يوسف زيدان في ندوة كتاب الوثائقية الثاني
الوثائقي يثبت الزمن وللتاريخ مطلق الحركة
على هامش مهرجان الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية نظمت الجزيرة الوثائقية ندوة بمناسبة توقيع كتابها الثاني الذي حمل عنوان “الفيلم الوثائقي .. مقاربات جدلية”. وقد كانت فرصة للاستماع إلى الباحث والروائي المصري الدكتور يوسف زيدان مدير قسم المخطوطات في مكتبة الإسكندرية والحاصل على جائزة البوكر الدولية عن روايته عزازيل وقد اختارته الوثائقية ليقد كتابها هذه السنة.

ووضاح خنفر مدير الشبكة و وأحمد محفوظ مدير الوثائقية
مفهوم الزمن والفيلم الوثائقي
ابتدأ زيدان محاضرته بمقدمات نظرية حول المفهوم الفلسفي للزمن ليؤصل وظيفة الفيلم الوثائقي. حيث اعتبر أن الحاضر يستحيل مسكه لأنه في اللحظة التي ننجز فيها فعلا في الحاضر يصبح في اللحظة التي تلي الحدث ماضيا. فنحن دائما أمام ماض نستذكره أو مستقبل نسير نحوه أما الحاضر فنعيشه حقيقة دون أن نوقفه. الماضي ذهب في زمنيته فتمكنت الذاكرة من استرجاعه نسبيا أو في تفاصيله الكبرى. والحاضر ونحن نعيشه ينسحب نحو الماضي فيلتهمه. أما المستقبل فهو الزمن الذي لم نعشه بعد ويسمح لنا باستعادة ما سلف.
لقد أطنب د. يوسف زيدان في تفسير هذه العلاقة بين الأزمنة وعاد بها إلى الفلسفة اليونانية التي طرحت هذا الإشكال. ذلك أن مفهوم المحاكاة كمفهوم جوهري في فلسفة الفن منذ أفلاطون تقضي بأن الفن يحاكي واقعا حدث وانقضى لأن الواقع لا يثبت زمنيا.
أما مفهوم التاريخ بحسب المحاضر فإنه أوسع من مفهوم الزمن وأن لا سبيل لنا سوى الوثيقة لمعرفته. هذه الوثيقة تم رسمها أو كتابتها أو تسجيلها في زمن معين وبتقادم الزمن تصبح دليلا وشاهدا على مرحلة تاريخية ما. وبالتالي تتحول الوثيقة من مجالها الآني والظرفي الذي سجلته إلى حاضن لدلالات التاريخ ولثقافة البشر.
وفي هذا الإطار تعرض الدكتور إلى بعض الأفلام الوثائقية التي تستقطع الوثيقة أو الأثر التاريخي ولا تعطيه حقه من الدرس مركزا مثاله على فيلم شاهده في الطائرة يتحدث عن الآثار الفرعونية باعتبارها أعظم وثيقة على حقبة أساسية في التاريخ البشري. وقال إن عجز الفيلم عن تقديم المادة العلمية المفيدة شجعه أكثر ليقدم كتاب الوثائقية الثاني ويساهم في التعريف بأهمية الوثائقي وخطورته في آن واحد.
وفي هذا السياق اعتبر يوسف زيدان الذي خبر أهمية الوثائق من خلال اشتغاله اليومي عليها، أن الفيلم الوثائقي اليوم يعتبر من أفضل الوسائط الإعلامية القادرة على المساهمة في تبيان الدلالات المتعددة لمفهوم التاريخ وأنها قادرة على استرجاع اللحظة الزمنية لأي عصر ولو تخييليا أي أن الفيلم قادر على إنقاذ الحاضر من النسيان والعودة إلى التاريخ واستدعائه كمشهد متحرك لا كوثيقة ثابتة.
الوثائقي والميراث الحضاري
تحدث زيدان في محاضرته ،أيضا، عن دور آخر للفيلم الوثائقي أوسع من مجرد تدوين الزمن والمرحلة. وهو دور التعريف بالحضارات والحوار بينها. وهو دور لعبته الفنون والعلوم عبر التاريخ. فالحضارة العربية الإسلامية ما كانت لتبلغ أوجها الذي بلغته لولا استفادتها من الحضارات السابقة لها كالحضارة اليونانية والحضارات الشرقية الهندية والفارسية وغيرها. وأن العرب والمسلمين لم تكن لهم عقد الأخذ ممن سبقهم وتطوير الحضارة البشرية. من جهتها كانت الحضارة الغربية في بدايتها متلقفة لإرث العرب المسلمين فقد درسوا القسط الأكبر من الفلسفة اليونانية من خلال ما وصلهم من الكتب العربية وما وصلهم كثير ومفيد ومازال محل درس إلى اليوم.
من هذا المنطلق يعتبر زيدان أن مهمة الوثائقي مهمة خطيرة وفعالة في التعريف بحضارة الشعوب ونقل الثقافات. وركز بذلك على الفيلم الوثائقي التاريخي ولكنه اعتبر أن أي فيلم وثائقي مهما يكن موضوعه فإنه يسلط الضوء على جانب من ثقافة شعب ما أو مجموعة بشرية معينة حتى ولو كان يتحدث عن حادثة معزولة أو شخصية. وبهذا المعنى يكون المحمول الثقافي والحضاري جزءا مهما في الوثائقي.
الوثائقي كما يراه المشتغل على الوثيقة أهم من السينما التخييلية في هذا المجال فإنه قريب من حقيقة الأمور ولأنه كذلك فإنه يكون وسيطا مهما وذا مصداقية في تقارب الثقافات فيما بينها. وهو استكمال لدور العلوم والفنون قديما. فهوميروس في ملحمته سجل نبض التاريخ في تلك المرحلة وكذلك الشعر الجاهلي عند العرب الذي اعتبره زيدان وثيقة من ذهب تؤرخ للعرب قبل الإسلام إذا لم تكن الوثيقة الوحيدة والأهم.
الوثائقي يطير بجناحين
شدد د. زيدان على أن الوثائقي ليس درسا في المعرفة وإنما هو حامل للمعرفة. لأنه قبل كل شيء هو عمل فني تنجزه الكاميرا وفق رؤية فنية وجمالية. فمثلما أن الشاعر يقول قصيدته ملتزما بقوانين الشعر وصوره كذلك يكون الوثائقي. ولكن الشاعر وهو يقول قصيدته فإنه يؤثثها بما يفيد المؤرخ والباحث من معطيات ثقافية وحضارية مرتبطة بعصره.
الوثائقي إذن يطير بجناحين جناح الفن وجناح المعلومة أو المعرفة ولا يجب أن نضحي بأحدهما على حساب الآخر. يجب أن يكون المشتغل على الوثائقي فنانا في مجال الصورة لكن يجب أيضا أن تكون معلوماته ومعطيات فيلمه دقيقة ولافتة وقادرة على أن تكون موضوعا فنيا ومعرفيا في آن واحد أي تقدم معلومة مفيدة وربما جديدة. وعليه يجب أن تتضافر جهود أصحاب المعرفة وأصحاب فن الصورة ليتم إنجاز الوثائقي. لأن الارتجال قد يضر بالوثائقي وبالفن عامة.

واعتبر زيدان في ختام كلمته أن الجزيرة الوثائقية تقوم بجهد جبار في ترسيخ ثقافة الوثائقي والتعريف بوظائفه الحضارية والفنية. وذلك من خلال تنوع برامجها وتناولها لشتى مجالات الثقافة والمعرفة والمجتمع. وأشاد بتجربة الكتاب الذي يحاول أن يؤسس معرفة نظرية ونقدية حول الفيلم والوثائقي وهو من التجارب النادرة في العالم العربي. لأن تطور الفن والمعرفة لا يتم إلا بتطور الإنتاج الفني من ناحية ونظرية الفن والنقد من ناحية أخرى. وبالتالي فإن كتاب الوثائقية يكمّل دور القناة التي تبث وتنتج الأفلام والكتاب يحاول أن ينشر المعرفة النقدية حول الأفلام.