عنف مركب ومجهول”في عالم أفضل”
يتخذ الفيلم الدنمركي “ في عالم أفضل”، المتوّج بأوسكار أفضل فيلم أجنبي لهذا العام، ذريعة جنوب السودان ليشرّح أسباب العنف والعنف المضاد، الذي تعيشه بعض المجتمعات الحديثة، وهو يقدم من خلال دراما عائلية اجتماعية قراءة مبسطة في تصاعد العنف في المجتمع الدنمركي بالارتكاز إلى وسائل الاتصال الحديثة التي تمثلها هنا خير تمثيل الشبكة العنكبوتية، بمالها من تأثيرات على الجيل الجديد الذي لم يعد يعرف وسيلة للمعرفة سواها .
نحن نقف أمام طبيب سويدي مقيم في الدنمرك ولايعرف وطنا له سوى هذا البلد، ويعيش العنف الاجتماعي والسياسي عبر تقديمه لحالتين : الحالة الأولى حين نشاهده في الجنوب السوداني يعيش في مخيمات للاّجئين ويقوم بتقديم الرعاية الطبية ضمن الامكانات المتاحة التي يؤمنها هذا المعسكر الطبي . ولا يبخل بها حين يمكنه ذلك، أو حتى حين يبتدع ” معجزات ” طبية في علاجه لبعض الحالات، بما يمليه عليه واجبه الانساني . في مقابل هذا العنف اليومي الذي يمثّله هنا ” الزول الضخم ” المقيم في ذاكرة كثر من أهل هذا المخيم باعتباره وحشا آدميا، لا يتوانى عن قتل نسائهم الحوامل عبر المراهنة بالمال على هويات الأجنّة وشق بطونهن للتأكد من ذلك، سوف نجد عنفا من نوع آخر متصاعد في البلد الذي يقيم فيه اقامة نهائية، ونقصد هنا الدنمرك، فابنه “ إلياس” يعاني من ضغوطات نفسية شديدة في المدرسة التي يدرس فيها جراء تعرض “سوفوس” له هو وعصابته، بشكل يومي ونعته بأقبح النعوت كونه سويديا، عادة ما تنتهي هذه التحرّشات بضربه على يد أفراد هذه العصابة المدرسية، حتى أن ادارة المدرسة هن

ا تنحاز إلى “سوفوس” تقريبا وتحاول إلقاء اللوم على “ إلياس”من خلال الحديث عن عزلة يعيشها الفتى المهاجر، والتركيز على مشاكل عائلية يعيشها والداه جرّاء انفصالهما عن بعضهما البعض، وهو ما ترفضه والدة إلياس، الطبيبة المقيمة في إحدى المستشفيات الدنمركية رفضا قاطعا، مؤكدة أن الادارة تتستر هنا على سوفوس ” المختل الصغير، صاحب العصابة الاجرامية “. سوف تتغير موازين القوى في المدرسة مع رجوع الفتى الدنمركي “ كريستيان “من لندن بعد وفاة أمه جرّاء مرض السرطان، وسيصبح تلميذا في نفس غرفة الصف التي يدرس فيها “ إلياس “، لا بل وسيقاسمه المقعد ذاته، باعتبار أنهما مولودان في اليوم ذاته، وسط سخرية شديدة من تلامذة الصف، لأن “كريستيان” سيقاسم ” الجرذ السويدي”المكانة ذاتها، ما يعني إهانة غير متوقعة للعنصر الدنمركي . كريستيان صاحب نزعة عدوانية مشرّشة فيه، فهو لا يكف عن تقريع أبيه بسبب وفاة أمه، ويعتبره مسؤولا عن ذلك، وبأنه كان يرغب فعلا بموتها، وهذا يدفع به ليصبح أكثر عزلة عن محيطه، وإن كان سيمد بيد العون إلى “ إلياس”حين يقوم بمهاجمة سوفوس وادمائه في حمامات المدرسة العمومية، الأمر الذي يكف يده نهائيا عن الفتى السويدي، وهو ما سيزيد من توطيد الصداقة بينهما .
سوف تركّز المخرجة الدنمركية سوزان بيير في بناءات متوازية للأحداث على رسم خطوط هذا العنف، ومحاولة توضيح محاوره الأساسية، في بلدها الدنمرك، وستبدو أنها مأخوذة تماما، أو مسحورة بأداء “ كريستيان “، وهذا بدا واضحا تماما، فالفتى يمتلك طاقات تمثيلية واضحة وجلية، وهو بوسعه أن يعكس كل ماتريدها منه، بل إن ظهوره منذ اللقطات الأولى التي تلي معسكرات دارفور الطبية حرفت الفيلم عن مساره، فهو يشكل عالما قائما بذاته من طريق تلوين عالمه الداخلي بانفعالات حادة وطبيعية، وهذا يحسب بالطبع للمخرجة بيير، ولكن هذه البناءات المتوازية في كشف أسباب هذا العنف تخون المخرجة الدنمركية قليلا، اذ لايبدو أنها مهمومة مثلا بتشريح وقائع هذا العنف ومسبباته في الأزمة السودانية، بل إنها تتخذ من مسرح الأحداث في الجنوب شكلا من أشكال الخلفيات النمطية في رواية أحداث تعج بالعنف والغنف المضاد من خلال التهويل بهذه الأحداث، من دون مطالعة الأسباب الكامنة في كل مايدور على خلفية هذه الكليشيهات، فهنا بشر يتقاتلون دون معرفة الدوافع التي أفضت بالجميع إلى هذه النهاية المأسوية، حتى أن ” الزول الضخم ” يقصد المعسكر لمعالجة ساقه المهددة بالقطع، جرّاء أصابتها وتعفنها، ويقوم أنطوان بتقديم العلاج له بوصفه الطبيب لا الصديق، فهو يرفض عرضا بالصداقة قدمه له هذا الوحش الآدمي، ثم يطرده في لحظة شجاعة محلقة من المعسكر الطبي حين يتعافى تقريبا ويطلب من أحد أتباعه الاعتداء جنسيا على فتاة ميتة كان الطبيب السويدي يحاول أن يقدم لها الاسعافات اللازمة . مايقوم به “أنطوان”، هنا لا يختلف كثيرا عما يقدمه في الدنمرك ،حين يخفق باستعادة قلب زوجته الطبيبة “ماريان “، ولكنه ينجح بتقديم درس عن التسامح مع الآخرين حين تهب رياح التعصب للهويات الصغيرة، مع هذا الهبوب الكوني على الهويات الكبيرة .
حين يقرر الانسان اقتسام مابقي من اثنيات وأعراق على حساب النوع الانساني الذي بات يشكل تراجعا في قدرته على حسم مصيره والتأكد من درجات ثباته وتلونه . ينجح انطون بذلك تماما حين يقوم عامل دنمركي أخرق بصفعه ومطالبته بمغادرة الدنمرك إلى وطنه الأم،ولا يرد له الصفعة وهذا مالايفهمه ابنا “أنطوان “، ولا”كريستيان” ما يدفع بهذا الأخير للتخطيط للثأر منه، فيقرر تفجير سيارته عن طريق تصنيع قنبلة من مخلفات بارود وجده في قبو بيت “إلياس” . ينجح “كريستيان” في تفجير السيارة، ولكنه يكاد يودي بحياة “إلياس”، لأنه تدّخل في اللحظات الأخيرة لينقذ أما وابنتها صدف مرورهن من هناك لحظة التفجير . تدور تحقيقات الشرطة حول شيء أساسي وواحد، فهم مصممون على معرفة الجهات التي زودت “كريستيان”بمعلومات عن تصنيع القنبلة، وهي الجهات المتحصنة بالشبكة العنكبوتية، فينفي “كريستيان”وجود مجموعات بعينها، ويؤكد أن هذه المعلومات متوفرة على هذه الشبكات بشكل ميسر وسهل .

تنجح المخرجة الدنمركية سوزان بيير، في تشريح أهم النقاط المتصاعدة في بناء العنف النفسي والاجتماعي الذي يعيشه المجتمع الدنمركي . تقدم قراءة واضحة المعالم في أهم المكونات النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تدفع هذا المجتمع المسالم والمنفتح والمحدد الهوية نحو الانزلاق في عالم من العنف لايسوده سوى الرعب من الآخر، ومن هويته المتشكلة والمتجذرة وإن في مجتمع للغير، ولكنها تخفق تماما، حين ترسل ب”انطون” إلى الجنوب السوداني في معرفة هويات الأشباح الذين يتقاتلون هناك . لاتقول شيئا عن مكوّنات هذا الصراع، وتختصره بوجود وحش آدمي وعصابات قتل، من دون معرفة الخلفيات التي جاءت منها هذه الأشباح التي تذروها الرياح في اللحظات الأخيرة، حين تقرر نفي حالاتها في رمال المعسكر الصحراوي المجهول .
“ في عالم أفضل”فيلم بمنعرجات إنسانية شديدة الخفق والبوح، ولكنه غير مكتمل لجهة تحديد ملامح وهوية عنف لايقل وحشية وتكسيرا للانسان المعذب، حتى وإن اكتسى بشرة غير بشرته، وجلدا غير جلده، وإن حظي بأوسكار أفضل فيلم أجنبي لهذا العام، فإن هذا لايخفف من الاشارة إلى الجهل الذي لحق بمعرفة الأسباب التي دفعت بكل هؤلاء للتقاتل واقتسام الضعف الانساني على مرأى من بصر الشاهد و القاتل والقتيل .