ابق إنساناً: المناضل الحالم فيتوريو أريجوني

كانت مفاجأة سارة لنا عندما رأينا إعلاناً عن عرض فيلم عن المتضامن الإيطالي فيتوريو أريجوني، مفاجأة ربما بددت قليلاً من الحزن الذي كابدناه على مقتل هذا المناضل الحالم الذي ترك أهله ورغد العيش في بلاده ليلتحق بأهالي غزة المحاصرين، ماداً يد العون لهم ومدافعاً عن قضيتهم وناشراً لقصصهم ومتحدثاً عن المآسي التي تحل بهم جراء الحصار الظالم والخانق الذي يفرضه عليهم العدو الإسرائيلي. كان إذاً ثمة أناس في غزة يدركون أهمية عمل فيلم عن هذا المناضل الذي انتهت حياته في الخامس عشر من نيسان الماضي على نحو تراجيدي يذكرنا بمقتل المناضل التاريخي أرنيستو تشي غيفارا. كان الفيلم بعنوان “ابق إنساناً”، وقد أنتج في غزة بإخراج محمود عزت وعرضته قناة الجزيرة الوثائقية قبل أيام. والعنوان هو الجملة التي كان  أريجوني يختتم بها مقالاته التي كان يكتبها من غزة وينشرها في عدد من المجلات والصحف الإيطالية منها “المانيفيستو”، إضافة إلى مواقع الإنترنيت ومدونته. تلك المقالات التي فضحت الإسرائيليين على مستوى العالم وقضّت مضاجعهم على مدى سنوات ثلاث ودفعتهم، حسبما تشير كل الدلائل، لتدبير حادث القتل الذي نُفِّذ على أيدي جماعة سلفية في غزة.

اعتمد المخرج في عمل فيلمه على أسلوب المقابلات، والنأي عن السرد، وجلُّ المقابلات تجرى مع موضوع الفيلم فيتوريو أريجوني، ومع بعض  المقربين منه… كما اعتمد التسلسل التاريخي لرواية أحداث القصة، تخلله عودة إلى الوراء للحديث عن طفولة أريجوني ونشأته وتربيته. فأريجوني الذي ورث روح المقاومة عن عائلته أتى إلى غزة للمرة الأولى في آب/ أغسطس 2008 مع ما يقرب من خمسين ناشطاً من 18 دولة أتوا ضمن “قافلة الحرية” لكسر الحصار المفروض على غزة، لكنه بقي هناك مع عشرة من رفاقه ليعيدوا تأسيس منظمة “حركة التضامن الدولية مع غزة” التي انتهت نشاطاتها بعد مقتل اثنين من أعضائها هما راشيل كوري وتوم هاريندال على أيدي جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وكانت أول مهمة لديهم هي تقديم يد العون للصيادين، أكثر المتضررين من هذا الحصار. فالقانون الدولي يسمح للصيادين بممارسة عملهم في مياه تمتد إلى مسافة عشرين ميلاً في مياه البحر بعيداً عن الشاطئ،

إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تمنعهم من الصيد أبعد من ثلاثة أميال، لكن المياه في هذه المنطقة ملوثة جداً وفقيرة بالسمك. وتلوثها ناجم عن تخريب شبكة الصرف الصحي جراء القصف الإسرائيلي لغزة خلال المذبحة التي ارتكبتها إسرائيل بحق أهالي القطاع في كانون الثاني 2008 وما سمي بعملية “الرصاص المصبوب”. كانت مهمة أريجوني ورفاقه في حركة التضامن الدولية هي حماية الصيادين الفلسطينيين من القصف الإسرائيلي أثناء الصيد. لكن عبر أية وسيلة؟ إنها أخطر وأنبل وأجرأ وسيلة يمكن لمجموعة بشرية أن تلجأ إليها، وهي تحويل أجسادهم إلى دروع بشرية في مواجهة القصف. وسيلة حققت نتائجها عندما حالت دون قيام قوات الاحتلال الإسرائيلي من ارتكاب المزيد من الجرائم بحق هؤلاء الصيادين، والسماح لهم بالصيد على مسافة أبعد من الأميال الثلاثة المحددة لهم في عمق البحر. لكن حماية الصيادين لم تكن لتمر بسلام. فأريجوني يروي حادثة قيام أحد عشر زورقاً إسرائيلياً بمحاصرة ومهاجمة ثلاثة من قوارب الصيد كان على متنها هو واثنين من رفاقه إلى جانب خمسة عشر صياداً. وقد انتهت باعتقال الجميع واحتجاز القوارب بعدما قام الجنود الإسرائيليون بتعذيب أريجوني وضربه بمسدس كهربائي. ولم يتم إطلاق سراحهم وإعادة القوارب إلا بعد قيامهم بمظاهرة داخل المعتقل إلى جانب إضرابهم عن الطعام. وفي رحلة صيد أخرى قام زورق إسرائيلي بقصف قارب صيد فلسطيني كان أريجوني على متنه مما أدى إلى إصابته بطلقات في خاصرته تظهر آثارها لنا عدسة الكاميرا.
تظهر لنا الكاميرا المتضامن فيتوريو أريجوني وهو على قوارب الصيد مع الصيادين الذين يقوم بحمايتهم، ومع الفلاحين في الحقول وهو يساعدهم إلى جانب رفاقه المتضامنين الأجانب في قطف الثمار وحمايتهم من الرصاص الإسرائيلي الذي يستهدفهم خلال عملهم في الحقل، لنكون بذلك أمام واحد من أقوى مشاهد الفيلم. ومثل هذا المشهد يتكرر بشكل يومي وأحياناً ينتهي بمأساة عندما يصاب واحد أو أكثر من الفلاحين أو يقتل. ومثل هذه الجرائم كان أريجوني ورفاقه يقومون بتوثيقها. يقول: “في كل مرة نكون شهود عيان على ما يحدث هناك. عندما يقوم هؤلاء الفلاحون بجمع المحاصيل من أراضيهم يقوم القناصة المتمركزون على الحدود بإطلاق النار محاولين قتل هؤلاء الفلاحين المجردين من السلاح”. وكدليل بصري على ذلك يتمكن المخرج من تصوير مشهد لجنود الاحتلال وهم يطلقون النار على الفلاحين العزل خلال عملهم في حقولهم ويصيبون عدداً منهم بمقتل. ثم نرى لقطة لجثة ملقية في أرض الحقل لأحد الفلاحين الذين أصيبوا وقد هرع المتضامنون والأهالي لسحبها وهم ينادون جنود الاحتلال طالبين منهم وقف إطلاق النار.
يظهر لنا أريجوني مدى احترام الفلسطينيين للموتى بغض النظر عن هوياتهم الدينية أو العرقية، وذلك في مشهد يزور فيه مقبرة البريطانيين في غزة، تلك المقبرة التي تعود إلى الحرب العالمية الأولى وتضم رفات موتى من مختلف الأديان والأجناس. وتظهر المقبرة كم هي نظيفة وجميلة ومعتنى بها، لدرجة يتساءل معها المرء إن كانت هذه في غزة بالفعل.
لقد غيّر فيتوريو من رؤية الفلسطينيين إلى قضيتهم، كما يعبر أحمد الصفدي الموظف في إحدى المنظمات الخيرية في غزة. فأحمد لم يكن يؤمن بفعالية المتضامين الأجانب وقدرتهم على تغيير شيء في مسيرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن بعدما رأى ما يقوم به فيتوريو ورفاقة والنتائج التي حققوها على الأرض تغيرت رؤيته إلى هؤلاء المتضامنين وإلى قضيته نفسها، وأصبح أكثر إيمانياً بها وقرباً منها. فإذا كان هناك أناس من مختلف بقاع الأرض يأتون إلى فلسطين متضامنين مع قضية شعبها إلى هذا الحد، فكيف هو الحال إذاً مع أصحاب القضية أنفسهم، أبناء الشعب الفلسطيني؟ وهنا ثمرة جديدة تضاف إلى ثمار أعمال هؤلاء المناضلين المتضامنين، أي عندما جعلوا المواطن الفلسطيني أكثر إيماناً بقضيته.
يلقي الفيلم ضوءاً على سيرة فيتوريو. عندما يصوره في أحد المقاطع الفيلمية وهو يتحدث عن نفسه. ومن خلال هذا الحديث، إلى جانب حديث آخر أتى في أحد المشاهد الأخيرة للفيلم، نرى كيف ورث أريجوني روح المقاومة عن عائلته، يقول: “عائلتي كان لها باع في النضال، فجدتي كانت مناضلة أثناء الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية، وربما بسبب ذلك انتقل إلي هذا الإرث فشعرت بأهمية النضال من أجل الحرية”. أما والديه فكانا على معرفة كبيرة بالقضية الفلسطينية، وهما جعلا منه شخصاً “يحب ويحترم العدل ويقدر الآخرين ويعبر عما بداخله… لم يجعلوني غير مبال ولم يجعلوني أيضاً مندفعاً في مواجهة الظلم”، وعندما كان يُسأل عن سبب تركه لحياة الرفاهية في إيطاليا والالتحاق بالفلسطينيين في غزة كان يجيبهم أنه من المستحيل العيش في رفاهية وهناك شعب على الضفة الأخرى من المتوسط يعاني… “هناك شعب يستحق كل مساعدة ومن المستحيل العيش في رفاهية وجيراننا بجانبنا يعانون… كيف لا نرى ونشعر بالذي يحدث لهم؟ ولذلك تركت كل شيء وجئت إلى هنا لأخفف هذه الآلام، جئت لأخوض الصراع الطويل بجانب الفلسطينيين”.

خلال الحرب الإسرائيلية على غزة في ديسمبر/ كانون الأول 2008، الحرب التي يسميها فيتوريو بالمذبحة، كان فيتوريو يعمل من خلال مقالاته على تقويض الإدعاء الإسرائيلي بأن هذه الحرب هي للدفاع عن النفس. ويبين أن هدفها لم يكن سوى الإبادة الجماعية لمليون ونصف المليون من المواطنين المحاصرين والمسجونين داخل بقعة صغيرة من الأرض. في 18 كانون الأول قصف جيش الاحتلال إحدى مشافي غزة بالفسفور الأبيض، واستهدف سيارات الإسعاف والمسعفين. عندها عقد فيتوريو مع عدد من رفاقه مؤتمراً صحفياً أعلنوا فيه أنهم سيرافقون سيارات الإسعاف، علَّ ذلك يمنع جيش الاحتلال من الاستمرار في قصفها، وقد بقوا في تلك السيارات بمرافقة المسعفين رغم تحذير مسؤولة منظمة التضامن الدولية في القدس من أنهم قد يتعرضون للقتل.
كانت مقاطعة البضائع الإسرائيلية أحد أسلحة فيتوريو في مقاومة الاحتلال. وهو يدعو إلى تعزيز هذه المقاطعة: “أريد أن أصب اهتمامي على حملة مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وهذه المنتجات يمكن التعرف عليها من خلال الأرقام الثلاثة الأولى لكود التعريف وهي 729، أعتقد أن المقاطعة هي السلاح الأفضل في ترسانة عدم العنف، وبما أن هذه المقاطعة قد نجحت في هزيمة نظام الحكم العنصري للبيض في جنوب أفريقيا فأعتقد أنها يمكن أن تنجح في تدمير إسرائيل وتحميلها مسؤولية جرائم الحرب ضد الحقوق الإنسانية”.
إن أهمية ما يقوله أريجوني، سواء من خلال هذا الفيلم أو من خلال مقالاته، نابع من أنه يأتي من قلب التجربة، تجربته في العيش والنضال مع الشعب الفلسطيني ضد محتل قلما شهد التاريخ مثل قبحه وشراسته. إنه نابع من معايشته للمأساة بكل تفاصيلها وأبعادها. في المقطع الأخير للفيلم نجده يسترسل في الحديث الوجداني عن تلك التجربة المريرة، ومن بين ما يقوله: “وجدت نفسي مع الشعب الذي يصارع من أجل الحرية والعدالة، من أجل المبادئ نفسها التي أتعلق بها”. وهذه الوجدانية أرخت بظلالها على عقول العاملين في الفيلم وقلوبهم، وكانت النتيجة أن قدموا لنا فيلماً وثائقياً ممتعاً ومؤثراً وجميلاً من حيث المضمون والإخراج والتصوير والموسيقى والمونتاج.


إعلان