“كم لنا” تسجيلي نواجه به النسيان
على مدى 65 عاماً احتفل السوريون بيوم الاستقلال في السابع عشر من نيسان…
في كل عام تمر الذكرى في الربيع وفي الربيع كان للاحتفال بها عزٌ غابر… مناسبةٌ طمستها الكثير من المناسبات الأخرى “المحدثة” عبر السنوات والأحداث، الانقلابات، الحروب والإنجازات… حتى أصبح إنساننا –في النهاية- يمر على هذا اليوم كالشارد، الشريد، الفاقد لصوابه، لا يدري أين يذهب بضيقه من كل هذا الزحام، ميمماً وجه شطر اللامبالاة، فاقداً –أو يكاد- الثقة والقناعة بمعنى المناسبة ومغزى ذلك التاريخ ورمزيته.. بعد أن “غزى” الشكُ –مجدداً- و”استوطن” أوصالَه باطراد… مجتاحاً تفاصيل المواطن الذي بات في ربيع كل عام على موعد مرير –هذه المرة- يمتحن فيه المعنى ويزِينُه، يُقبِّنه، ويقارن جزعاً وما يراه بأم العين.
والخيانة تختفي

ما الذي ارتأت المخرجة هالة محمد القيام به في فيلمها التسجيلي “كم لنا” بأجزائه الستة القصيرة لمواجهة كل تلك العطالة المطبَّقة بالقوة على مجتمع بأسره لعشرات السنين؟… كيف لها أن تعيد عقارب الساعة إلى الوراء وتعيدنا معها -رغم عطالتنا- إلى طفولتنا ومن ثم إلى ما قبل ولادتنا، وإلى ما قبل ولادة الاستقلال عينه؟! متجاوزةً حتى الصور النمطية المكرسة والمرسومة على شاكلة الخطاب الشعاراتي المشابه للخطاب القومي المسطح؛ لقامات أسست الخط الأخلاقي بداية ومن ثم السياسي لسورية التي بقيت موحدة رغم الاستعمار بفضل عنادهم ومن ورائهم عناد شعبٍ بأسره: يوسف العظمة، سلطان باشا الأطرش، صالح العلي، سعيد العاص، عز الدين القسام، إبراهيم هنانو.. هي الأسماء التي انطلقت معها أيضاً الرؤى القومية بمعناها العروبي الأوسع!! وليس اسم القسَّام (ابن جبلة) إلا التعبير الصارخ لهذا البعد الذي عبرت عنه الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش… وفي السويداء.. مدينته، ختمت المخرجة “كم لنا” بكلام شيخ جليل بعتق شجرة سنديان قال منشداً مسترجعاً الماضي متمردة عليه اندفاعاته العنيفة الدفينة محولاً مجرى ومقصد حديثه فجأةً من وقائع الثورة السورية وشهدائها إلى فلسطين وشهدائها: “بالقول مارح نكتفي والعلل مارح تشتفي بدنا فلسطين لهالعرب، بدنا العروبة يا وفي….. بدنا فلسطين الجريحة وبعد منها العرب مش مستريحة، بدنا الأفعال الصحيحة والخيانة تختفي”.
طيارة طارت بالجو
في “أرجاء” الفيلم نتنقل بين أرجاء سورية.. سورية المكان.. التاريخ.. سوريا المجتمعات المتنوعة.. العادات، الثقافات ضمن ثقافة جامعة ضامة اتفق كل من انضوى تحتها -وبشكل عجيب قد يصدم المتابع لواقعيته المثبتة “بالوثيقة الثقافية”- على ثوابت ومواثيق وقع عليها أصحابها بالدم.. تدل على فحواها، مضامينها، قصة تروى عن الموقعة التي التقى فيها الزعيمان هنانو “الحلبي” وصالح العلي “الطرطوسي” ليقارعا القوات الفرنسية وينهكاها في بلدة تدعى “جسر الشغور” ليست في طرطوس…. ولا هي في حلب! في الفترة التي شهدت أشد الدعوات الاستعمارية ضراوةً لتقسيم البلد على أساسٍ طائفي ومناطقي إلى دويلات صغيرة إمعاناً في إكمال مشروع سايكس بيكو حتى النهاية.
والمخرجة في الجزء الرابع، المخصص لحلب وإبراهيم هنانو، تسمعنا أغنية تؤديها جوقة أطفال كخلفية ذات تأثير خاص عميق، ليس فقط على العارف مسبقاً بدلالاتها.. الأغنية التي غناها ويغنيها كل أطفال سوريا حتى الآن متوحدين بها تحت اسم بطل من أبطال ثورتهم بغض النظر إلى أي لون من ألوان الطيف السوري ينتمون، وهي ما رددته الجموع “الزاحفة” -كما وصفها أحد الرواة في الفيلم- عندما أعلِنت براءة هنانو رسمياً بعد فترة حكم طويلة نفذها عليه الفرنسيون: “طيارة طارت بالجو/ فيها عسكر فيها ضو/ فيها إبراهيم هنانو/ راكب عا ضهر حصانو……..”.
تنقيب في الذاكرة
من هم هؤلاء “الأبطال”، قادة استقلال سورية ومن أين استمدوا شرعيتهم؟! وأين هم من قادة اليوم والأخلاقيات الراهنة؟!
لقد أفصحت هالة محمد عن الكثير والكثير حول ما يتعلق بالراهن و”تعريته” من دون التطرق إليه صراحةً، باستثناء مشهد ختام الجزء السادس (حوار الأهل بمكبرات الصوت عبر الحدود مع الجولان المحتل) واكتفت بالإجابة عن الحد الأول من حدي السؤال أعلاه.. مبرزةً بذلك الشيءَ “بنقيضه”.
عجوز -تبدو ثمانينية- ممن تبناهم الشيخ صالح العلي.. تروي كيف أنه عند إعلان وفاته ولمدة ساعتين لم ينتهِ تدفق من تبناهم الشيخ من الفقراء إلى بيته لوداعه الأخير.. وروى حفيد المجاهد عز الدين القسام.. كيف ساعد الشيخ صالح عائلة القسام المحكوم عليه بالإعدام من قبل الفرنسيين بتهريبهم عبر الجبال إلى فلسطين، بإخفائهم في “خروج” على ظهور البغال. وحفيد آخر للقسام سرد لنا ما روته جدته التي طلبت من زوجها، قبل خروجه الأخير إلى الثورة واستشهاده، إعطائها ثمن ما سيقتاتون به في غيابه، فأبى أن يناولها من النقود الوفيرة التي كانت في حوزته إلا ليرة فلسطينية واحدة بعد لأي… قائلاً إن هذا مال الثورة، مال الله، مال الأمة.

ولكن، ربما إبراهيم هنانو، هو أفضل من صاغ جوهر المسألة وبلورها من بين قادة الثورة الآخرين وهو صاحب الحظ الأوفر من التحصيل العلمي بينهم. كان ذلك في بيته أمام رجال الكتلة الوطنية عندما خاطب هنانو سائقه السابق “علي كوكش” الذي طالب ببقية أجره عن طريق الواسطة (أمه). قال هنانو بعد أن قدم له الأجر: “قاتلنا ونقاتل من أجل أن ننال حريتنا وكرامتنا وأنت تطالبني بالواسطة! أنت يا علي صاحب حق كما نحن نطالب باستقلال هذا البلد.. يجب على كل مواطن أن يكون مواطناً قوياً”. وكان هنانو قبل ذلك طلب من أم علي أن يأتي ابنها إلى بيته ويخاطبه دون ألقاب هكذا: يا إبراهيم.. أريد نقودي.
هكذا رأى رجالاتُ الاستقلال طبيعة العلاقة المستقبلية بين “المواطنين” وحكامهم… القضية إذاً في “المواطن القوي” الموشى بسمة حقوقية واضحة في وجه أي نوع من أنواع الاستبداد خارجياً كان أم داخلياً، حيث لم يكن النضال ضد القوى الخارجية لينسيهم الهدف الأساسي والمعنى لكل نضال، أي كرامة الإنسان وحريته. المواطن القوي الحر برأسه المرفوع. هذا ما عادت وذكرتنا به هالة محمد.