الثورات تتجول في مهرجانات السينما العربية
عندما توقف “بينالي السينما العربية” في باريس لأسبابٍ اقتصادية (كما يُقال)، كان قد ساهم مُسبقاً، وبأكثر من طريقةٍ في دعم مهرجاناتٍ أوروبية تخصصت بالسينما العربية، وتأسّست انطلاقاً من أهدافٍ اجتماعيّة، سياسيّة، ثقافيّة، أو سينمائيّة…
ويبدو أنّ المهرجانات التي ظهرت بعده تمتلك حظوظاً أفضل طالما تحلت إداراتها بشفافيةٍ تُمكنها من تحقيق أهدافها، أو على الأقلّ بعضاً منها؛ منذ أيامٍ، وقبل الترويج لمعلوماتٍ عن “مهرجان السينما الأوروبية العربية” المعروف اختصارًا بـ “آمال” والمنعقد في “سنتياغو دي كومبوستيلا” بإسبانيا، والذي يستعدّ لإفتتاح دورته التاسعة خلال الفترة الممتدّة من 24 إلى 29 أكتوبر 2011؛
أبديتُ تحفظاتي على إحدى التوصيفات التي منحتها الإدارة بأنه “المهرجان الوحيد في أوروبا المُتخصص بالسينما الأوروبية العربية”، واعتقدتُ بأنّها غافلة تماماً عن المهرجانات، والتظاهرات التي تهتمّ بالسينما العربية، إلا أنه سرعان ما وصلتني رسالة لطيفة فحواها : “في الحقيقة “آمال”، هو المهرجان الأوروبيّ العربيّ الوحيد في أوروبا، صحيحٌ بأنّ هناك مهرجانات متخصصة بالسينما العربية حصراً، مثل المهرجان الدولي للفيلم الشرقي في “جنيف”(1)، مهرجان الفيلم العربي في “روتردام”(2)، مهرجان الفنون العربية في “ليفربول” ..إلخ.
وهناك مهرجانات أكثر تخصصاً حول فلسطين مثلاً، كحال مهرجان الفيلم الفلسطيني في لندن، أو لقاءات سينمائية حول السينما الأفريقية، مثل موسترا السينما الإفريقية في برشلونة، وموسترا السينما العربية المتوسطية في “كاتلانيا”.

يهدف مهرجان (آمال) السينمائي لتكريس الإنتاج المشترك بين العالمين العربي والأوروبي، تنصهر فيه الثقافة العربيّة من خلال الأفلام السينمائيّة حسب ما ورد في التصريح الذي أدلت به إدارة المهرجان “يتحدّد الهدف الرئيسي للمهرجان باللقاء بين أوروبا، والعالم العربي، والانتاجات المُشتركة في واجهة المهرجان عديدة “(3).
ومهما كانت قناعة إدارة مهرجان “آمال”، يُشير الواقع العمليّ بأنّ معظم المهرجانات المُتخصصة بالسينما العربية تتوافق في خطتها البرامجية، حيث تخطت جميعها فكرة الأفلام العربية المُنتجة برأسمالٍ وطنيّ خالص، وتجاوزتها إلى أفلام مُشتركة الإنتاج مع دولٍ أخرى، وحتى أجنبية مُنجزة بالتعاون مع سينمائييّن عرب، أو ذوي أصولٍ عربية، وهي نفس المفاهيم التي بدأها، وكرّسها “بينالي السينما العربية” في باريس قبل أن يتوقف، وهو الذي كسر حاجز التخوّف من عرض أفلام إسرائيلية أنجزها مخرجون فلسطينيون يعيشون في الداخل أو الخارج (درب التبانات/علي نصار، عطش/توفيق أبو وائل، وسجل اختفاء/إيليا سليمان…) .
ومع ذلك، تُعتبر المهرجانات الحالية امتداداً للجهود الحثيثة التي بذلتها مجموعة من السينمائيين، والنقاد العرب منذ الثمانينيات، أولئك الذين عاشوا، أو ما يزالوا يعيشون في فرنسا، ومنهم المرحوم “غسان عبد الخالق”، د.”ماجدة واصف”، “خميس خياطي”، “ماري كلود بهنا”، “أحمد المعنوني”، “سعيد ولد خليفة”، “علي عقيقة”..وغيرهم ممن قدموا مبادراتٍ مُعتبرة للتعريف، والترويج للسينما العربية بإصدار مجلاتٍ، وتأسيس مهرجاناتٍ، ودعم تظاهراتٍ؛
واليوم تتواصل مسيرة السينما العربية في العالم عن طريق مهرجانات كثيرة سوف تعوّض عن تلك التي تأجلت، أو توقفت، وتصبح متنفساً حقيقياً للسينما العربية في الخارج، وفي هذه الحالة، رُبما يتوّجب على أيّ مهرجانٍ يستنزفُ ميزانيته في إغراء السينمائييّن العرب، واستقطاب أفلامهم لعروض أولى، إثبات حسن النوايا، والتوقف عن مُمارساتٍ لن تستمرّ مدى الحياة، والحدّ من الضرر الذي أحدثته في الوسط السينمائي العربي، والوعيّ بأنّ هذا السخاء الجامح لا يصنع مهرجاناً سينمائياً مخلصاً لأهدافه وطموحاته، ولن يكون أكثر من رصيدٍ مصرفيّ يُفسد علاقة السينمائيين العرب مع المهرجانات السينمائية العربية التي تُعتبر بحقٍّ نوافذ مفتوحة لنشر السينما العربية، لأنها، ببساطة، بدأت تعاني من نزواتٍ هوسية مُنفلتة من أيّ ضوابط احترافية لا تُجسد رغبةً صادقةً بتطوير السينما المحلية- العربية، والسينما بشكلٍ عام، ويكفي الإشارة بأنّ السينمائيّ الأجنبيّ ينتظر مهرجاناتٍ مثل “كان”،” برلين”، و”فينيسيا” للحصول على فوائد اعتبارية وترويجية، بينما يُخبئ السينمائيّ العربي فيلمه انتظاراً لمهرجانٍ عربيّ يقدم له أفضل الإغراءات المادية، وهو أمرٌ لا يجرؤ على طلبه من مهرجاناتٍ أجنبية، حيث تعتبر مشاركة الفيلم في حدّ ذاتها فائدةً تُغني من أيّ مبلغ يقبضه ثمن عرضٍ عالميّ أول، جائزة خيالية، أو دعماً ماليا مُقنعاً.

ولهذا السبب سوف أميل أكثر إلى دعم المهرجانات الفقيرة في ميزانياتها، والمُخلصة في تحقيق طموحاتها، وأهدافها، وهي منتشرة في بلدانٍ أوروبية عديدة، و”مهرجان السينما العربية” بإدارة المصري “عادل سالم”، واحد منها يواصل مسيرته بصمتٍ وثباتٍ، وسوف تنعقد دورته الرابعة في “أمستردام” خلال الفترة الممتدة من 26 مايو إلى غاية الفاتح من يونيو2011، ومن ثمّ تنتقل عروضه إلى مدنٍ هولندية أخرى (“ماستريخت”، “لاهاي”، “أوترخت”.. ).
هو مهرجانٌ غير تنافسيّ، أيّ بدون مسابقاتٍ وجوائز، ينعقدُ كلّ سنتين، ويتوجه إلى جمهورٍ محليّ بدون سجادة حمراء أو خضراء، ولا يعنيه الابتهاج بحضور هذا النجم، أو تلك النجمة، الأفلام هي نجوم المهرجان الذي يبدو بأنه يستثمر الثورات العربية بدون المُتاجرة بها في تصريحاتٍ، وبياناتٍ زاعقة.
السينما المصرية حاضرة بأفلامٍ فرضت نفسها في المشهد السينمائي العربي، وشكلت انعطافاتٍ مهمّة في واقع السينما المصرية حالياً “الخروج من القاهرة” لمخرجه /هشام العيسوي، “ميكرفون” لـ/أحمد عبد الله، “678” للمخرج /محمد دياب، بالإضافة إلى عدد من الأفلامٍ الروائية والتسجيلية العربية “مختار سبيل”،” آخر ديسمبر”، “زهور كركوك”، “جبال القنديل”،” حياة قصيرة”، “مملكة النساء”..
وبالموازاة للعروض السينمائيّة سوف تنعقد ندوتان، الأولى بعنوان “قضايا عائلية”، والثانية عن “الربيع العربي”، وحبة الكرز التي سوف تتوّسط الكعكة ـ على حدّ تعبير إدارة المهرجان ـ سهرة موسيقية مع الفرقة “مسار إجباريّ” المصرية والتي تألقت بأدائها في فيلم “ميكرفون”، ولعبت دوراً مهماً خلال الثورة.
وقريباً، سوف يُضاف “مهرجان الفيلم العربي” بإدارة الفلسطيني “محمد قبلاوي” إلى قائمة المهرجانات الأوروبية المُخصصة للسينما العربية، ومن المُزمع انعقاد دورته الأولى في “مالمو”بالسويد خلال الفترة من 23 إلى 27 سبتمبر 2011.
وبالإضافة لمُسابقة الأفلام الروائية الطويلة، والقصيرة، والتسجيلية، تكشف الملامح العامّة عن عروضٍ جماهيرية سوف تتوزع في أماكن مختلفة من المدينة، وندواتٍ تُنشط حول موضوعاتٍ متعددة : “سينما المرأة وأفلامها”، “الحرية”، “الثورات العربية”.. والتي كما كتبتُ يوماً بأنها سوف تصبح التيمة المُفضلة لمعظم المهرجانات العربية والعالمية (مهرجان كان على سبيل المثال).
كما يستعدّ المهرجان لإستضافة السينما الخليجية في احتفاليةٍ ، ومن المفيد أن نتذكر دائماً تلك البذور التي زرعها “مسعود أمر الله” في “مسابقة أفلام من الإمارات” بأبو ظبي (إلى غاية دورتها السادسة)،
إذ حصدت تلك المُبادرة أفلاماً، وخلقت حراكاً سينمائياً انتقلت عدواه الجميلة إلى البلدان الخليجية المُجاورة (تبعتها العراق، واليمن)، وأثرّت في عموم المشهد السينمائي العربي، كما حفزت على تأسيس مهرجاناتٍ سينمائية في كلّ من: “دبي”، “أبو ظبي”، “الدوحة”، و”مهرجان الجزيرة للأفلام الوثائقية”، تمتلك جميعها مقوّمات كفيلة بالتطوّر وصناعة النجاح.
الهوامش
(1) ـ المهرجان الدولي للفيلم الشرقي في جنيف (سويسرا) بإدارة الجزائري “طاهر حوشي” غير متخصص بالسينما العربية ـ كما يُوضح عنوانه ـ، ويعرضُ أفلاماً من تركيا، إيران، وحتى أفلاماً إسرائيلية متعاطفة مع القضية الفلسطينية.
(2) ـ مهرجان الفيلم العربي في روتردام(هولندة)، بدوره، كان يعرضُ أفلاماً إسرائيلية مُتعاطفة مع القضية الفلسطينية.
(3) ـ نصّ التوضيح الذي وصلني من إدارة مهرجان السينما العربية الأوروبية (آمال) في “سنتياغو دي كومبوستيلا” (إسبانيا).
من المفيد الإشارة أيضاً إلى مهرجان الفيلم العربي في فاميك (فرنسا)، والذي يعرض في مسابقته الرسمية أفلاماً إسرائيلية، ومهرجان الفيلم العربي في برلين .