عن جوليانو مير خميس.. اغتالوه بلا سبب

وفق المُتعارف العربي والفلسطيني، بل والعالمي، عموماً، هو عربي فلسطيني.. ووفق المتعارف اليهودي، فقط.. هو يهودي.. وفي الحالتين هو إنسان مبدع.
من ناحية الأب، ينتمي إلى فلسطينيي العام 1948، إذ أن والده هو (صليبا خميس)، العربي الفلسطيني.. وبالتالي فجوليانو لا يختلف، من هذه الناحية، بانتمائه وبوضعيته القانونية، عن وضع مليون وربع المليون من العرب الفلسطينيين الباقين في وطنهم، في حيفا وعكا ويافا، في الجليل والمثلث والنقب، كما في مدينة الناصرة، البلدة الأصلية لـ (صليبا خميس) التي عاش ومات فيها.
بينما
من جهة أخرى، هو يهودي، أيضاً، إذ أن والدته هي (آرنا مير)، اليهودية التي ولدت في مستوطنة روشبينا (بالقرب من قرية الجاعونة، في قضاء صفد)، قبل أن تولد دولة إسرائيل، ذاتها.. وكان أن انضمت آرنا في شبابها إلى قوات (البالماخ) لتشارك في صناعة نكبة الفلسطينيين عام 1948، قبل أن تنتبه إلى أنها تقف في الموقع الخاطئ.
«لم أجنِ على أحد، ولم أخطئ في حق أحد.. لكن انضمامي إلى البلماخ، عندما كنت في الثامنة عشرة، كان خطئي الأكبر.. ماذا أفعل؟.. طيش الشباب!.. نعم..».. تقول آرنا.. فكان أن عملت على إعادة ترتيب أفكارها وحياتها.. فتخلَّت عن صهيونيتها، وانتمت إلى المنكوبين الفلسطينيين، من خلال الانتساب إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي كان (على الرغم من كل نواقصه) المجال الحزبي السياسي الوحيد المتاح، حينذاك، للدفاع عمَّا تبقى من حقوق للأقلية العربية الفلسطينية الباقية على أرض فلسطين، فانتسبت إليه أقساط واسعة من النخب العربية الفلسطينية من أهالي 48، ومجموعات من النخب اليهودية.
ولعل آرنا استكملت الانتماء إلى الفلسطينيين من خلال الارتباط بالزواج من رفيقها في الحزب، صليبا خميس، العربي، الفلسطيني، المسيحي، المناضل الشيوعي، المثقف والصحفي.. وأنجبت منه ولدين هما (جوليانو، سبارتاكوس)، على ما نعلم.

زحزحة التباس الهوية
في إطار هذا الاختلاط في الهوية، بين البعد القومي (العربي الفلسطيني)، والبعدين الدينيين (مسيحية الأب، ويهودية الأم)، سيكتفي البعض بالقول عن جوليانو مير خميس: إنه مخرج إسرائيلي.. أو مخرج فلسطيني إسرائيلي!.. ليغدو هذا الرجل نموذجاً فذاً واستثنائياً، ومعقداً، في مجال الهوية، لا يكاد يفضّ التباسات تعقيداتها سوى أفكاره (جوليانو) ذاتها، ومسيرة حياته، ومواقفه العملية، وحقيقة انتمائه، تلك التي يمكن اعتبار فيلمه «أولاد آرنا» بياناً واضحاً عنها.
قبل الحديث عن الفيلم، لابد من الانتباه إلى دلالات إصرار جوليانو على إدخال اسم (خميس) على اسم والدته، حتى أنه اعترض على تسمية والدته باسم (آرنا مير) فقط.. وصرخ قائلاً: «آرنا مير خميس.. آرنا مير خميس».. حدث هذا أثناء التقديم لعرض فيلمه في سينماتيك حيفا.

جوليانو مير خميس

«دائماً حاولت جاهداً إدخال كلمة خميس إلى اسم عائلتي، وعائلة أمي.. شعرت بحاجة له، خاصة بعد وفاة والدي صليبا خميس».. يقول جوليانو.. فهو يدرك أي تعقيد في الهوية وهبته إياه الأقدار، وهو بالتالي يغتنم كل فرصة لفضّ هذا الالتباس، دون مواربة، أو حذر.. وسنجد أن الأمر ذاته سيكون موضوعاً للحديث في ثنايا الفيلم، لأكثر من مرة، وعلى لسان أكثر من شخصية.
ومن ناحيتها فإن آرنا، اليهودية المعتقد، تحوَّلت من الصهيونية إلى الشيوعية، ثم إلى معطى إنساني عام، قادر على تلمس آلام الضحايا، والتضامن معهم، والعمل على انتشالهم من ربقة الكارثة.. بل لم تكتف آرنا بالتضامن الوجداني والعاطفي، فانخرطت في عمل ميداني، في هذا السياق.. ومن هنا فإن آرنا أخذت ترجّ سكينة الهوية، وسكونها، لتثير فيها الكثير مما يمكن أن يُراقب بدقة، ويؤخذ بعناية، فقد غدت بعملها فلسطينية بامتياز، طالما أن هناك الكثيرين من العرب والفلسطينيين، ممن يرون في الهوية الفلسطينية هوية نضالية.
انتقلت الشرارة ببساطة ووضوح إلى أهالي مخيم جنين، حتى أننا نرى امرأة فلسطينية، ترتدي الحجاب، تترحَّم على آرنا، تماماً كما تفعل على مسلمة متدينة، ونسمع أولاد المخيم يعتبرون آرنا بمثابة الأم (بل، وأعزّ) ويرون في جوليانو ما يشبه (الأخ، أو الأب)، كما يقولون بصراحة.
سريعاً، ينتهي أهالي المخيم من أسئلة الأنا والآخر، وإشكالية التمييز بين اليهودي، والإسرائيلي، والصهيوني، والمحتل.. وسنراهم يمايزون بين عدوهم الحقيقي، ووهم العدو الذي اعتقدوه.. حتى أن بعض الأولاد في الفيلم يصارحون جوليانو بأنهم كانوا يعتقدونه جاسوساً.. وكانوا يرتابون منه، ومن والدته.. قبل أن يتلمَّسوا الحقيقة.
ولكن يبقى الطريف في الأمر، أن من الأولاد من يقول عن آرنا: «كنا نعتقدها يهودية»!.. كأنما هم يحاولون أن يغسلوا آرنا من يهوديتها، بدل أن يخلصوا الديانة اليهودية ذاتها من إثم الصهيونية، وارتكاباتها باسم الدين اليهودي.. أو لا يصدقون أن يهودية يمكن لها أن تفعل مثل ما قامت به آرنا.

كامل المقال

* ملاحظة: كتبتُ هذا المقال، ونُشر منذ سنوات.. ولعلي لا أجد أفضل منه مرثية لجوليانو مير خميس، الذي رحل ضحية العنف ذاته، الذي طالما عمل على إدانته.


إعلان