«طلقة واحدة».. تطفئ حياة كثيرة!..

يجد فيلم «طلقة واحدة»، نفسه بحاجة إلى تصدير طويل، مكتوب ملء صفحات متكررة من الشاشة؛ تصدير يقع خارج الفيلم تماماً، لكنه يلعب دور التوطئة اللازمة، والضرورية، للدخول في أجواء الفيلم، وتهيئة المشاهد، أو مساعدته على تلقّيه، ليس فقط لأنه فيلم نادر، يدخل موضوعاً قلما اقترب منه أي فيلم وثائقي، من قبل، بل لأنه سيعتمد أساليب فنية، لن تعنى كثيراً بالتقديم والشرح والايضاح، ولا حتى بذكر أسماء من سنشاهدهم.
فيلم «طلقة واحدة»، وهو فيلم وثائقي متوسط الطول (مدته 57 دقيقة) يدخل عالم القناصة في الجيش الإسرائيلي، أولئك الذين من الواضح أن مهتمهم تنحصر في صيد الفلسطينيين، بعناية، وبهدوء أعصاب. لا يدخل القناصة ميدان المعركة، ولا يخوضون الحرب. إنهم يمكثون في مكان ما، يطلّون عبر منظار القناصة على مداخل البيوت، أو الشرفات، أو الطرقات. ينتقون أهدافهم «صيدهم»، ببرودة أعصاب، ويقررون في لحظة ما وضع حد لحياته، أو إفلاته، لسبب أو آخر!..
من هنا فإن التصدير الطويل، والمتعدد المضامين يغدو لازماً. يبدأ الفيلم تصديراً أولاً يقول: «المرة الأولى التي تسمح فيها قيادة الجيش الإسرائيلي بإجراء مقابلات مع وحدات القناصة. استغرق الأمر عاماً كاملاً للحصول على التراخيص المطلوبة، من السلطات العسكرية». وفي حدود ما نعلم، وما أمكن لنا مشاهدته من أفلام وثائقية عربية، وأجنبية، وحتى إسرائيلية، فإن هذا الكلام صحيح تماماً.
إنها المرة الأولى التي أمكن لفيلم وثائقي أن يجري لقاءات مباشرة، صريحة وعلنية من عدد ممن خدموا في وحدات القناصة، في الجيش الإسرائيلي، وكانت لهم تجربهم المختلفة في قتل الفلسطينيين. وإنها المرة الأولى التي يمكن لمشاهد أن يجلس وجهاً لوجه أمام قناص إسرائيلي، يسمع منه أحاديثه عن تجربته في قنص الفلسطينيين، وقتلهم. ويتعرف إلى رؤاهم ومشاعرهم وأحاسيسهم، بعد خوضهم هذه التجربة، التي أقل ما يمكن للمرء العاقل، السليم الفطرة والعقل، أن يصفها بالجريمة ضد الإنسانية، وبكل المعايير.
ينتقل الفيلم إلى تصدير آخر، توضيحي، هذه المرة، فيقول: «بعض المشاهد المؤذية للروح البشرية، صورها جنود الاحتلال في إثناء تعدياتهم على المواطنين الفلسطين، في الضفة الغربية وقطاع غزة».
بينما يذهب التصدير الثالث، إلى القول: «يستلزم إعداد الجندي الإسرائيلي لكي يصبح قناصاً خمسة أسابيع من التدريب. تعتبر وحدات القناصة عنصراً مكملاً لكل وحدة مقاتلة في أي جيش في العالم، إلا أنه منذ الانتفاضة الأخيرة، بدأ الجيش الإسرائيلي يستخدم قناصته في عمليات اغتيال تستهدف ناشطي الانتفاضة، أو من يصادفهم من أبناء الشعب الفلسطيني».
كأنما بالفيلم يحسم خياراته، قبل ظهور أي صورة أو لقطة منه، وقبل سماع أي قول، ورؤية أي مشهد. إذا كان ثمة من يبرر وجود القناصة، لأسباب قتالية. وهي وحدات «موجودة في أي جيش في العالم»، فإن الطابع الذي تتسم به المواجهات على أرض فلسطين، تختلف من ناحية أنها في غالبيتها الأعمّ مواجهات شعبية (وإن كان بعضها على شيء من التسليح)، في مواجهة جيش، يمكن له أن يتباهى أنه واحد من أقوى جيوش العالم، وأكثر عتاداً وتسليحاً وتدريباً، وأفضلها دعماً بأحدث الوسائط القتالية، المتوفرة في العالم.
ومع هذا، فلا بد من الانتباه إلى القول الواضح، والذي يؤكد أن قناصة الجيش الإسرائيلي يستهدفون «ناشطي الانتفاضة»، أو «من يصادفهم من أبناء الشعب الفلسطيني»، ففي الحالتين نجد أن المستهدف بالقتل

لا يتورعون عن تسمية مهمتهم بـ”صيد البط”

إنما هو من طراز المدنيين، سواء من شاء منهم أن يكون له دور فاعل في مجرى المواجهة، عبر نشاطات متعددة أمكن للانتفاضة أن تستوعبها.. أو أولئك المدنيين العاديين، ممن يرميهم الحظ العائر أمام فوهة بندقية القناص، في لحظة نهائية، من العمر.
يقوم فيلم «طلقة واحدة»، على المقابلات والحوارات التي يجريها مع عدد من القناصة الإسرائيلين. منهم من انتهى حديثاً من خدمته هذه، ومنهم من مضت سنوات على تجربته تلك. وما بين هذا وذاك، تتنوع الروايات، وتختلف التفاصيل، وردود الأفعال، وطرق استيعابهم ما قاموا به. ولكن السياق هو ذاته. ثمة شخص ما يحترف قتل الفلسطينيين، ولا يفكر لحظة بأنهم بشر، يستحقون الحياة.
لن تجد في أقوال القناصة ما يشي إلى تأنيب ضمير. إنه عمل، مهنة، مهمة. بل لن يتردد الكثيرون منهم على القول إنه نوع من العمل الذي يحوز على شيء من المتعة. قتل الفلسطينين يبعث النشوة. والانغماس في هذه اللعبة، يحولها إلى تفصيل يومي عادي.
«تستطيع أن تهرب. لكن لن تستطيع الاختباء»، يقول شعار القناصة، وهم يصوبون مناظيرهم إلى الرؤوس والصدور. يدققون في الهدف إلى الدرجة التي يصبحون يعرفونه حق المعرفة. يقول إحدهم إنه انتظر من الهدف أن يرحل. قلت لنفسي «سينجو إن رحل». لكن الرجل الفلسطيني العجوز المتسمر في مكانه، بكل الصدمة، لم يرحل، فأرداه قتيلاً. والقناص يقول: «كنت غاضباً لأنه لم يرحل».
يمكن لأحد القناصة أن يصف العمل بأنه «كابوس». فالقناص لا يدخل في لعبة القتال. يبقى جالساً بانتظار لحظة الاطلاق. ويستدرك، هذا القناص، أو ذاك، موضحاً، بالقول: «هذه المهنة تمنح الشخص قوة كبيرة.. أنت وحدك تقرر من ستقتل. إنه أمر ممتع. لعبة. تسلية. يمكنك الاستمتاع بها حقاً. إطلاق النار بمثابة علاج روحي. لا تفكر في القتل. لا تفهمه، ولا تدرك ماهيته. جزء من شعورك كرجل. كشخص مهم. عندما تفكر في الأمر يصبح مزعجاً. خاصة عندما تتزوج وتنجب أولاداً».
يقوم الفيلم على الاعترافات. لا يقوم بمحاكمة شخصياته. لا يعنفهم، وربما لا يلومهم. إنه يترك لهم المجال ليقولوا ما لديهم. يحاول الفيلم أن يكون الفرصة الأولى، وربما الأخيرة، لسماع ما الذي يقوله من امتهن قتل الفلسطينيين، في الشارع، أمام باب البيت، عند حافة النافذة، أو مطلاً عن من شرفة منزله.
«لا أفكر في الأمر على أنه خطأ. أحياناً أفكر أنني تخليت عن حقي في دخول الجنة. أحياناً أتساءل: هل تغير شيء؟.. لم يتغير شيء. لم يحدث لي أي شيء. باستثناء الشاب الذي أصابته الرصاصة، وكان في الخامسة عشر من عمره. في تلك اللحظة لا تفكر إلا كم هو هذا الشاب سيء الحظ. وكنت أنت ملاك موته».. يقول قناص، قبل أن يصل آخر إلى ذروة القول: «القناصة يمتلكون أخلاقيات قتالية خاصة بهم. القرار يعود إليك. هل يتعين عليك قتل هذا الشخص، أم لا؟».. ويعترف ثالث: «بعد إطلاق النار، كنت أذهب إلى المنزل، وأنام مدة يومين»!..
لن يتردد القناصة في تشبيه عملهم هذا بمهمة «صيد البط». هي مهنة إزهاق أرواح الآخرين. وفيها لا يعود للشفقة مكان. ولا للرحمة تجاهه، أو تجاه والدته، أو زوجته، أو أي شخص آخر.. «لقد شاهدت، عن قرب، الأشخاص الذين قتلتهم. اليوم هي ذكرى غير سعيدة. لكنها وقتذاك كانت تجربة ممتعة»!.. يقول أحدهم، ويعترف آخر: «لا أشعر بأني قاتل مأجور. بل إنني تسببت بالقتل. ثمة فارق بين التسبب بالموت. والقتل. لا أواجه مشكلة في الموضوع. إن مرّ شخص أمامك، أنت من تقرر القضاء عليه، أو العفو عنه.. ولكن هل يعلم هو بذلك؟»..
يتحدث القناصة بصراحة مفجعة. دون أدنى رفة جفن. يقدمون أجزاء من خبرتهم العملية، وحالاتهم النفسية. دروس في احتراف فن القتل: «تفصل نفسك عن كل شيء. وتنتظر الأوامر. تتوحد مع البندقية. كل ما تحس به هو أصبعك، والزناد. للحظة تجد نفسك كمن هو معزول عاطفياً، وعاجز عن الشعور. لابد من العمل بمهنية عالية». ويستفيض آخر، في وصف واحدة من تجاربه: «كنت أعرفه. خرج حليق الذقن. كأنما أحسن إعداد نفسه للحظة الموت. كنت أمكث. أخطط. أصوب. أدرس سرعة الرياح. أضبط المتعامدتين عليه. أضغط على الزناد. تخرج الرصاصة».
لا يعترف القناصة إلا بأنهم «ملائكة موت». هذه مهتمهم. يسأل أحدهم: ماذا يعني «القتل بدم بارد»؟.. القتل هو القتل، هو عملهم، وهم في النهاية يقومون به بمهنية عالية. «فتاة صغيرة. جميلة. أجمل فتاة رأيتها في المناطق. لها عينان واسعتان. شعرها كستنائي. نحيلة. صغيرة. خجولة».. «القتل سهل. سهل جداً. هي عملية تقنية، تتسبب في القتل. لا أفكر في أنها عملية قتل إنسان. إنها عملية التسديد على هدف متحرك. اليوم أفكر بالموضوع، بشكل مختلف. لكن لا يهمّ لأنهم ينتمون إلى الإرهابيين. الإرهابيون لا يمتلكون أسماء».
من الناحية الفنية، سيحاول فيلم «طلقة واحدة» تأثيث شريط الصورة، بما أمكن له من مشاهد أرشيفية، تصور الجنود الإسرائيليين، وهم يترصدون قرية، أو بلدة، أو واحداً من أحياء المدن الفلسطينية، الغافية، والساكنة، بهدوء ليلي، إلا من نباح كلاب، تتصادى في البعيد. تواكبهم الكاميرا، وهم يتقدمون، ويقتحمون، وينثرون الموت والدمار.
كما يعمد الفيلم إلى الاتكاء على بعض المشاهد التعبيرية، تلك التي تقدم مجموعة من الأشخاص المقنعين، وهم يحملون المناجل، ينوون حصد الأوراح على طريقة عصابات «كوكلس كلان»، غير آبهين، بأيّ إحساس إنساني. فعلى الرغم من جدة الضمون وقوته، بل وصدمته، إلا أن الفيلم بدا معنياً بتأثيث شريطي الصوت والصورة، بما يجعل منه فيلماً على قدر من العناية الفنية والتقنية، مع أنه لم يجادل أولئك القناصة، بصدد ما يقومون به، ولا ذهب معهم إلى بيوتهم، ليرى زوجاتهم وأولادهم، وكيف يمكن لهم ممارسة حيواتهم، والدماء تقطر من أياديهم!..


إعلان