الثورة تسقط دوجما الصورة
“أقسم كمخرج على أن أتخلص من المزاج الشخصي فأنا لم أعد فنانا بعد الآن وأقسم أن ابتعد عن (إبداع فيلم) لأنني اعتبر أن هدفي الأسمى هو الحصول على الحقيقة من شخصيات أفلامي وديكوراتها, واقسم أن افعل هذا بكل الوسائل المتاحة وعلى حساب أي حس جيد, أو أي اعتبارات جمالية “.
بهذا القسم يكتمل انضمام أي مخرج يريد إلى جماعة دوجما 95 التي أسسها ووضع فكرتها وقام على أمرها وأطلقها من الدانمرك المخرجان” لارس فون تيرير” و”توماس فينتربرج” ثم انضم إليهما مواطنهما “سورين كراج جاكوبسون” قبل أن تعرف مبادئ دوجما 95 طريقها إلى مختلف السينمات الغربية حتى نجحت دوجما 95 في حصد جائزة لجنة تحكيم مهرجان كان الكبرى عن فيلم الاحتفال عام 1998 الذي التزم فيه فينتر برج تقريبا بكل شروط دوجما المعلنة .
كانت الفكرة التي قامت عليها جماعة الدوجما ( وتعني بالتعريف المصطلحي الجمود الفكري) هي أنه يمكن صناعة الأفلام بدون الاعتماد على السلطات أو الميزانيات الضخمة، حيث يتم الاعتماد بدلا من ذلك

على المنح الحكومية الأوروبية ومحطات التلفاز، وكان الهدف هو تنقية صناعة السينما عن طريق نبذ المؤثرات البصرية الخاصة المكلفة، وعمليات التحسين التي تأتي عادة في مرحلة ما بعد الإنتاج وهو ما يدفع صناع الأفلام إلى التأكيد على النقاء بأن يقوم صناع الأفلام بالتركيز أكثر على القصة الفعلية و أداء الممثلين، بما يساعد الجمهور من وجهة نظرهم على الاندماج أكثر مع عملية السرد والمواضيع المطروحة والحالة العامة للفيلم.
وقد كتب كل من فون ترير وفانتربرج عشرة قواعد وضعوها في مانيفستو، وأصبح يجب أن يسير عليها أي فيلم يتبع حركة الدوجما وهي:
1ـ يجب صنع الأفلام في المواقع الفعلية، ولا يجب إحضار أي إكسسوارات أو ديكورات مصنعة، وإذا كانت هناك ضرورة لقطعة أثاث أو شكل ما أو حلية بعينها ضرورية لقصة الفيلم، يتم اختيار الموقع الذي يمكن إيجاد هذه القطعة فيه.
2ـ لا يجب على الإطلاق إنتاج الصوت بعيدا عن الصورة والعكس، ولا يجب استخدام الموسيقى إلا إذا كانت ضمن المشهد الذي يصور.
3ـ يجب أن تكون الكاميرا محمولة يدويا، ويسمح بأي حركة أو ثبات يدوي ممكن، ولا يجب أن تقع أحداث الفيلم في المكان الذي تقف فيه الكاميرا، بل في المكان الذي تحدث فيه الحركة.
4ـ يجب أن يكون الفيلم ملونا، الإضاءة المعدة خصيصا غير مقبولة (إذا كانت الإضاءة ضئيلة جدا بهدف التعريض يتم حذف المشهد أو إلحاق لمبة واحدة بكاميرا التصوير) .
5ـ ممنوع استخدام المؤثرات البصرية أو مرشحات الصورة.
6ـ لا يجب أن يحتوي الفيلم على حركة ظاهرية (لا يجب إظهار جرائم القتل ولا الأسلحة)
7ـ يمنع أي اغتراب زمني أو جغرافي (لكي يمكننا القول أن الفيلم يحدث هنا والآن) .
أفلام النوع المحدد ( الجينري) . 8 ـ غير مقبولة
9ـ يجب تحويل الصورة النهائية إلى 35 ملم، مع نسبة عرض للصورة تبلغ 3:4 أي لا تكون صورة عريضة (16:9 ).
10ـ لا يجب وضع اسم المخرج في التوترات فالفيلم ملك لصانعيه وممثليه وليس إبداعا خاصا للمخرج .
ورغم استمرار جماعة دوجما لمدة عشر سنوات ، حيث حلت نفسها في عام 2005 ، إلا أنها فشلت في تحقيق الأهداف التي قامت عليها ، مع أن أنصارها والمنتمين إليها أنتجوا عشرات الأفلام تحت رايتها وبشروطها، إلا أن قليلا جدا من هذه الأفلام التزمت بهذه المواصفات ، أثناء ميثاق الجماعة وبعد حلها ، وعلى رأس غير الملتزمين مؤسسها المعروف بجنوحه وميله للغريب لارس فون تيرير، كان آخرها فيلمه الصادم للغاية ( نقيض المسيح) ، حيث بدا الالتزام بهذه الطريقة غير مناسب لصنع فيلم درامي حقيقي ومؤثر وجذاب.
كانت دوجما هي الحركة السينمائية الأكثر تنظيما في اتجاه التقليل من الصنعة والإكثار من البساطة والتلقائية، وهي رغم فشلها كانت تقتفي اثر محاولات فردية عديدة في هذا الطريق تسعى جميعها لصورة دون دوجما الحرفة والاصطناع، وكان أشهر من مارس ونظر لهذا الاتجاه المخرج الفرنسي الكبير”

“، وكتب بيانا في هذا الأمر بالمجلة السينمائية الشهيرة “كراسات سينمائية” ، وهو ما استلهمه تيرير نفسه في إعلان جماعته، وأيضا المخرج الهندي الكبير ” ساتيا جيت راي” الذي تعكس مدرسته السينمائية مفاهيم البساطة والعفوية البصرية ، لكنها عفوية شاعرية جميلة تليق بالسينما ولم تذهب إلى تطرف دوجما في واقعيتها المفرطة .
كان المعنى الأساسي الذي تحاول جماعة دوجما نشره، أن العمل البصري يجب أن ينطلق من الواقع ويعيش فيه، وان التكلف في تحسين فنيات العمل وجودة صورته، يجعله غير معبر عن حقيقة الناس الذين يشاهدونه، والحقيقة أن هذا المفهوم كان اقرب للتلفزيون منه للسينما التي هي عمل استعارني متجاوز ورمزي بطيعته كفن. واستمرت السينما في التجريب والتطوير والتقنية والبعد عن المباشرة أو التسجيلية التامة البصرية، وبلغت في ذلك شأنا مدهشا تجسد في فيلم جيمس كاميرون الأشهر في التاريخ ” افاتار”.
التليفزيون يكسر الحلقة
لكن التلفزيون الأقرب لهذه الطبيعة التسجيلية كان له مسار آخر في محاولة كسر دوجما الصورة المنمقة والمحسنة والبليغة ،والاقتراب من الصورة العفوية المباشرة العادية مثل ناسها ، واحسب أن صورة البطة التي تخرج مكللة بالزفت والقار من تسرب نفطي هائل في الخليج العربي كانت نقطة فاصلة، فهذه اللقطة التي بثتها شاشات السي ان ان في مطلع تسعينيات القرن العشرين إبان حرب الخليج الأولى، قلبت تأثير الحملة الإعلامية الغربية التي كانت تروج لخيرية الحرب على العراق وأنها من اجل تحرير الكويت وأنها حرب نظيفة لرد العدوان وكفى ، فاجأت صورة طائر نفطي او منفّط لتكشف كوارث الحرب الأخرى التي تثقل القلب، حتى لو كان وراءها ثأر العرب، فضلا عن اكتشاف تزوير الصورة نفسها أصلا وأنها وقعت في مكان آخر ولغرض مختلف .
من يومها يحاول التلفزيون أن يقترب أكثر من صورة الناس وليست الصورة المصنوعة في الأستوديو، فظهرت تقاليع برامجية عديدة تقلل من فرص التدخل في الصورة لصالح العفوية، ربما أشهرها هي حمى تليفزيونات الواقع التي اجتاحت المحطات الغربية ومن ثم انتقلت بالعدوى للتلفزيونات العربية، لتنقل واقعا حيا مباشرا، يسمح بالتدخل في حد أدني، لكنه واقع بلارتوش تقريبا حتى يصل إلى درجة الكشف الذي رآه البعض فاضحا ، ويراه آخرون صريحا، وساعدت الأحداث السياسية والاجتماعية على تبني هذا النهج التلفزيوني ، الذي يحاول القرب من التسجيلية المجردة في نقل الحدث دون صنعة في الصورة، وفي نفس الوقت يوازن مقتضيات العمل التلفزيوني المحترف من حيث الصلاحية الفنية والهندسية للصورة التي يبثها، وأيضا يراعي بعض المعايير الأخلاقية المتسقة مع مجتمعه والقيم الإنسانية عموما .
إلا أن الشرق يأبى إلا أن يكون مبادرا في الإلهام الإنساني للبشرية، حيث كانت حروبه وأزماته العارمة في العراق وأفغانستان والصومال ، أرضا يبدع فيها مراسلو التليفزيون كل بطريقته وأدواته ، وعندما كانت تفتقد الكاميرات وأطقم التصوير ، حضرت هواتف الثريا ووصلات الإنترنت ، فنشاهد صورا مهزوزة ومتقطعة، لكنها كاشفة ودالة، وأصبحنا نعيش في زمن الحروب على الهواء والقتل لحظة بلحظة، وغير هذا المفاهيم التلفزيونية والوثائقية، ولم يعد سؤال المطابقة الفنية والصلاحية الهندسية واردا هنا، فالمهم أن تعرف وليس المهم كيف، لأن الخطْب جم والحدث أعم ، والحشد مهول ، والفعل منقول …هذه هي لغة الصورة الجديدة التي نقلتنا لزمن الثورات العربية الشعبية في القرن الواحد والعشرين ، فعشناها لحظة بلحظة، وقرارا بقرار، وفرحة بفرحة.
الثورة تسقط الدوجما

المشهد كان سورياليا لأقصى درجة ، وواقعيا لمنتهى الحد ، شاب ذو لحية كثيفة وطويلة، يرتدي جلبابا ابيض وغطاء رأس، يخرج من مقر مباحث امن الدولة وهو ممسك بضابط يرتدي الملابس المدنية، والشاب يوسعه ضربا على قافيته ويقيد يديه( الشاب يقيد الضابط) ثم يضعه في عربة عسكرية تنقله للسجن مقبوضا عليه، هذا احد المشاهد التي كانت ومازالت تنقلها الشاشات العربية لصور من مواقع الأحداث التي تجري فيها ثورات وانتفاضات العرب، وهي صور لم تكن متخيلة، لو تم وضعها في سيناريو أي فيلم لعزف عنه الناس واتهموه بالمبالغة غير المقبولة، لكن كاميرات الهواتف المحمولة التي يملكها كل عابر سبيل، غيرت مفاهيم الخيال وليس فقط أحداث الواقع، وأصبحت مصداقية الصورة المهتزة ( مثل كاميرا جماعة دوجما السينمائية) لكاميرا هاتف بيد مواطن عادي موجود في المكان، هي المصداقية الأكبر من كاميرا المراسل المحترف، حيث العفوية هنا، جعلت الصورة تنقل أحداث الصورة ، عندما غيب القمع المحطات الإخبارية والمصورين المحترفين، فاكتسب الناقلون الهواة حق التسجيل، اسقطوا بذلك دوجما الصورة المصنوعة المنمقة، وأصبح كل مواطن يملك أدوات التغيير في يديه، وصورة الحقيقة في جيبه، ويردد مع احمد شوقي الذي كان يمدح السلطان أن أدواته في التأثير أكثر من فصاحة سقراط وخطبه فيقول:” وحسامك من سقراط في الخطب اخطب” ، فأصبح المواطنون العاديون بكاميراتهم العادية في الخطوب والثورات ابلغ وأكثر تأثيرا من سقراط المصورين المحترفين والمراسلين المدربين، وبدأ بذلك عهد جديد ، كسرت فيه الثورة العربية الشعبية دوجما الصورة، لصالح أن نعرف أسرع وأكثر.