الهولوكوست والأقدار وصعود وسقوط إنسان

بدأت علاقتي بأفلام المخرج السينمائي الأمريكي التسجيلي

إيرول مويس

Errol Morris قبل أكثر من 10 سنوات، وتحديدا بعد ان أخرج فيلمه المثير للجدل “مستر موت: صعود وسقوط فريد لوشتر” Mr Death: The Rise and Fall of Mr Fred Leuchter وكان موريس قد اخرج قبل ذلك فيلمه الشهير “الخط الأزرق الرفيع” The Thin Blue Line
بعد ذلك أصبح موريس معروفا بأسلوبه في الفيلم التسجيلي الذي يرفض كل التقاليد القديمة لهذا النوع من السينما، وبدلا من الارتكاز على فكرة أن الفيلم التسجيلي “يصور الحقيقة والواقع كما هو”، يستخدم أسلوبا يقوم أولا على شكل أو بناء فني درامي يحتوي على كل العناصر المثيرة والجذابة التي تجعل أفلامه لا تقل جاذبية عن أي فيلم روائي، كما يعتمد على أسلوب حداثي تجريبي جريء، يقترب من أسلوب التحقيق ولكن مع إضافة عناصر أخرى شكلانية من خارج الموضوع أحيانا لكنه تثري معرفتنا بالموضوع، وهو يطرح قضايا سياسية وأخلاقية وفلسفية في أفلامه بحساسية خاصة ويبتكر في طريقة إجراء المقابلات من خلال التقنية الخاصة التي ابتكرها والتي تكفل له تصوير الشخصية في مكان منعزل تماما (ستديو) بينما تحدق الشخصية في صندوق أمامها تكمن خلفه الكاميرا، لتفادي التحديق المربك في الكاميرا،  في حين يجلس موريس في غرفة أخرى يوجه الاسئلة إلى الشخصية التي لا تراه، لكي يخلق بذلك مسافة ذهنية وموضوعية تتيح له التحكم المطلق في توجيه الأسئلة دون ان يرى الشخص الذي يحاوره ودون أن يراه الأخير، ويتفادى بالتالي نظرات العينين والانفعالات والتاثرات المتبادلة التي قد تنتج عن تلاقي النظر.
وقد طور موريس أسلوبه الخاص في الفيلم التسجيلي، وبلغ ذروته في فيلم “ضباب الحرب” The Fog of War الذي يبحث فيه كيف توسع الدور الأمريكي في فيتنام ووصل إلى انغماس كامل في عمليات حربية موسعة استغرقت سنوات وتركت تأثيرا هائلا على الحياة الأمريكية، ويقارن، بطريقة ما، بين الدور الأمريكي في فيتنام وما يجري في العراق. وكانت شخصية وزير الدفاع الأمريكي إبان حرب فيتنام روبرت ماكنمارا حاضرة بقوة في هذا الفيلم، واستطاع إيرول موريس أن يستخلص منه الكثير من المعلومات التي جاءت بمثابة “كشف” عند ظهور الفيلم في 2003.
أعود إلى تجربتي الشخصية معه عندما شاهدت فيلم “مستر موت” كنت وقتذاك مهتما كثيرا بمراجعة تاريخ الحرب العالمية الثانية وتاريخ ما أصبح يعرف باسم الهولوكوست، او عمليات الابادة الجماعية لليهود على أيدي النازيين، وما يطرحه الباحثو الذين ينتمون إلى ممدرسة “المراجعة التاريخية” الذين يتشككون في نظرية التصفية الجماعية لليهود في غرف الغاز، استنادا إلى أبحاث ودراسات “علمية” تعتمد على الكيمياء والفيزياء، قاموا بها ومنها الدراسات الخاصة التي أجراها البروفيسور الفرنسي ذائع الصيت روبير فوريسون.
وكان فيلم “مستر موت” أول فيلم يسلط الضوء بطريقة ما، على أفكار “المراجعة التاريخية”، وقد ظهر في خضم الجدل الذي كان دائرا وقتها في بريطانيا بمناسبة نظر القضية التي رفعها المؤرخ البريطاني ديفيد إرفنج يتهم فيها استاذة التاريخ الأمريكية ديبرا ليبشتادت بالقذف في حقه، إلا أنه خسر القضية بعد أن تكاتفت ضده المنظمات اليهودية البريطانية والأمريكية،ونجحت في إثبات أن كتاباته عن الهولوكوست “لا تستند الى معايير علمية”.
وقد حملت معي فيلم “مستر موت” الى القاهرة، وقمت بعرضه في عام 2000 على جمهور كبير في قاعة جمعية نقاد السينما، وأجريت مناقشة مع الحاضرين بعد عرضه، بهدف لفت الأنظار الىالموضوع، والى الموهبة الخاصة التي يتمتع بها المخرج إيرول موريس. ومن باب التذكر فقط يمكنني القول إن اثارة موضوع مثير للجدل لا يعرف عنه الكثير من اصدقائنا في العالم العربي، أقصد منهج الطرح المراجع في مسألة الهولوكوست، كان صادما للبعض، وأتذكر أن إحدى الحاضرات صرخت في غلظة وتعجرف ودون أي وجه للمقارنة وقتها قائلة: وهل من الممكن القول ايضا ان التصفيات العرقية في لابوسنة لم تقع!
وكان ظهور الفيلم في أواخر 1999 في الولايات المتحدة قد أثار عند عروضه الأولى داخل جامعة هارفارد انشقاقا حادا في الآراء بين المؤيدين والمعارضين. وبعد ما تعرض له في الأوساط اليهودية من هجوم عنيف بلغ حد اتهام موريس بالنازية رغم كونه يهوديا، اضطر مخرجه الى إعادة عمل المونتاج له بعد أن أدخل حوارات جديدة صورها مع مؤرخين مناقضين لفكر المراجعة التاريخية ومؤيدين لنظرية الإبادة الجماعية في غرف الغاز التي استقر في الأدبيات المنشورة في الغرب أنها تسببت في قتل 6 ملايين يهودي.

فيلم مستر موت

وكعادته في معظم أفلامه المثيرة للجدل، يتخذ إيرول موريس من شخصية معينة، محورا لفيلمه. هذه الشخصية هنا هي شخصية فريد لوشتر، وهو مهندس أمريكي متخصص في تكنولوجيا الإعدام، أي في تصميم الكراسي الكهربائية وغيره من وسائل الإعدام في الولايات المتحدة. وقد بدأ ظهور هذا الرجل الذي يبدو أقرب الى التلعثم والخجل، بنظاراته السميكة، وتكوين وجهه الطفولي، عندما وقع الاختيار عليه لكي يكون شاهدا في محاكمة رجل من أصل ألماني هو رسام الكاريكاتير إرنست زوندال الذي اتهم في كندا بانكار الهولوكوست.  وقد كلف لوشتر من قبل فريق الدفاع عن زوندال بالذهاب إلى معسكر أوشفتز في بولندا وفحص ما يقال انها غرفة الغاز في ذلك المعسكر وأخذ عينات من التربة ومن جدران هذه الغرفة.
وذهب لوشتر فعلا إلى معكسر أوشفتز في بولندا في رحلة خاصة عام 1988 بصحبة زوجته ومترجم ومصور، وتسلل سرا داخل الغرفة المدمرة أو أطلالها، وتمكن من أخذ عينات سرا أي بعيدا عن أعين الحراس في وقت كان بولندا لاتزال تحت الحكم الشيوعي. وعاد الى أمريكا حيث سلمت العينات الى معمل في كاليفورنيا دون أن يتم اطلاع المتخصصين في المعمل على طبيعة المواد المراد اختبار نسبة وجود غاز السيانور السام فيها.
وجاءت النتيجة تثبت خلو العينات المأخوذة من غرفة الغاز من أي وجود للغاز السام، في حين وجدت نسبة معينة في العينات المأخوذة من غرف تعقيم الملابس!
وظهر لوتشر أمام المحكمة في تورنتو وأفاد بأن من المستحيل أن يكون قد جرى الإعدام بالغاز على أعداد كبيرة من اليهود في تلك المنشىت التي رآها هناك دون أن يؤدي هذا الى انفجارات تقضي على كل سكان المعسكر وحراسه. وقام لوشتر بنشر تقرير في كتاب أصبح شهيرا في العالم كله وترجم إلى لغات متعددة عرف باسم “تقرير لوشتر”.
ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلة سقوط لوشتر، أو إسقاطه، فضغطت الجماعات والمنظمات اليهودية على زوجته الى ان تخلت عنه وطلقته، وقاموا باثبات أنه غير حاصل على شهادة في الهندسة، فألغيت العقود التي كانت موقعة معه لحساب عدد من السجون الأمريكية، وتم الاعتداء عليه بالضرب، وشوهت سمعته في أجهزة الاعلام، وتم القبض عليهع وترحيله خلال زيارة له الى لندن لإلقاء محاضرة، وهو على منصة قاعة المحاضرات، وجاء مدير معملالتحاليل في كاليفورنيا لكي ينكر ما سبق ان أدلى به من شهادة بدعوى أنه وقع في خطأ ما!
هذه القصة يتناولها إيرول موريس في فيلمه (البالغ 91 دقيقة)، ويمزج تفاصيلها في تقاطع مع المقابلة الطويلة التي استمرت 4 ساعات والتي أجراها مع لوشتر، كما يدخل شهادات بعض المؤرخين ومنهم ديفيد ارفنج نفسه وعدد من باحثي “المراجعة التاريخية”، كما يأتي بمؤرخين من اليهود من أصحاب نظرية “الإبادة” ومن خلال التلاعب في الشكل، وتكرار اظهار لوشتر في علاقته بالكرسي الكهربائي، وكاننا أمام شخصية من عالم الكرتون أقرب الى التجريد، يناقش الدلالات الخاصة لصعود وسقوط هذه الشخصية، ويتساءل هل كان لوشتر يحمل من البداية بذرة سقوطه، ويتوقف أمام المغز�� الاخلاقي لما يقوله لوشتر ببساطة، ومن ذلك ما يقوله من أنه كان يرغب دائما الى تحسين وسائل الاعدام، وأن من حق المجرم المدان الذي حكم عليه بالإعدام أن يموت بكرامة، ميتة سهلة دون ألم، ويؤكد انه ينام في الليل مطمئنا إلى أنه يقوم بعمل صالح، ويركز الفيلم على حقيقة أن لوشتر ليس من أصحاب العقول المسيسة ولا المؤدلجة، فليس له أي هدف خاص في الهجوم على اليهود أو اتهامهم بنشر المبالغات والأكاذيب، كما أنه لا ينتمي فكريا الى المراجعين الذين تعتبروهم المنظمات اليهودية من “النازيين الجدد”.
في مزيج من المرح والتعليق الساخر الذي يشتهر به موريس، والبحث الدقيق والتنقيب فيما وراء الشخصية، نحن أمام عمل شديد الحيوية والاثارة بل ويعتبر، رغم كل نواقصه، أول فيلم يقدم الرؤية الأخرى في موضوع الهولوكوست للجمهور العريض ومن منظور متوازن الى حد كبير.
ويعرض داخل الفيلم لقطات الفيلم الذي صور بكاميرا فيديو صغيرة سرا لفريد لوشتر داخل أطلال ما يقال إنها “غرف الغاز” في أوشفتز، وهو يحفر في الجدران لكي يستخلص عينات من الأحجار، كما يغافل الحراس ويتخلص عينات من التربة.
إلا أن المصير الذي يلقاه لوشتر في الواقع لا يتم شرحه في الفيلم على أنه “العقاب” الذي تلقاه بالضرورة من جانب المنظمات اليهودية الأمريكية،

لوتشر

بل بسبب عدم كفاءته وانصياعه السهل لأفكار وآراء مسبقة من جانب جماعة المراجعين ومنكري الهولوكوست، بحكم عقله الضيق، ومهنته الحرفية المحدودة. وهي مفارقة يؤكد عليها ويتوقف أمامها طويلا إيرول موريس في الفيلم، مبينا كيف يمكن أن يصبح الإنسان “البسيط” ضحية لبساطته نفسها أو بالأحرى لانسياقه وراء رؤية أحادية لا تجادل ولا تحقق ولا تفحص الاحتمالات الأخرى.
ولأن الفيلم من إخراج مخرج شهير، يهودي أمريكي، يعمل لحساب الشركات الكبيرة في الولايات المتحدة لم يكن من الممكن تجاهل الفيلم، فعرض أولا في مهرجان صندانص ثم وجد طريقه للعرض في كثير من محطات التليفزيون في العالم. وقد وجدت عند إعادة مشاهدته أخيرا أنه لايزال صالحا للمشاهدة بسبب كون الموضوع الذي يطرحه لايزال قائما يفرض نفسه.


إعلان