شجرة اللاشيء في رحلة كياروستامي

 في فيلمه الأخير” نسخة طبق الأصل” يبدو المخرج الايراني عباس كياروستامي أمينا لفكرته عن مراقبة العالم عبر سيارة متحركة . لقاء جولييت بينوش الأول مع وليم شيمل يمر عبر هذه الواسطة المتنقلة . لايقوم الممثلان” الغريبان” عن عوالم كيارستامي بالتلصص على مقومات الشجرة العارية باعتبارها النسخة الأصل كما في الفلسفات الشرقية القديمة، ولكنهما يعكسان تدفق الأفكار الذي يؤمن به المخرج، فالسينما بمقدورها أن تكون حركة، وهي حركة ذهنية ومادية تقوم على استدراج المشاهد في رحلة خارج الفيلم، في رغبة مايسميه المخرج اقتناص اللاشيء .
الآن تبدو أفكار عباس كياروستامي أكثر نضوجا، بعد أن وسم الشعر الصافي الحر تجربته، ومنح أبعادا اضافية للصورة التي بحث عنها في أفلامه السابقة .  كان دائم التقليب في بطانة أفكار جديدة لم تكن تكتمل إلا لحظة اضاءة المكان، وهو من خلال الاستقواء بالحركة، كان دائما يتغلب على ما هو مستنسخ وأصلي مما يعرض أمامه من أفكار سينمائية، وربما هنا يكمن سر فيلمه الأخير الذي يمثل تقليبا وبحثا عن الأفكار التي لا يمكن تصيدها إلا من تلك الزوايا الهامشية الأتي لايعرفها سوى مخرج مثله .
بهذا المعنى كياروستامي يمثل طائفة نادرة من الأفكار المتأججة، من الصعب متابعتها عند مخرج آخر، إذ تبدو أحيانا مهمة اقتناص اللاشيء، مهنة إضافية عنده تودي في نهاية المطاف إلى السينما التي يحب مشاهدتها، ويحب صناعتها، حتى لو افترض جدلا أنه يقيم دائما في الجانب المظلم من العالم، إلا أن اضاءة اللاشيء الذي يبحث عنه في قرارة أعماقه تغير من حصن المساءلة النقدية، وتكف عنه شر السؤال . مايعني أن كياروستامي يمثل في أفلامه كلها انسيابا حرا للفكر، ولجماليات الأحاسيس المتوارية خلف الصور التي يجيد رسم ابعاد اضافية لها وتثويبها باللمعان والقدرة على صناعة السؤال من خلال مغادرة المكان نحو اكتشاف مكان آخر، لايبدو مهما في السياق حين يقدر له أن يكون هو” اللاشيء” الذي يبحث عنه من خلال تأمين رحلة خارج الفيلم .
تبدو رحلة كياروستامي في مخيم فلسطيني قبل ثماني سنوات” أتأملها من زاوية مختلفة وليس كما حدثت” مثل رحلة مقدرة نحو هذا اللاشيء، وخارج السينما في آن . ربما تعطيها الكتابة الآن معنى مختلفا لم يكن ممكنا العثور عنه حين طلب زيارة المخيم . هي بالتأكيد رحلة مختلفة، لا تشبه رحلات من طلبوا من قبل زيارة مخيمات فلسطينية مختلفة، فكياروستامي الذي كان يسير في أزقة مخيم اليرموك القريب من دمشق، كان يبدو مثل منوّم مغناطيسي لا يعبر فيها من طاقة الزمن التي يجيد النظر منها حين يقرر صناعة فيلم من أفلامه . ربما تهيأ حينها خلال الاقتراب من مكان له خصوصية في الذاكرة الانسانية المطفأة من اللقطات التي يحب تكويناتها، ولكنه كان يغادرها، باعتبارها الجانب المظلم في الحكاية، هكذا بدا في رحلته غير المتكررة، فهو يعرف كيف يقرب أبطاله من أفلامه ويبعدهم حين لايجيدون مثله القدرة على التأمل، وحين يقتادهم من شعورهم في المغارات المفتوحة على تدفق أفكار لا ينضب، فهي تتوالد دائما أمامه، ويكفي أن يشع منها مقطع شعري صغير حتى يؤمن كياروستامي لنفسه فكرة فيلم قادم .

كياروستامي في المخيم

قراءة أخرى في معنى طلب الزيارة قد لايضيف شيئا إلى السيرة الذاتية لصاحب” طعم الكرز”، فالمخرج كان ربما بعكس مرافقيه” أنا ومصوره سيف الله صمدايان” لا يفكر سوى بشحن قدراته على تخيل ماهو معصوب تحت العين، فقد بدا وهو يسير على قدميه  وقد صمم لنفسه نافذة سيارة متخيلة ينظر من خلالها إلى الأشياء المتحركة من حوله . كان كل شيء ثابتا في مطرحه لا يتزحزح، كأنه ينتظر وضع نهاية منطقية ومقبولة لحوار مع أشياء غير مجدية ولاتصلح للسينما، فهو لا يستطيع وضع تصورات لأفلامه بالكلمات، بل من خلال مراقبة عناصرها المكونة لها . هذا لايعني بالطبع أن كياروستامي كان مشغولا حينها بوضع تصور عن فيلم مقبل، بل كان مشغولا بممارسة هوايته الأثيرة في” مغازلة” اللاشيء واقتناصه من مسافة قريبة .
هواية مختلفة لايمارسها مخرجون كثر . ربما هو وحده من يقرر ذلك، فإذا كان يلفق أبطالا لأفلامه، كما فعل مع حسين سابزيان الذي كان مهتما في فيلم” كلوز – آب” بأن يصبح المخرج محسن مخملباف، ليواصل مخادعة عائلة ايرانية، فإنه غدا مخملبافيا أكثر من مخملباف نفسه، الذي لم يعد مهتما بأن يكون كذلك بعد أن حصل على سيرته الذاتية، واستكمل شروط الانتساب إلى العائلة الايرانية المنتظمة بوصفه المعبود لها ، فيما ظل اللص الحقيقي حسين سابزيان لصا بنظر هذه العائلة  بوصفه العبد” للشجرة العارية”.يشكر كياروستامي الدراجة النارية لأنها سمحت في نهاية الفيلم بأن يستقلها العبد والمعبود” محسن مخملباف وحسين سابزيان” في مشهد سينمائي خلاق . 
لم يتكلم في رحلته . كان صامتا، قلقا، يشكل لغزا لنفسه، فطلبه الزيارة ظل ملتصقا به من دون تفسير . حتى سؤاله عن القضية الفلسطينية ظل بدون اجابة . كل مافعله حينها لم يتعد شراء الأقراص المدمجة الخاصة بعبد الحليم حافظ، فهو قد أسرّ ببضع كلمات عنه مفادها أنه عاشق كبير لأغانيه . غير ذلك لم يقل شيئا عن السينما التي يؤلفها في خياله .
في رحلته الشخصية قبل ثماني سنوت كان كياروستامي يلفق لنفسه نافذة غير حقيقية ليعبر منها نحو الشجرة العارية، لكن العبور لم يكن ميسرا بعكس أبطاله الذين يمرون بسهولة  وينتقلون بين فلوات الصورة بحرية أكبر . في فيلم” سوف تحملنا الرياح” يغدو السؤال عن الشجرة العالية المنفردة محرما، فهناك الكثير منها فوق التلة العالية … وهي عالية، لأن كياروستامي يصبح أكثر قدرة على البوح، بأن هذا لن يؤدي بأحد إلى أي مكان . ومافعله في رحلته لايغدو أكثر من ملاحقة صارمة لآثار شجرة عارية لم تكن متوفرة بالمكان الذي قصده متعثرا وخجلا وغير قادر على ترجمته في صورة واحدة من دون أبعاد متوغلة فيها . أسئلته حينها لم تكن متولدة من نافذة السيارة المتخيلة التي لم تكن متوفرة في هذا الفيلم الواقعي المتولد من زيارة عابرة لمكان لن تعرفه عدسة كياروستامي لو جابته ثانية . ربما لم يرد الخروج من الجانب المظلم، فهو يعرف أحيانا أن الشاعرة الايرانية فوروغ فرح زاد قد سبقته مرارا إلى هناك حين تنشد :” الغيوم كجمهرة من نساء ناحبات،
         تنتظر ولادة المطر ..
        ثانية واحدة …ثم لاشيء
        وراء هذه النافذة الليل يرتعش
        والأرض تكف عن الدوران وراء هذه النافذة.
 


إعلان