الكذبة التي نعيش

هل السينما اليوم هي فعلاً أفضل منها في أي وقت مضى؟
 
محمد رُضا

حين خرج فيلم عبّاس كياروستامي، الذي سيعرضه مهرجان الخليج قريباً بإتاحة الفرصة أمامه وأمام الراغبين من الطلاب، للحديث عن مفهومه للسينما وطريقة عمله في حلقات مغلقة، الأخير “نسخة مصدّقة”، بدا لكثيرين منّا أن الفيلم الأول لكياروستامي يحققه في الغرب، برهان جديد على ألمعية وعبقرية المخرج الإيراني المعروف، الذي  يمحور فيلمه ويبنيه على شخصيّتين تتلاقيان في يوم جميل في بلدة إيطالية  تتبادلان حديثاً مكهرباً، وأحياناً غامضاً، حولهما منتقلين من عدم معرفة كل منهما للآخر، الى افتراض تلك المعرفة ومحاولة سحب خيوط شخصية تؤكد تلك المعرفة.
وأكون مبالغا لو ادّعيت أنني أعرف تماماً المقصود من وراء ذلك الوضع الافتراضي المعبّر عنه بطن من الحوار. لكني لست كاذباً إذا أشرت لأولئك المعجبين بالفيلم (وبكياروستامي عموماً) بأن المخرج رتشارد لينكلاتر قدم، فيما قدّم من أفلام جيّدة، عملين مُصاغان بالطريقة ذاتها.

عباس كياروستامي مع بطلي الفيلم جوليات بيروش وويليام شيمال

 الأول “قبل الشروق” (1995) (انظر ملاحظات  على كل العناوين الواردة في آخر الصفحة) الذي سرد فيه حكاية التقاء كاتب (نعم كما الحال في فيلم كياروستامي اللاحق) ومعجبة (تماماً) في ظروف مشابهة، لكن في باريس. الثاني “قبل المغيب” (2004) وهو تكملة للأول حول هذين الشخصين بعد مرور كل هذه السنوات بينهما وشعور كل منهما بعمق تلك الصداقة على انقطاعها.
لماذا فيلما لينكلاتر أفضل؟ بسبب كتابتهما من القلب وبسبب كون ممثليهما (الفرنسية جولي دلبي وإيثان هوك) ينجحان في إشراكنا فيما يتحدّثان فيه ويطرحانه طوال الوقت، وهذا ليس مرجعه سوى مخرج يعرف ما عليه الحصول عليه في حكاية تبدأ وتنتهي في ظرف يوم واحد.
لماذا لا يذكر النقاد الأجانب أو العرب شيئاً عن هذين الفيلمين المشابهين السابقين لعمل المخرج “الأعجوبة” كياروستامي؟ لأن معظمهم اليوم إما وُلد حين وُلد الكومبيوتر والسينما لديهم تبدأ من تاريخ بدايتهم الكتابة، أو لأنهم ببساطة لم يشاهدوا هذين الفيلمين.
لكن كياروستامي ليس وحيداً في هذا التقدير الأعلى من المُستحق. كثيرون هم المخرجون الذين يُحاطون بهالات كبيرة هذه الأيام لكن مستوى عطاءهم لا يبلغ الحد الكافي من تبرير هذا الإعجاب المتمادي. والمرء يشعر أنه مندفع لتحديد الأمور لعل هناك من يتساءل مثله عما حدث للسينما؟ هل من الممكن أن يكون فيلم “العم بونمي الذي يستطيع تذكّر حياته السابقة” (الرجاء عدم قراءتها “حيوات” لأن لسان العرب وباقي كتب التراث خالية من هذه اللعبة اللغوية غير الصائبة) لأبيشتابونغ ويراثاكول تحفة كما أفتى به نقاد اليوم؟ وهل “إبن بابل” (او “أبن بابل” كما كُتب أسمه على الشاشة) هو بهذه الدرجة من الروعة كما أبحر النقاد العرب في وصفه؟
حين يقول ناقد (او هذا ادعاءه) أميركي أمام ملايين المتفرّجين أن “نسخة مصدّقة” هو أفضل فيلم شاهده في العام الماضي، او أن دور جولييت بينوش فيه “أفضل أدوارها كلها”، الا يجوز أن يطلب المرء طبيباً ليفحص هذا الإدعاء؟ وحين يكتب بريطاني عن فيلم  “ذهب، يا حبي ذهب”: “كايسي أفلك مذهل في شخصية باتريك” و”بينما السيناريو الرائع “يفرقع” بحوار عظيم ويخضع المشاهدين للانجذاب نحو قصّة متشابكة بطرق غير متوقّعة” … ألا يجعلنا هذا نتساءل عما ترك هؤلاء النقاد لسينمائيين كبار من آيات إعجاب إذا ما كانوا مبهورين بهذا القدر مع المجموعة الجديدة؟

لا أسعى لفرض رأي ما، فالنقد ليس مسألة رأي ورأي مضاد، بل مسألة حقائق. أكاد أقول أن الناقد لا رأي له، بل لديه حقائق يبني عليها مواقف وقدرات تمييز تصاحبه أينما ذهب. لكن لتبيان ما أقصد، سأسرد عناوين عشرة أفلام أنتجت سنة 1961، أي قبل خمسين سنة، لعل الفوارق بين ما احتل مكانته في تاريخ السينما وبين تلك الأفلام التي أبهرت البعض تتحدّث عن نفسها.

Viridiana – Luis Buneul | فيفيراندا  إخراج: لويس بونييل (المكسيك).
West Side Story- Robert Wise | قصّة الجانب الغربي- روبرت وايز (الولايات المتحدة)
The Last Year at Marienbad- Alain Resnais | العام الأخير في مرينباد- ألان رينيه (فرنسا).
Cleo From 5 to  7- Agnes Varda | كليو من الخامسة للسابعة- أغنيس فاردا (فرنسا)
Splendor in the Grass- Elia Kazan | رائع على العشب- إيليا كازان (الولايات المتحدة)
A Taste of Honey- Tony Richardson | مذاق العسل- توني رتشردسون (بريطانيا)
Yujimbo- Akira Kurosawa | (اليابان)
La Notte- Michaelangelo Antonioni| الليلة- مايكلأنجلو أنطونيوني (ايطاليا)
Il Post- Ermanno Olmi | البوسطة- إرمانو أولمي (إيطاليا)
 Underground USA- Samual Fuller | تحت الأرض، أميركا (الولايات المتحدة)
 

يوجيمبو لأكيرا كوروساوا

وهذا اختيار عشوائي، لأنه في مطلع الستينات كانت هناك أفلام للتشيكي كارل رايز، البريطانيين ألفرد هيتشكوك، مايكل باول، ديفيد لين، جاك كارديف، رونالد نيم، للهنديين مرينال سن ورتويك غاتاك، ساتياجيت راي، للمصريين صلاح أبوسيف، يوسف شاهين، كمال الشيخ، عاطف سالم، للفرنسيين جان-لوك غودار، فرنسوا تروفو، جان كوكتو، جاك بيكر، كلود شابرول، جورج فرانجو، رنيه كليمان، للإيطاليين فديريكو فيلليني، ماريو بافا، لوكيانو فيسكونتي، فرانشسكو روزي، بيير باولو بازوليني، للأميركيين،  ستانلي كوبريك، جون هيوستن، فرد زنمان، جول داسين،  روبرت موليغن، روبرت ألدريتش، آرثر بن، أورسن وَلز. هذا من دون ذكر أندريه تاركوفسكي، ويازوجيرو أوزو وغلماز غونيه وكريس ماركر، جان- بيير ملفيل وإنغمار برغمن وجان ترول وسواهم كثر.
هل المسألة مسألة تواضع مفقود؟ ربما على صعيد المخرجين الذين يرقصون اليوم من دون دَف، لكنه الجهل المطبق من قبل خليط عجيب من ماسكي القلم وهو أمر مؤسف آثر الابتعاد عنه بالغروق أكثر وأكثر في السينما التي مضت وكان فيها العالم بأسره أفضل مما هو العالم اليوم. أعذروني.
ملاحظات
العناوين الأصلية للأفلام الأخرى التي وردت في هذا المقال:
Certified Copy- Abbas Kiarostami (France)
Before Sunrise- Richard Linklater (USA/ France)
Before Sunset- Richard Linklater (USA/France)
Uncle Boonmee Who Can Recall His Past Lives-Apichatopong Weerasethakul (Thiland)
إبن بابل – محمد الدرّاجي (العراق/ الإمارات/ بريطانيا …)
Gone, Baby Gun- Ben Afleck (USA
)
 


إعلان