الاستثناء، والقاعدة في الثقافة السينمائية العربية
يُشير الواقع الحاليّ (والسابق أيضاً) إلى افتقاد الثقافة السينمائية العربية للمجلات، والمواقع المُتخصصة على السواء، ماعدا استثناءاتٍ نادرة، ومنها “الحياة السينمائية”، المجلة الفصلية التي تصدر عن “المؤسّسة العامة للسينما” بدمشق، وما زالت تُقاوم الاختفاء بظهورها في فتراتٍ غير منتظمة، والأهمّ، تتخطى التطورات السينمائية العربية، والعالمية موضوعاتها، وخطتها التحريرية التي تغلب عليها الترجمات، وأكثر من ذلك، لا تُوزع خارج سورية مع أنّ القارئ العربي الهاويّ، والمُحترف بحاجةٍ إليها.
في الفضاء الافتراضيّ، هناك بعض المواقع، وأكثر منها المُدونات السينمائية الشخصية التي تنشطُ، وتتكاسلُ وُفق حماس أصحابها، وهي في كلّ الأحوال لا تُعوّض أبداً عن أيّ موقعٍ سينمائيٍّ شاملٍ، أو مجلة متخصصة.
رُبما يكون موقع “الجزيرة الوثائقية” الوحيد المُؤسّساتي الذي يتعامل مع المُشاركين فيه بطريقةٍ احترافية مُرضية (أيّ بمُقابلٍ ماديّ)، ولهذا السبب، يستقطبُ عدداً من الأسماء المُتفاوتة في الخبرة النقدية، وأعتقد بأنّ ملفاته الموضوعاتية أهمّ، وأفضل ما فيه بفضل اختيار تيمة معينة في كلّ مرة، والكتابة عنها من طرف بعض النقاد، والباحثين كلٍّ من زاويةٍ محددة يختارها الكاتب بنفسه (الفيلم الوثائقي العربي العودة إلى البدايات، الوثائقي بين العلم والفن، هوامش الفيلم الوثائقي، الإيديولوجي والجمالي في الوثائقي، الوثائقي والعولمة، الفيلم الوثائقي نظريات عالمية وتجارب عربية، …).
هذه الخاصية بالذات، التيمة، أو الملف، هي التي تمنح مجلةً اختلافها، موقعاً تميّزه، ومهرجاناً خصوصيّته، ومن تابع مسيرة “مسابقة أفلام من الإمارات” التي كانت تنعقدُ في أبو ظبي، يعرف بأنها انطلقت من فكرةٍ تخصصيّة تُجسّد رغبة مؤسسيها بإيجاد منصة عرضٍ محلية للأفلام الإماراتية تحديداً، حالما أثارت انتباه هواة السينما في الدول الخليجية المُجاورة، واستقطبتهم دورةً بعد أخرى، ولم يتباطأ هؤلاء عن اللحاق بزملائهم الإماراتيين، فأصابتهم عدوى إنجاز الأفلام، ومع ازدياد عددها، وتحسن نوعيتها نسبياً، تجمّعت في مسابقةٍ خليجية.
بالتوازي، ومنذ دورتها الثانية، كانت “المُسابقة” تُطعم برمجتها بأفلام عربية، وأجنبية تجمعها في برامج خاصة، أو في إطار تيمة مُعلنة (السينما التجريبية، سينما التحريك، هايكو سينما “الفيلم القصير جداً”، السينما الشعرية، سينما الطريق/الطريق في السينما)، وكلّ من تابع مسيرتها (حتى دورتها السادسة)، يشهد لها اهتمامها بطرح تيماتٍ استثنائية تتخطى بوعيٍّ سينمائيٍّ مُتقدم سهولة التجميع العشوائيّ، والتبسيطيّ، وتتعمّق بما يكفي في بحث تفاصيل جوانبها المضمونية، والشكلية.

ولكن، في بداية عام 2007 تغيّرت إدارة “المُجمّع الثقافي” في أبو ظبي (وتحوّل اسمه إلى “هيئة أبو ظبي للثقافة، والتراث)، وأول خطوة “ثورية” أقدم عليها المدير الجديد، مسح إنجازات الماضي تماماً (أغلق موقع “المُسابقة” الذي يُوثق 10 سنوات من تاريخها، وتاريخ السينما في بلدان الخليج)، ومثل الفطور السامّة، والأعشاب الضارة، ظهر من “يُطبطب” على كتفه (أو يمسح قماش جلابيته)، وينقل له تقارير مخابراتية عن “المُسابقة”، وليس في نعتي أيّ مبالغة، لأنني قرأت أحدها، كتبه واحدٌ من خبراء السينما العربية (هكذا يقول عن نفسه) بدون أن يتابع دورةً واحدةً من دوراتها السابقة، بالمُقابل، قدمت له إحدى شركات البزنس “الهرمية” دراسات جدوى لوغارتمية عن مشروع تأسيس مهرجان دوليّ، عالميّ، كونيّ عملاق يُنافس المهرجانات المريخية: كان، برلين، فينيسيا، ولوكارنو،…، فبدأ هذا / ذاك المدير الجديد (الذي لم يكن يعرف عن السينما أكثر مما تعرفه جدتي)، يمارس هوايته في صيد “المُسابقة” بهدف القضاء عليها تماماً (كانت النية واضحة، ومُعلنة منذ البداية، هذه آخر دورة للمُسابقة يا أستاذ “مسعود”، أنت شخصٌ عنيد).
لقد انطلقت فكرة تأسيس “مهرجان الشرق الأوسط الدولي” في تلك الأجواء القتالية، وبعد الانتهاء من الدورة السادسة للمُسابقة في مارس 2007، نجحت الإدارة الجديدة لـ”هيئة أبو ظبي للثقافة، والتراث” في الضغط الماديّ، والمعنويّ على مؤسّسها، ومديرها “مسعود أمر الله”، أوصلته إلى الاستقالة الطوعية.
كان المُفترض بأن تختفي “المُسابقة” من الوجود، ولا اعرف ما هي المُبررات التي أدت إلى تخفيف الرغبة في قتلها عمداً مع سبق الإصرار، والاكتفاء باختطاف مسارها السينمائيّ، التأسيسيّ، والتكوينيّ الخالص، وتسليم “عبد الله البستكي” إدارتها (كان واحداً من الطلبة الذين يتابعون “المُسابقة”، ولم يكن يظهر عليه نبوغاً، عبقرية فنية، أو طموحاً إداريّاً)، وخلال ثلاث دوراتٍ مُتعاقبة في سنتين (وهنا لا يوجد أيّ خطأ، وأقصد الدورة السابعة في فبرايرـ مارس 2008، والثامنة في أكتوبر 2008، والتاسعة في أكتوبر 2009)، أصبحت التظاهرة السينمائية الأولى، والوحيدة في تاريخ المهرجانات السينمائية التي تنعقد مرتين في عامٍ واحدٍ قبل أن تستدرك الإدارة العُليا فداحة النتائج الكارثية التي وصلت إليها، وفي إطار التغييّرات الشاملة التي طرأت على “مهرجان الشرق الأوسط السينمائي الدولي”، وتحوّله إلى “مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي”، تسلم الممثل، والمخرج الإماراتي “علي الجابري” إدارة “المُسابقة”، وهو بحقٍّ أكثر خبرةً، ونزاهة من سابقه “البستكي”، ويُعتبر واحداً من المُحاربين القدامى الذين رافقوها منذ بداياتها .
الأهمّ في تلك التغييّرات، بعد اندماج “المُسابقة” تماماً في “مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي”، اختفت كلّ البرامج العربية، والأجنبية المُوازية التي كانت تُصاحب دوراتها الستة، ولا أعتقد بأنّ واحداً من المخرجين الإماراتيين، والخليجيين الذين تابعوها يُنكر أهميتها، ومساهمتها في تطوير ذائقتهم، وثقافتهم السينمائية .
وعلى الرغم من تبني مهرجاناتٍ سينمائية عربية أخرى، مغربية بشكلٍ خاصّ، تيمةً تخصصية دائمة، أو سنوية، إلا أنها تكتفي ببرمجةٍ تبسيطيّة تجاوزت تاريخ صلاحيتها.
مازالت بعض المهرجانات الصغيرة، والكبيرة، تعلكُ تيمة المرأة في السينما، أو أفلام المرأة، وتتفاخر بجمع ما أُنتج في هذا البلد، أو ذاك من الأفلام التي أنجزتها المُخرجات (تنطبقُ فكرة التجميع هذه على معظم المهرجانات العربية، ويكفي لأيّ شخصٍ يجمع نسخ أفلام د. ف. د كي يصبح مديراً فنياً).
وما زالت بعض المهرجانات الصغيرة، والكبيرة أيضاً ترفع شعارات الأرض، الماء، السماء، والبيئة،…وتُلملم أفلاماً من هنا، وهناك كي تنجز دورةً إضافيةً، ويرتاح ضمير المُشرفين عليها.
وعندما يريد مهرجانٌ كبير (هذه المرّة) الافتخار ببرنامج يحتفي بالتجريب في السينما العربية، تفاجئنا النتيجة بتوقفه عند حدود “المومياء” لشادي عبد السلام، “اليازرلي” لقيس الزبيدي، وبالمرّة “إيليا سليمان”، بينما تُوحي بياناته بأنه يكتشف مجراتٍ جديدة.
ومنذ اليوم، والأيام بيننا، أتوقعُ بأن ترفع معظم المهرجانات السينمائية العربية القادمة (وحتى الأكثر فساداً في إدارتها) شعارات الثورة، وسوف نشاهد نفس الأشخاص “الفيسبوكييّن” الذين كانوا حتى ديسمبر 2010 يستعرضون بطريقة مَرَضية صورهم، قصصهم، حكاياتهم، وزهقهم، ويتحمسون حالياً للتغيّير، والإصلاح، والديمقراطية، يدافعون حتى العظم عن هذه مثل هذه المُبادرات الانتهازية المُعلنة قبل ستة شهور من تاريخ انعقادها المُؤجل(أيّ كان من المُفترض انعقاد المهرجان في يونيو، وتأجل إلى سبتمبر بسبب الأحداث التي تشهدها البلدان العربية).

وقبل الانتهاء من كتابة هذه القراءة، هاهو “المركز الثقافي المصري” في باريس (وبنفس إدارته السابقة) يعلنُ عن تكريم الروائي المصري “يوسف العقيد”، وتنظيم ندوة بعنوان “الأدب، والثورة المصرية 25 يناير 2011″، وحلقة سينمائية بعنوان “السينما، والثورة المصرية…”، تتضمّن عروض أفلاماً روائية طويلة للمخرج المصري “خالد يوسف” :
ـ هي فوضى، إنتاج عام 2007 (إخراج مُشترك مع يوسف شاهين).
ـ حين ميسرة، إنتاج عام 2008.
ـ دكان شحادة، إنتاج عام 2009.
وندوةً مع المخرج، يصاحبها عرض أفلام فيديو صُورت في ميدان التحرير، والمُلفت للانتباه، بأن بطاقة الدعوة تقدمه واحداً من شباب الثورة، وعلى حدّ معلوماتي المُستقاة من مصادر فرنسية تتحاشى المُبالغة، لم أقرأ كلمةُ واحدةً تصف المخرج “جان لوك غودار” بالشاب، أو السينمائيّ الثوريّ مع أنه كان واحداً من أكثر المُؤيدين، والمُشاركين في الانتفاضة الطلابية، والعمالية التي حدثت في فرنسا عام 1968، وقبل ذلك التاريخ، وبعده، ساهم مع مخرجي الموجة الجديدة بتغييّرٍ نوعيّ للسينما الفرنسية التي أثرّت بدورها على معظم سينمات العالم الفاعلة في تلك الفترة.
هذه المُبادرات المُتحمّسة، والحماسية التي بدأنا نقرأ عنها، سوف تُساهم عن قصدٍ، أو بدونه، في تفرّيغ الثورة من أهدافها الحقيقية، والنبيلة، وربما تُنسينا إنجازاتٍ سينمائية أكثر ثوريةً من أشرطةٍ يمكن أن توصل المتفرج إلى حالةٍ من الشبع، والاكتفاء.
أفلامٌ قصيرة، وطويلة، روائية، وتسجيلية ثورية في الشكل، والمضمون، تمّ إنجازها بوعيٍّ ثوريٍّ، ويكفي النبش في الميراث السينمائي المصري كي نتذكر “زمن السقوط” فيلم التخرج للمخرج “مجدي أحمد علي”، “حكاية ما جرى في مدينة نعم” لمحمد كامل القليوبي”، “حكاية الأصل، والصورة في قصة نجيب محفوظ المُسماة صورة” لمدكور ثابت، “المومياء” لشادي عبد السلام (الأكثر ثوريةً في جمالياته السينمائية، والاستثنائيّ في تاريخ السينما المصرية، والعربية)، “البحث عن سيد مرزوق” لداوود عبد السيد، “التلاقي” لصبحي شفيق، “شيء من الخوف” لحسين كمال، بدون إغفال المسيرة الثورية للمخرج “يوسف شاهين”.
كلّ هذه الأفلام، وغيرها، أنجزها مبدعون قبل 25 يناير2011، ورُبما تكون أكثر صدقاً من أيّ فيلمٍ لاحقٍ يدّعي الثورة.