولة العربية الإسلامية ، ه أول المبادرين إلى “ثورية فكرية” في زمانه حيث كان يرفض احتكار السلطة من طرف فئة واحدة، مشترطا إجماع الناس واختيارهم الحر لتولي الحاكم، وكان يدعو لمفهوم العدل الإلهي ، الذي لم يحظ بترحيب من  الحكام الأمويين حيث كان يقول الوليد بن عبد الملك ” لا ينبغي لخليفة أن يَناشَد أو يكذّب ولا أن  يسميه أحد باسمه…”(1)

دفع غيلان الدمشقي حياته ثمنا لمعتقداته وآرائه وأفكاره، وكذلك كان مصير بطل الفيلم، الأول قتل حين تحالفت السلطة السياسية مع السلطة الدينية  لتصفيته، بينما الأخر قتله خوفه من ذلك الانفصال ما بين واقعه الذي يحياه وبين عالمه الذي يحلم به والذي يرتقي لمصاف فكر وفلسفة غيلان الدمشقي.

هيثم حقي

إن اختيار هيثم حقي لإعادة إحياء تلك الشخصية الرمزية في التراث العربي الإسلامي ليس بالأمر الاعتباطي وخصوصا كون ذلك الرجل لم يأخذ نصيبه من البحث في عتاريخنا المعاصر، وقد يعود  السبب للإشكالية التي تدور حول مبادئه التي يرفضها تيار برمته، بينما يتبناها تيار آخر ،ولكن كلا التيارين مؤثر وفاعل في حياتنا المعاصرة ، تيار القدرية وتيار الجبرية، الأول يؤكد على قدرة الإنسان على الإرادة والاختيار،  بينما الآخر  ينفي وجود أي دور للإنسان في أقواله وأفعاله ، ثم إن اختيار هيثم حقي لتلك الطريقة غير النمطية لتقديم الفيلم، وعرض الشخصية  بشكل غير تقليدي وغير مباشر، يعتبر أمرا موفقا ويحسب له، خصوصا في لحظات الربط السلس والمنسجم ما بين الماضي ” غيلان الدمشقي” والحاضر “سامي” الذي يمثل المثقف المنهزم عاطفيا وسياسيا   .
لم يُقّدر لهذا الفيلم أن يرى النور سوى مرات معدودة، منها حين عرض في سينما الكندي بدمشق عام 2008 ، ومرة أخرى منذ أيام قليلة، حين عرض في إحدى صالات السينما بحلب، ولكن يبدو أن هذا الفيلم سيرى النور أخيرا، كما أخبرنا المخرج هيثم حقي الذي أكد أن الفيلم حصل على الموافقة الرسمية للعرض بدمشق.

(1) الشهرستاني, الملل والنحل ج1ص148
(2) اليعقوبي, تاريخ اليعقوبي ج2 ص290


إعلان