كان : ثلاثة أفلام نسائية تعرض شخصيات مُتعبة
آثر مهرجان “كان” البدء بمجموعة من الأفلام التي تشترك فيما بينها بعاملين: من إخراج نساء، وتتحدث عن شخصيات مهمومة ومتعبة لأسباب متباينة. هذه الأفلام هي “بوليس” الفرنسي، و”الجمال النائم” الأسترالي و”السنجاب” الأميركي.
بوليس..
على أكثر من ساعتين مشحونتين بالمعايشة المتواصلة وبرصد حالات الرجال والنساء المتقلّبة بين الخوف على وضع إنساني فالت، والانقلاب إلى الذات العاطفية بحثاً عن قرار، وبين البذل في سبيل تحقيق

العدالة حيثما كانت مطلوبة، يمتد فيلم “بوليس” فيسرد المطلوب ثم أكثر منه. فما كان يمكن قصّه في ساعة ونصف يتوالى متعرّجاً بين الحالات وغير قادر على إضافة جديد فعلي لساعتين وسبع دقائق.
تختصر المخرجة أسمها إلى مايوين لكنها لا تختصر كثيراً في رغبتها الحديث عن فرقة من رجال ونساء الشرطة الفرنسية تنتمي إلى “وحدة البوليس المكلّفة بحماية الأطفال”. لكن إذا ما كانت غاية المخرجة توجيه الأنظار إلى تلك الوحدة التي تبذل مجهودا في سبيل حماية الأطفال والأحداث والحديث عن شخصياتها المتعبة بقدر الحديث عما تواجهه من مهام فإن المخرجة حققت غايتها تلك جيّداً.
تتألّف الفرقة التي نتعرّف عليها من رجال ونساء يمثّلون شرائح مختلفة. شخصيات حيّة يمكن تصديقها تكشف عن حالاتهم الخاصة المتباينة والمتفاوتة في أطر التناول من شخصية لأخرى، وذلك من خلال رصد وقائع يومية لأعمالهم. هذا النوع من المعايشة شوهد مراراً وتكراراً في مسلسلات تلفزيونية (بدءاً من “هيل ستريت بلوز” في الثمانينات). في هذا الشأن، لا يتنزل عمل المخرجة. المعالجة واقعية وكذلك إدارة المخرجة لشخصياتها. ما لا لزوم له هو الكاميرا المحمولة كما لو أن اهتزازها وتحركها الدائم شرطان لإتمام الواقعية بالضرورة. في هذا الإطار، ينضم فيلم “بوليس” إلى تلك الأعمال التي لا تخلط بين المعايشة وبين أسلوب الكاميرا المحمولة فقط، بل تضيع على الفيلم التأسيس الفني الصحيح.
جمال نائم..

المخرجة هي صاحبة قلم روائي، لكن لمن لم يقرأ شيئاً مما كتبته فإن سبر غور التأثير الأدبي على المحاولة السينمائية مستحيل. إنها ترى في أن الرواية والفيلم متماثلان من حيث أن الشخصيات مولودة في الوسيلة الوصفية نفسها، وأن الملاحظات الواردة في سياق الوصف الشخصي من الكثرة في الحالتين بحيث تؤلف سياقاً متشابهاً بين الاثنين. على ذلك، وفي حين أن المشاهد لا يستطيع إلا الموافقة على هذه الملاحظة، يكتشف أن ما ينقص الفيلم ليس الوصف ولا الملاحظات الشخصية، بل مجرّد وضع الشخصيات في إطار يمكن معه تفعيل الأحداث درامياً وجعلها أكثر إثارة وتبلوراً.
بطلة الفيلم هي لوسي (إميلي براوننغ)، فتاة شابّة تشتغل في أشياء كثيرة غير متجانسة: إنها تعمل في مكتب لشركة نهاراً، وفي مقهى مساءاً، وعاهرة تحت الطلب ليلاً. كذلك فإن أصحابها ومعارفها ليسوا في سويّة واحدة: هناك الشاب الذي لا يستطيع التعبير عن حبّه إلا كلاماً، والشاب وصديقته التي تشاركهما لوسي السكن وبضعة شخصيات أخرى يدخلون ويخرجون على نحو رتيب إلى حياتها ومن دون أثر يُذكر لا في تلك الحياة ولا في الدراما التي تحاول المخرجة الأسترالية “لي” توفيرها في فيلمها الأول هذا. تقرر لوسي الاتصال بمؤسسة تديرها امرأة أسمها كلارا (راتشل بلايك) وتعمل في تأمين فتيات لخدمة الزبائن. هؤلاء هم مجموعة من الأثرياء المترفين والمسنين يعيشون حالات من الأوهام العاطفية وأحدهم لا يرغب أكثر من الإستغراق في النوم لجانبها وبمشهد النوم هذا ينتهي الفيلم في الوقت المناسب قبل أن يؤدي الى تنويم المشاهدين بقليل.
تبدو القصّة قريبة من رواية غبريال غارسيا ماركيز “مذكرات عاهراتي الكئيبات” أما العنوان فمستلخص، للعجب، من عنوان فيلم وولت ديزني الكرتوني البريء بالعنوان نفسه. أما الجو العام للفيلم فيقوم على مشاهد محددة الأطر لا تسمح بكثير من التجاوب لا مع وضع البطلة (لذلك سوف لن تثير الشخصية أي أعجاب أو تعاطف) ولا مع محيطها (الذي سيبقى خيالياً من دون مؤازرة فنية أو واقعية). الأكثر من ذلك ضرراً للفيلم هو أن نظافته الصورية تبدو مصطنعة. تلك الكادرات العريضة و-غالباً- البعيدة إذ تخلق حاجزاً بين المشاهد وبين ما يتماثل أمامه، كفيلة أيضاً بتغريبه عن مشاكل هي أساساً غير واضحة المعالم. بذلك ينجح الفيلم في إطار وضع واحد: إشاعة البرود في الفيلم كما في تلك العلاقة المفترضة بينه وبين المتلقّي.
السنجاب..
هذا هو الفيلم الثالث من إخراج جودي فوستر، بعد “الرجل الصغير تايت” و”منزل للعطف” وكلاهما أفضل من هذا الفيلم الذي تدور قصّته حول حالة يأس صعبة بطلها، وولتر (مل غيبسون): رجل محبط في

كل شيء خصوصاً بعدما خسر عمله كمدير شركة لإنتاج وبيع الألعاب. حين ينفصل عن زوجته (فوستر نفسها) يتّجه إلى فندق حيث يحاول الانتحار وحين يخفق يغيب عن الوعي. عندما يفيق يجد نفسه كما لو أنه أصبح شخصاً آخر. فهو يبدأ بالاعتقاد بأن دمية السنجاب التي وجدها في أحد المخازن تتحدّث إليه (بلكنة إنكليزية) وتتواصل معه. سيحاول وولتر إيهام من حوله بأن الدمية كيان حيّ ومنفصل. سيذوب – بلا سبب نفسي حقيقي- في ذلك الكيان وسوف يترك للدمية الحديث عنه. هذا الوضع غير الممهد بدوافع ولا بنتائج يُطرح كواقع مجرّد ما يفقده الفرصة تواصل بين وولتر وبين الجمهور. في الوقت ذاته، وبموازاة هذا الانحدار من حضيض لآخر، ينقلنا الفيلم إلى حالة غرائبية أخرى متمثّلة في ابنه الشاب بورتر (أنطون يلشن) الذي يستطيع الدخول إلى عقل الآخر ومعرفة تفكيره. هذا يترك علامات استفهام حول علاقة زمالة مدرسية مع فتاة تعرض عليه مكافأة لقاء مساعدتها في واجبها المدرسي. ما يبدو كما لو أنه تمهيد لخط درامي جديد يتحوّل سريعاً إلى استطراد يزيد من دكانة الوضع وغرائبيّته من دون الوثوق بأن رغبة المخرجة هي فعلاً الوصول بالفيلم إلى حالة تشويق تضعه على حافة سينما التخويف. لأنه إذا ما كانت هذه هي رغبتها، فإنها أخفقت في إنجازها، أما إذا لم تكن فالفيلم وخيوطه ضاعت بين يديها ولم ينقذه ذلك المونتاج المتسارع الراغب في تقريب الحكاية من جمهور عريض.
السيناريو لكايل كيلين وكان مركوناً في أدراج أكثر من شركة إنتاج حينما تناهى إلى سمع فوستر فقرأته وقررت أن يكون ثالث عمل إخراجي لها بعد فيلميها السابقين “الرجل الصغير تايت” و”بيت للعطل”. قرار صعب لأنه في حين أن المرء سعيد باختيارها الدائم لمواضيع متباينة الطروحات ولقصص تبحث في الشخصيات الصعبة، لا يجد ما يستطيع قبول الفيلم بحسناته القليلة، بل يجد نفسه يواجه عملاً متشابكاً من دون خلفيات أو نتائج. “السنجاب” يبدأ داكناً ويزداد دكانة قليلا قليلا من دون أن تجد فوستر المعالجة الصحيحة له. فالفيلم ليس دراسة نفسية، ولا هو دراسة اجتماعية ولا فيلم رعب (ولو أن أداء غيبسون يعكس جانباً سوداوياً قاتماً بمهارة فائقة).