برناردو برتولوتشي بين التقليد والأصالة
بمناسبة تقديم أفلامه الأولى في مهرجان “كان”
محمد رُضا
يتلقّى المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي جائزة شرفية خاصّة في مهرجان “كان” السينمائي الدولي بمناسبة الدورة الرابعة والستّين. وسيتم للمناسبة عرض بعض أفلامه الأولى التي ستشكّل، لمن لم يشاهدها بعد، مرجعاً مهمّاً للمقارنة بين قديمه وحديثة، علما بأنه يعيش حالياً وضع المعتزل منذ أن أنجز فيلمه الأخير “الحالمون” سنة 2002 على الرغم من التقدير الكبير الذي يشغله المخرج برناردو برتولوتشي في سماء الثقافة السينمائية كأحد المبدعين المهمّين في السينما، إلا أن المرء عليه أن يُعاين أعماله كل على حدة ليجد أنها ليست بالضرورة متساوية في الأهمية على الصعيد الفني على الأقل.

لا جدال أنه اسم كبير، لكن إذا ما كان المرء منصفاً لسواه فإن ما أنجزه هو أعمال ذات تميّز وإجادة وأخرى لم تستطع تحقيق المرتبة ذاتها. بكلمات أخرى، لابد من مقارنته بالمخرج فديريكو فيلليني أو بالمخرج مايكل أنجلو أنطونيوني للتعرّف على الفارق بين إبداع يبدأ من الصفر وآخر يبدأ من نقطة لاحقة. ذاك الذي يبدأ من الصفر أفضل تكويناً لمادة بصرية متساوية الأطراف ولأسلوب موحّد يفي مبدأ الانصهار الكامل بين الفنان وإبداعه. ذلك الذي يبدأ من نقطة لاحقة يلتقط أعماله من مصادر مختلفة بعضها ذاتي يعود إليه وبعضها الآخر مستورد بفعل التأثير. برتولوتشي هو من الفريق الثاني. بلا ريب لديه أفلام مهمّة فناً ومضموناً وبلا ريب جلّ أعماله ليست بمستوى جل أعمال فيلليني أو أندريه تاركوفسكي او ألفرد هيتشكوك أو جاك ريفيت او أنطونيوني الخ…
البعض يحب أن يتعامل مع برتولوتشي السياسي. لكننا نجد، مرّة أخرى، تفاوتاً في المفهوم والالتزام. هو رائع في أعماله الأولى ضد الفاشية والمستوحاة من نظرته إلى الفترة التاريخية التي رصدها، وأقل من ذلك حين أخذ يوزّع مضامين سياسية مختلفة من مكان لآخر وقد فقد التزامه الأول وبات أقرب إلى الباحث الذي لم يقرر بعد أي وجهة سيقصدها في بحثه.
ولد في عائلة مرتاحة ماديا في السادس عشر من شهر آذار/ مارس سنة 1940 في بلدة بارما. والده هو الشاعر أتيليو برتولوتشي. أحب الصبي برناردو الكاميرا منذ صغره وشغقته السينما. أوصى الأب صديقه المخرج بيير باولو بازوليني (وهو شاعر أيضاً) بابنه طالباً منه إلحاقه بأول أعماله “أكاتوني” (1961) ووافق بازوليني على ذلك . كثير من السينمائيين مذكورون في أركان المهام الصغيرة في هذا الفيلم إذا تابعت الأسماء أو حصلت عليها بطريقة ما. ستجد مونيكا فيتي وقد عملت قبل تحوّلها إلى ممثلة في مجال إعارة صوتها لإحدى الممثلات، والممثل سيرجيو شيتي (الذي أصبح لاحقاً أحد وجوه بازوليني المألوفة) في دور صغير (نادل في مطعم). أما برتولوتشي فكان “مساعد إنتاج” ما منحه فرصة التواجد في التصوير طوال الوقت والتعلّم.
في العام التالي كان بازوليني هو كاتب السيناريو لأول فيلم يخرجه برتولوتشي: “الحاصد المتجهم” The Grim Reaper الفيلم يعكس أجواء بازوليني ويستلهم أيضاً تلك التي كانت تعيش فوق سطح السينما الإيطالية في الخمسينات. ليس فيلماً واقعياً بالمعنى الذي أسسه فيتوريو دي سيكا أو روبرتو روسيلليني، لكنه أقرب إلى صنعة بازوليني نفسه، من حيث مكان الحدث المحفور في أزقة البيئات الدنيا، كما من حيث اهتمامات المخرج بازوليني من الشخصيات. إلى ذلك، هناك نَفَسُ تسجيلي في هذا الفيلم لا يمكن إغفاله وهو يتحدّث عن العاهرة التي تم اكتشاف جثّتها في الحديقة فجيء بالمشتبه بهم من المكان ليحكي كل منهم قصّة الغالب. إنها ليست حقيقية ولتحيط الشبهات بالشاب المثلي الذي يعاني من تفرقة وضغينة البعض عليه. لكن الفيلم لا يمتثل لوجهة مُعيّنة. هو قائم على لغز مركزي “من القاتل؟” كمبرر لاستعراض شخصياته، ورغبة في توفير الجواب نجد الفيلم لا يستفيد كثيراً من معطيات شخصياته ويبدد ما بناه منها كلما اقترب من نهايته. مثيرا إبقاء المحقق مغيّباً (نسمعه ولا نراه) فهو متآلف مع التحقيق الذي يجريه المخرج عبر كاميراته، لكن الفيلم لا يستنطق حقائق في نهاية المطاف بل يعرض وجهات نظر فيها.

واحد من التبعات التي تحدث حين يعمد المخرج إلى أسلوب تسجيلي يرصد به حكايته هو أنه قد يأخذ، في غمار اكتفائه بالرصد، مسافة من الشخصيات ويقدّم فيلماً تنقصه الحرارة. هذا إلى حد بعيد ما يقع فيه برتولوتشي في فيلمه الأول هذا. هذا هو أيضاً منحى أعمال بازوليني المختلفة ما يكشف التأثير الذي تركه هذا على المخرج الشاب.
هذا لا يعني أن المرء سوف لن يلحظ أن بازوليني أسّس شيئاً من عناصره الخاصّة خصوصاً حين يأتي الأمر إلى استخدام اللون الداكن ليخلق عمقاً للصورة أو ليضربها باللون الأبيض في تناقض واضح. هذا التصوير التعبيري موجود مثلاِ في فيلمه اللاحق “الملتزم” بعد تسع سنوات وقد أصبح معلماً مهماً في أسلوبه.
برتولوتشي تأثّر أيضاً بجان-لوك غودار. أحب صنعة المخرج الفرنسي وأسلوبه التركيبي ومنحاه السياسي. هذا واضح في فيلم برتولوتشي الثاني “قبل الثورة” حيث مزيج من الأسلوبين معاً يطغيان على الصورة والمضمون. كلاهما (الصورة والمضمون) سيتبلوران أكثر في فيلمه اللاحق. “قبل الثورة” يدور حول شاب ينضم إلى الحزب الشيوعي في الوقت الذي لا يزال يسعى فيه لمعرفة نفسه. قراءة هويّته وتحديد اتجاهه. يُصاب الشاب بصدمة حين يغرق صديق له (لا نعرف إذا كان عن حادثة أو انتحاراً) وينطلق بطل الفيلم متأثراً ومعانياً. حين يلتقي بقريبته يرتبط معها بعلاقة عاطفية يحاول من خلالها سد ذلك الجانب التائه من ذاته. هذا ما يحوّل الفيلم من بحث في موضوع مهم، إلى موضوع أقل أهميّة خصوصاً وأن نهاية ذلك الفيلم هي مصالحة الشاب مع خلفيّته البرجوازية.
إذا كان في فيلمه السابق عمد إلى تورية المحقق، فإنه هنا يعمد إلى شخصيات تنظر إلى الكاميرا وتتعامل معها. لكن هذه المرة سنجد أن هذا الفيلم لم يترك الرصيد البيّن الذي ينشده كل مخرج بل كان عتبة ثانية صوب الوصول إلى الأفضل. لمن شاهد أفلام برتولوتشي اللاحقة، سيجد أن المخرج تهرّب أكثر من مرّة من اعتناق ما يوفّره. قبل أي ثورة يتحدّث عنوان الفيلم؟ لن نعرف إلا إذا كانت ثورة بطله على نفسه، لكنها ليست ثورة بل ارتداد.
بعد هذا الفيلم جاء دور بضع كتابات (من بينها كتابته لقصّة “حدث ذات مرّة في الغرب” الذي أخرجه سيرجيو ليوني سنة 1968) وفيلم قصير (“حب وغضب” سنة 1967) وفيلم طويل (“شريك” سنة 1968 الذي لم أشاهده). في العام 1970 قدّم الفيلم الذي سيضعه فعلاً على الخارطة: “الملتزم”.
إنه عن شاب ايطالي اسمه مارشيللو (الفرنسي جان- لوي ترتينيان) متزوّج من فتاة اسمها غويليا (ستيفانيا سندريللي) ويعيش في ظل الفترة الموسيلينية ينضم إلى الحزب الفاشي لأهداف غير إيديولوجية: إنه يحاول فتح صفحة جديدة في حياته الخاصة بعيدة عن ماضيه الذي يعتبره ملوّثاً بسبب حادثة قتل وحادثة معاشرة مثلية. يرى أنه إذا ما تمثّل وتماثل بالحزب الفاشي فإن ذلك سيمنحه القوّة والنقطة التي يريدها لأجل أن ينطلق بعيداً عن ماضيه. الحزب بدوره يطلب منه البحث عن أستاذه السابق وقتله. ولتنفيذ ذلك عليه الذهاب إلى باريس حيث يعيش البروفوسور كوادري (إنزو تاراشيو). هناك يقع مارشيللو في حب زوجة البروفسور انا (دومينيك ساندا).
إنها رواية ألبرتو مورافيا التي تجاوزها المخرج في عمله هذا رغم بقائه أميناً لما ورد فيها من أحداث ومشاعر. لكن بين الرواية التي تتميز بسرد وا��ح الأسلوب وبين الفيلم الذي يغلّف كل شيء بسرد متشابك يكمن الاختلاف. في أحد وجوهه تطويع المادة الروائية لقدر كبير من الابتكار في السرد. الفيلم يبدأ من نهايته ثم يعود في “فلاشباك” ثم هناك “فلاشباك” في “فلاشباك”. لكن إجادة الفيلم لها أسباب أخرى أيضاً. إنها في تحوّل الفيلم من الضياء إلى الدكانة. من الوعد الكبير لمرحلة جديدة من الحياة إلى الغرق في القاع من جديد، وأكثر من ذي قبل.