كتاب “سينما كن لوتش”: تطور الأسلوب الفني

في السينما البريطانية الحديثة هناك اسمان صنعا المجد العالمي الذي تتمتع به تلك السينما العجوز، أو بالأحرى، أعادا تلك السينما إلى دائرة الاهتمام على الساحة الدولية، رغم اختلاف الرؤية والأسلوب والمعالجة.
الأول هو المخرج بيتر جريناواي Peter Greenaway صاحب “عقد الرسام” و”حديقة الحيوانات” و”الغرق بالأرقام” و”معدة المعماري” وكتب بروسبيرو”، غير أن فيلمه الأكثر صداما مع السائد كان فيلم “الطاهي واللص وزوجته وعشيقها” (1989) The Cook, the Thief, his wife and her Lover
هذا الفيلم الذي عرض للمرة الأولى في مهرجان فينيسيا السينمائي، كان بمثابة صدمة هائلة للذوق السائد، و”مانيفيستو” للتمرد الجمالي والفكري على طبقة اجتماعية تكلست، وأصبحت في حاجة إلى من يهز قناعاتها، ويقلب في تناقضاتها، ويستخرج كل أعراض نفاقها وغشها وانتهازيتها، إلى السطح لكي يعريها ويهتك أسرارها. وكان هذا تحديدا هو ما أقض مضاجع تلك الطبقة التي تحولت في عهد رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مرجريت تاتشر، إلى طبقة متوحشة، على استعداد لان تأكل كل شيء في طريقها دون أن تجد نفسها حتى مضطرة إلى تقديم تبرير أو تفسير. وكان هذا تحديدا ما يتناوله جريناواي في فيلمه هذا بكريقته الخاصة التي تبتعد عن الواقعية بقدر ما تقترب من السيريالية.
ولعل جريناواي مد هذه التجربة على استقامتها فيما بعد في فيلمه الآخر الأكثر قسوة “طفل من ماكون” Baby of Macon الذي يذكرنا بأجواء فيلليني في “ساتيريكون” ولكن على صعيد آخر، له علاقة بالتأكيد، بعالم شكسبير وإن جاء في قالب سينمائي خالص.

كن لوتش – كان 2006

أما السينمائي الثاني فهو المخرج الشهير كن لوتش صاحب الأفلام السياسية الملتهبة التي تصل في حدتها وهجائيتها للمؤسسة وللنظام الحاكم، إلى درجة الصدام المباشر أحيانا كما في فيلم “مفكرة سرية” (1990) Hideem Agenda الذي يوجه انتقادات قاسية للدور البريطاني في أيرلندا الشمالية، ويكشف الفظائع التي كان يرتكبها رجال المخابرات البريطانية في ترويع وتعذيب المواطنين.
وشأنه شأن بيتر جريناواي، لا يعتبر كن لوتش من المخرجين المحبوبين كثيرا في بريطانيا على الرغم من النجاح الكبير الذي تحققه أفلامه في المهرجانات السينمائية الدولية وعلى مستوى العروض العالمية خاصة في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، والسبب يعود بالطبع إلى أن أفلام لوتش الواقعي، مثلها مثل أفلام جريناواي السيريالي، أفلام مقلقة، تكشف وتعري وتفضح وتنتقد، وتجرح السطح الزائف للأشياء، بالإضافة بالطبع إلى قسوة ما تصوره، وقدرة مخرجها على الإقناع بواقعيتها الإنسانية التي يلعب فيها الأداء التمثيلي الرفيع دورا مباشرا.
توقفت طويلا أمام أفلام كن لوتش أخيرا، وراجعت البعض منها مثل “طائر العاسوق” و”تمطر حجارة” و”الأرض والحرية” و”الريح التي تهز الشعير” وغيرها، وذلك خلال مطالعتي لكتاب “سينما كن لوتش: الفن في خدمة الناس” The Cinema of Ken Loach: Art in the Service of the People الصادر في لندن من تأليف جاكوب لي، ويقع في 192 صفحة.
أفلام كن لوتش التي يعرضها الكتاب بالترتيب الزمني لظهورها، تتنع كثيرا بل وتختلف أيضا في الأسلوب والشكل، لكنها تتفق في اقترابها من المناطق السياسية الساخنة، وتناولها لموضوعات اجتماعية ذات صبغة سياسية مباشرة.
في مقدمة الكتاب يحدد المؤلف هدفين من وراء تأليف الكتاب هما “تقديم وصف لتماسك المضمون والأسلوب في أعمال كن لوتش، وتقديم بيان لتطور مساهمته السينمائية”.
ويعتبر الكتاب رحلة تحليلية في أفلام لوتش، مع التركيز بوجه خاص على أهمية تعاونه مع عدد محدد من كتاب السيناريو مثل جيم ألن وغيره، وبحث كيف تمكن لوتش من تطويع أفكار كتاب السيناريو الذين كتبوا أفلامه لأفكاره السياسية اليسارية المعروفة، دون أن يتنازل عن بحثه الشاق في تطويع الشكل ايضا، واللغة السينمائية، وتطوير الأساليب التي يستخدمها في السرد وفي تقديم الفكرة.
في الفصل الأول من الكتاب مثلا، وهو بعنوان “مقطوعات واضحة في الحفل الموسيقي” Clear Notes in the Concert، يتوقف المؤلف أمام عناصر محددة مثل الواقعية، السياسة، الميلودراما من خلال تحليل مشهدين فقط من فيلم “أغنية كارلا” Carla’s Somg الذي أخرجه لوتش عام 1996.
ومن خلال هذا الفصل يبحث المؤلف في الفكرة المؤرقة عند لوتش، وهي كيفية التعبير عن فكره السياسي، وفي الوقت نفسه، تقديم شكل فني ممتع يجذب الجمهور، وكيف يلعب الأداء التمثيلي السلس والطبيعي والمتدفق أمام الكاميرا دورا كبيرا بل وأساسي، في إضفاء الواقعية التي تقترب أحيانا من الطابع الوثائقي، على الفيلم، وتصل بالتالي إلى الجمهور، في حين أن الأداء التمثيلي المحكم، المعد سلفا، ربما يجعل المشاهدين يشعرون بالتكلف.
وفي الفصل الثاني “ماذا تفعل بالكاميرا” What to do with a Camera يناقش المؤلف في ثلاثة اقسام داخل الفصل، الأفلام الثلاثة الأولى التي أخرجها لوتش في الستينيات وهي “عند مفترق الطرق” Up the Junction و”كاثي تعود للبيت” Cathy Comes Home و”البقرة المسكينة” Poor Cow

كاتي تعود إلى البيت

ويدلل المؤلف على ابتعاد لوتش في تلك المرحلة المبكرة من مسيرته السينمائية، عن الواقعية أو المنهج الطبيعي الذي سيتوصل إليه لاحقا في مراحله الأكثر وعيا ونضجا، على ميل لوتش في تلك المرحلة إلى استخدام أسلوب التغريب البريختي المعروف خصوصا في استخدامه للأغاني والموسيقى، وكيف يقطع الغناء السياق السردي الدرامي، أو كيف تفرض الموسيقى نفسها فجأة لكي تمنع اندماج المتفرج مع ما يشاهده، وكيف كان يستخدم سياقا للسرد غير متناغم أو متصاعد، بل يصعد ويهبط، وهو كا يرى المؤلف، أنه أسلوب ناتج عن تأثير الفرنسي الشهير جان لوك جودار على لوتش.
ويبحث المؤلف أيضا في استخدام لوتش الأسلوب الوثائقي في المونتاج، واستخدامه التعليق الصوتي من خارج الصورة، وتقديم أرقام وإحصائيات على طريقة الفيلم التعليمي- وهي فكرة بريختية أيضا.
في الفصل الثالث “ملاحظة متعاطفة” Sympathetic Observation يقول المؤلف إن لوتش بعد تجربته التي لم تنجح في الاقتراب من آفاق الفيلم الشعبي أو الجماهيري في فيلم “البقرة المسكينة” (الذي يعتبر أول أفلامه للسينما: وما سبقه كان للتليفزيون)، اتجه مع منتجه توني جارنيت وجهة أخرى في فيلمه السينمائي الثاني “طائر العاسوق” Kes المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه صدرت في 1969.
ويتوقف المؤلف طويلا أمام هذا الفيلم، بل ويخصص الفصل بأكمله لتحليل كل جوانبه الفنية، راصدا كيف توصل لوتش إلى أسلوب خاص في التصوير بمساعدة المصور البريطاني الكبير كريس منجيز Chris menges الذي سيصبح فيما بعد مخرجا لامعا أيضا.
ويرصد المؤلف كيف يعبر لوتش في فيلمه هذا عن رسالته السياسية النقدية دون أن يلجأ الى الاسلوب المكشوف بل الى الاستخدام الموحي للرمز، ويستفيد من الجوانب الخاصة في الشخصية الرئيسية، بل ان الفيلم يعد على نحو ما أيضان دراسة تحليلية لحالة انسانية، مستخدما زاوية أحادية للنظر الى موضوع الفيلم لإضفاء الواقعية.
وفي الفصل الرابع وهو بعنوان “تجربة التاريخ” The Experience of history يتوقف جاكوب لي أمام العلاقة التي ربطت بين كن لوتش وكتاب سيناريو مثل جيم الن (الذي كتب له ستة من أفلامه، ثلاثة منها للتليفزيون). وجدير بالذكر أيضا أن جيم ألن هو مؤلف المسرحية الشهيرة بعنوان “الهلاك” The Perdition التي كانت تكشف بالوثائق التاريخية، كيف باع بعض زعماء اليهود الأثرياء، أغلبية يهود المجر لحساب النازيين مقابل السماح بهجرة عدد محدود من اليهود الصهاينة إلى فلسطين. وقد ذهب مئات الآلاف منهم إلى معسكرات الابادة النازية بمباركة الزعماء الصهاينة، وهذه المسرحية تحديدا جاءت شهرتها أو ذاع صيتها بعد منع تقديمها على مسرح الرويال كورت في لندن في 1987، بعد تلقي المسرح تهديدات بتفجيره بالقنابل من قبل جماعات صهيونية متطرفة، كما هوجمت ومنع تقديمها في مهرجان ادنبره للمسرح. وقد تناولتها بالتفصيل في كتابي الأول “سينما الهلاك” (الذي يستمد عنوانه من تلك المسرحية تحديدا). وقد أخرجها كن لوتش للمسرح. وقد عرضت لمدة أربعة أيام فقط في قاعة صغيرة تم استئجارها ولاقت هجوما شديدا في الصحف البريطانية الخاضعة للنفوذ الصهيوني، وخاض مؤلفها ومخرجها، حربا حقيقية من أجل الدفاع عن وجهة نظرهما.
وجدير بالذكر أيضا أن الموقف السياسي المتقدم لكن لوتش من ممارسات إسرائيل بلغ قمته عندما رفض المشاركة في مهرجان إدنبره 2009 إلا إذا أعاد المهرجان منحة مالية كان قد حصل عليها من إسرائيل مقابل دعم تقديم عرض إسرائيلي، وذلك احتجاجا على الحملة الإسرائيلية العسكرية على غزة.
عودة إلى الكتاب، إلى الفصل الخامس، وهو بعنوان “الأهمية والموضوعية” Signifigance and Objectivity وفيه يبحث المؤلف في الأسلوب الواقعي لكن لوتش، ويحلل أصوله التي تكمن أساسا في السينما الوثائقية، وكيف تمكن من خلق علاقة بصرية وثيقة بين الخيالي وغير الخيالي في أفلامه، وبتركيز خاص على تجربة لوتش في فيلم “حارس اللعبة” Gamekeeper (1980) وتعاون لوتش فيه مع الكاتب باري هاينز، والمصور كريس منجيز، ويحلل المؤلف طريقة عمل لوتش في هذا الفيلم من الناحية السينمائية، فيتوقف أمام استخدامه اللقطات البعيدة، والاضاءة المحدودة وحركة الكاميرا،وهو الأسلوب الذي سيكرره في فيلمه التالي “نظرات وابتسامات” Looks and Smiles (1982). وبعده أخرج عددا من الأفلام الوثائقية الى نهاية عقد الثمانينيات، ومنها استفاد كثيرا بلاشك في تطويع تقنية الفيلم الوثائقي لخدمة أفلامه الروائية التالية.

من فيلم الأرض والحرية

في الفصل السادس والأخير “قطع في قلب ما يحدث” Cutting to the Core of What’s Happening يتناول المؤلف الأفلام الكثيرة المؤثرة التي أخرجها لوتش في التسعينيات بدءا من “مفكرة سرية” ثم “ريف راف” Rif Raf و”تمطر حجارة” و”ليدي بيرد.. ليدي بيرد” Ladybird.. Ladybird ثم “الأرض والحرية Land and Freedom الذي يعد أكثر أفلام لوتش جرأة وتعبيرا عن رؤيته السياسية بل وانعكاسا لتصوره السينمائي الخاص بخلق دراما تقوم على المشاركة الجماعية وإن حاول أن يربط خيوطها باستخدام قصة فردية يتشابك مصري صاحبها مع المصائر الأخرى لشخصيات متنوعة جاءت من بلدان مختلفة وشاركت في فيالق المناضلين خلال الحرب الأهلية الاسبانية، وعانت من التناقضات الداخلية والانشقاقات المذهبية التي كانت سائدة وقتذاك.
يتميز الكتاب بغزارة المعلومات التي يقدمها، لكن أهم ما يميزه وضوح الرؤية والمنهج والهدف، وقدرة مؤلفه، المحاضر في جامعة لندن، على تقديم تحليل تفصيلي رصين وممتع، وتطرقه إلى الجوانب الجمالية والأسلوبية في عمل كن لوتش، بحيث ينجح تماما في تقديم صورة متناغمة لتطور مسيرته السينمائية رغم أنه، بكل أسف، لا يلحق بالأفلام التالية المهمة التي أخرجها لوتش في السنوات الأخيرة، وبات الكتاب بالتالي في حاجة إلى طبعة ثانية مزيدة، تلم بكل ما حققه هذا المخرج المرموق.


إعلان