“ميشيل بيرتوتشياني” عن الموسيقى والموهبة والحياة

ميشيل بيرتوتشياني Michel Pertucciani هو أحد أعلام موسيقى الجاز في فرنسا والعالم، وأحد أشهر عازفي البيانو الذين تخصصوا في هذا النوع من الموسيقى، التي تجمع بين الشجن والحيوية والاحتفال بالحياة حتى النهاية، كما تعكس أجواء الرصانة مع المرح مع لمسة حزن خاصة.
ولكن هذا ليس هو فقط موضوع الفيلم أو البطل الذي يحمل الفيلم اسمه في عنوانه، بل كان هذا الرجل الذي ولد في مدينة مونبلييه الفرنسية، من المعجزات الإلهية أيضا، ومثالا على أن الله سبحانه وتعالي قد يحرم المرء من نعمة أساسية من نعم الخالق التي يمن بها على عباده، لكنه يعوضه عن هذه النعمة الغائبة بنعمة أخرى تجعله إنسانا مرموقا يشار إليه بالبنان.
وهنا الموضوع، أي هذا موضوع الفيلم التسجيلي الطويل (102 دقيقة) الذي عرض ضمن قسم العروض الخاصة خارج المسابقة بمهرجان كان السينمائي (الدورة الرابعة والستين).
كيف يمكن أن تصبح الموهبة، ليست فقط تعويضا عن النقص العضوي، بل محورا للتحقق الذاتي والإنساني بما يتجاوز كثيرا حدود الجسد البشري وقيوده.
ولد بيرتوتشياني عام 1962 بمرض عضال يصيب العظام، مما يجعلها هشة شديدة الميل إلى الكسر، وبالتالي لم يتجاوز تكوينه الجسدي طفلا أو مراهقا من حيث الحجم فطوله ظل أقل من متر، ولكن الله منحه موهبة فطرية في التفوق الموسيقي وخصوصا في موسيقى الجاز التي تعلق بها وهو بعد طفل لم يتجاوز السادسة، فطلب من أسرته أن يأتوا إليه ببيانو ولم يتوقف إلى أن تحققت رغبته، وأصبح وهو في الرابعة عشرة عازفا موسيقيا بارزا سرعان ما عبر المحيط الأطلسي إلى الولايات المتحدة، حيث اشترك بالعزف مع عدد من كبار العازفين المعروفين في موسيقى الجاز في أمريكا.
تجاوز بيرتوتشياني محدودية الجسد، والقيود والآلام التي يولدها المرض، بل وامتلك موهبة أخرى لا تقل أهمية وتعويضا عن الموهبة الأولى رغم ما قد يبدو من غياب تلك القدرة.
فقد امتلك الرغبة التي لا تنقطع، في الاستمتاع بالحياة بل وجعل الحياة بالموسيقى أفضل وأكثر جمالا وتوازنا أيضا، وقد عاش هو الحياة بكل ما فيها من لحظات ممتعة، تزوج وأنجب وأحب وصادق وحقق الثروة والثراء والشهرة، سافر وتجول، وعرف أيضا الكثير من المعجبات رغم تكوينه الجسدي، وهو أمر كان يحسده عليه الكثيرون. لكنه لم يكن كما يقول هذا الفيلم البديع، بلا مشاكل أو بلا أعداء، بل ربما لهذه الأسباب تحديدا ظهر له أعداء.
رحلة بيرتوتشيانو في الحياة الموسيقية وفي الحياة الشخصية تروى هنا في سياق فيلم تسجيلي طويل من إبداع المخرج البريطاني المعروف

مايكل ريدفورد

Michael Redford صاحب أفلام “1984” و”البوستينو” أو “ساعي البريد” (1994) و”تاجر البندقية” (2004) والذي أخرج أيضا عددا من الأفلام التسجيلية لحساب تليفزيون بي بي سي.
يقوم الفيلم على البحث في فكرة كيف يمكن أن يتغلب الإنسان على مشكلته الجسدية وحالته المرضية الفريدة، بالعزيمة والثقة والرغبة في التسامي على أزمته، والإصرار على تحقيق التوازن في حياته وقهر المرض بالموهبة.
يقول المخرج ريدفورد إنه لم يكن لديه أدنى اهتمام بالشخصية التي صنع عنها فيلمه قبل أن يكلف بإخراج الفيلم، كما لم يكن يعلم عن بيرتوتشياني شيئا، وربما تكون هذه ميزة انعكست إيجابيا على الفيلم نفسه، فقد أدى الاهتمام “الإنساني” لدى مايكل ريدفورد أو اهتمامه بالجوانب الإنسانية في الشخصية (نتيجة الخلفية الدرامية التي جاء منها) إلى البحث فيما يتجاوز الإطار المعلوماتي، للعثور على كل من اقتربوا من تلك الشخصية الفريدة، ويستطيعون الحديث عن الجوانب الإنسانية الخاصة التي كانت تميزها بما في ذلك الجوانب السلبية أو التي يمكن أن تعزى إلى ذلك الجانب “الشرير” الكامن فيها أيضا.
يتكون الفيلم من الكثير من الوثائق المصورة للحفلات العامة والخاصة التي أحياها بيرتوتشياني كعازف ماهر لموسيقى الجاز، ومجموعة كبيرة من المقابلات مع شخصيات بارزة في عالم موسيقى الجاز مثل جو لوفانو وجون أبركومبي ولي كونيتز، وكذلك شخصيات ليست معروفة لوكلاء فنيين عملوا معه، ونساء ارتبط معهن بالزواج أو الصداقة، وكذلك ابنه الكسندر، وكلهم يتحدثون في الفيلم عن علاقاتهم به وعن شخصيته وسر تفوقه ومقاومته المرض وحبه الكبير للحياة وإقباله عليها ربما أيضا نتيجة معرفته بأنه لن يعيش طويلا.
ويتحكم ريدفورد في فيلمه ويتعامل معه كما لو كان قطعة من موسيقى الجاز، فهو يبدأ متمهلا، بتقديم الشخصية وتاريخها ثم ينتقل للتوقف أمام أهم المحطات والمفاتيح الخاصة بها، وتدريجيا يسرع الإيقاع وصولا إلى الذروة.
كان بيرتوتشيانو يقول إن “الناس لا يفهمون أنه لكي يصبح المرء كائنا إنسانيا ليس ضروريا أن يكون طوله متران، بل المهم ماذا يوجد في عقله وداخل جسده، وبوجه خاص ماذا تمتلك روحه”.
ولعل مما يمكن أن يجعل فيلما كهذا يلقى قبولا على الصعيد العالمي خارج نطاق المهتمين بموسيقى الجاز في العالم، كونه يعكس تجسيدا لحالة إنسانية تنجح في تجاوز الإعاقة وتنطلق إلى العالم لتصنع مجد الإنسان الذي كرمه الله.


إعلان