التوتر يسود حين يكون الحديث عن فيلم إسرائيلي

إثر عرض الفيلم الإسرائيلي “ملاحظة”  في مسابقة الدورة الأخيرة من مهرجان “كان”، بدا واضحاً أن ثمّة ميلا كبيرا في المهرجان لقبول أفلام على نحو سياسي. ليس أن الفيلم، الذي أخرجه جوزف شيدار،  سياسي أو يطرح مسألة سياسية، بل لأن قبول هذا الفيلم بمستواه الفني السيئ  وبنبرته العالية من الافتعال، لا يمكن إلا أن يكون موقفاً سياسياً
أكثر من ذلك، أن أولئك النقاد الذين أحبّوا الفيلم ودافعوا عنه، وبعضهم يكتب بالعربية، عادة ما يكتبون إيجابياً عن الأفلام التي تحمل العلم الإسرائيلي، ولو من باب الظهور بأنهم أصحاب مبادئ منفتحة على الآخر.

فيلم “ملاحظة”

وفي الحقيقة إن البعض من نقاد السينما والمثقفين العرب  يواجه مشكلة الحديث عن السينما الإسرائيلية. فريق من هؤلاء يعتبر أن أي حديث عن السينما الإسرائيلية هو بمثابة اعتراف سياسي بها وبالتالي بالدولة العبرية التي منذ إنشائها قبل 62 سنة وهي تخوض حرب بقاء مع جيرانها في السلم كما في الحرب.
لكن إذا ما كان هذا الفريق يُغالي في حذره معتبراً أي حديث هو بمثابة تطبيع أو اعتراف، فإن هناك فريقاً مناوئاً ينطلق من موقف خاطئ آخر يعتبر نقد الأفلام الإسرائيلية هو هجوم عليها والهجوم عليها نابع، فقط، من المعاداة السياسية لذلك الكيان
هذا الفريق مستعد لاعتبار أن عدم الإشادة بفيلم من مخرج إسرائيلي (لنقل أموس غيتاي)  يساري لا يمكن إلا أن يكون ناتجاً عن اعتبار كل المخرجين سواسية حسب نظرة تقليدية لا يهمّها التفريق بين منطلق هذا الفرد أو ذاك.
تبعاً لذلك، فإن قدراً من الهيمنة على استقلالية الرأي من قِبل الطرفين باتت مشهودة ومُمارسة. فريق مستعد لاعتبار أن مجرّد الحديث عن موضوع السينما الإسرائيلية كان وسيبقى قبولاً بالآخر إلا إذا كان هجوماً شاملاً، وآخر -في الواقع أكثر خطورة- يتعامل مع الموضوع على أساس أن الهجوم لا شك يلوّن صاحبه بمنظور رجعي بائد معاد للسلام ويكاد يكون معادياً للسامية أيضاً كما لو أن العرب ليسوا أيضاً شعباً سامياً.

على ذلك، لابد من إعادة الاعتبار إلى الطبيعة النقدية للناقد السينمائي القادر على معاملة الفيلم الإسرائيلي معاملته للفيلم الأوكراني أو الفرنسي أو المصري أو الأرجنتيني من دون فرق. ذلك الذي لا يخشى إعلان إعجابه، أو عدمه، بفيلم ما. وإذ يبدو ذلك بديهيا وأمراً لا خلاف عليه، إلا أنه وتبعاً لما سبق ونظراً لأننا في الدول العربية عبارة عن مجموعات من المواقف والآراء، ليس كذلك.

الأفلام الإسرائيلية الحديثة هي مثال على أن الإعجاب أو عدمه بات مرتبطاً، لا في عالمنا العربي فقط بل في المحيط الغربي عموماً، بالموضوع السياسي خصوصاً وأن الأكثر تداولاً وشهرة مما تم إنتاجه من أفلام إسرائيلية في السنوات الخمس الأخيرة، تعاملت ومواضيع سياسية وسياسية- عسكرية في حين توارت عن الظهور، إلا في المهرجانات المتعددة التي تُقام في القارات الخمس تحت عنوان “مهرجان الفيلم الإسرائيلي”، كل تلك الأعمال الدرامية والكوميدية المختلفة التي هي النسبة الأعلى من بين المنتوج السينمائي الإسرائيلي كل عام.

هذا مع العلم أن أكثر الأفلام رواجاً في إسرائيل هي بدورها ليست تلك التي تحمل هموماً ومشاغل سياسية والتي يتم ترشيحها للمهرجانات العالمية أو مناسبتي الأوسكار والغولدن غلوبس، بل تلك التي تتحدّث ربما عن مشاكل عاطفية بأسلوب كوميدي كما الحال  في “جزر مفقودة” لراشيف لي?ي او عن دراما ذات طابع عاطفي إنساني كما حال “قضية حجم” لشارون ميمون. كلا هذين الفيلمين تبوّأ القمة بين إيرادات الأفلام الإسرائيلية التي عُرضت في العام الماضي
وفي حين أن “قضيّة حجم” يتناول قصّة رجل بدين جدّاً يقرر أن الخروج من وضعه، بعدما فشل في إنزال وزنه، هو التحوّل إلى لاعب رياضة  سومو اليابانية مما سيكسبه الثقة بنفسه ويحوّل الأنظار الهازئة به إلى معجبة، فإن “جزر مفقودة” يتحدّث عن شباب الثمانينات داخل إسرائيل من خلال قصّة عائلية من والدين وخمسة أولاد اثنان منهما توأم وكلاهما واقع في حب فتاة واحدة على ذلك، وكما الحال في الكثير من الأفلام الرومانسية أو الدرامية أو الكوميدية الإسرائيلية، فإن التطرّق إلى ما كان واقعاً  في تلك الأيام موجود كحاشية طبيعية. ففي الخلفية هناك  حديث عن ضرب المفاعل النووي العراقي، وبداية الحرب التي خاضتها إسرائيل في لبنان
أما “ملاحظة” للمخرج ذاته الذي قدّم بإجادة أفضل قليلاً “قلعة شقيف” قبل ثلاث سنوات فهو عمل يتعلّق بقضية أستاذا فلسفة إسرائيليان كبيران في السن والمكانة، يحملان اسما واحداً. إنهما أب وابنه. يتقرر منح جائزة الدولة السنوية للأب  لكن في ذلك القرار خطأ إداري كبير، فالمقصود بها هو الابن الذي يعرف وقع الصدمة على أبيه وعلى علاقتهما ببعضهما البعض (وهي العلاقة المتوتّرة دوماً) إذا ما تم سحب الجائزة منه ومنحها إلى ابنه. يحاول الابن التدخل في قرار اللجنة ويشهد الاجتماع المخصص لذلك في غرفة ضيّقة لا يمكن فتح أو إغلاق بابها إلا بإزاحة كراسيها المنتشرة حول طاولة النقاد، نقاشات ثم ملاسنات ثم تدافع بالأيدي.

فيلم “شجر الليمون”

هذا المشهد يقف عند الحد الفاصل بين الكوميديا والدراما لكن اختيار هذا الموقع ليس سليماً وهذا الحد يمتد خطّاً متوعكاً وغير سليم من مطلع الفيلم إلى نهايته. إنه كمن يحاول بيع فيلمه لهواة الدراما حيناً وهواة الكوميديا حيناً دون أن يكون الفيلم مجدياً في الناحيتين تحت سقف واحد.
في الأعوام الأخيرة، تكاثر ظهور الأفلام الإسرائيلية التي تريد الوصول إلى العالم بعد فترة تكاثرت فيها الأفلام الفلسطينية التي وصلت، بفضل مخرجيها من أمثال رشيد مشهراوي وإيليا سليمان وماري آن جاسر وسواهم، إلى العالم. وكّلنا نتذكّر “لبنان” و”زيارة الفرقة” و”شجرة الليمون” وسواها، وإذا ما كان التجاذب حولها بين معجب بالكامل ومناوئ بالكامل، بالإضافة إلى من يأخذ كل فيلم بما حمله من خيارات وإيجابيات وسلبيات، برهن على شيء، فعلى أنها غير متساوية وعلى أن السينما، وهو أمر يُقال للمرّة المليون، خير معين على نشر الفكر السياسي وليس العكس.


إعلان