الوثائقية تدخل تونس عبر “الشخصية التونسية”

حفاوة كبيرة تستقبل بها الجزيرة في تونس

عاشت تونس العاصمة على امتداد ثلاثة أيام 26 و27 و28 ماي2011 تظاهرة سينمائية فريدة:” أيام الشخصية التونسية في الفيلم الوثائقي من إنتاجات الجزيرة الوثائقية” احتضنتها فضاءات دار الثقافة ابن رشيق

مدير الوثائقية أحمد محفوظ
يفتتح التظاهرة

واحدة من أهم دور الثقافة بالعاصمة التونسية وقد أمن هذه التظاهرة كل من وزارة الثقافة التونسية ومندوبيتها الجهوية لولاية تونس وقناة الجزيرة الوثائقية. وأتت هذه الدعوة لقناة الجزيرة تأكيدا لثقافة ما بعد الثورة بتونس والتي أتت بثقافة حوارية تقطع مع ثقافة الإقصاء والتهميش يحرس بعض المشتغلين بالحقل الثقافي اليوم في تونس على تكريسها بسرعة.
وهو ما أكّده معد هذه التظاهرة ومقدمها يوم الافتتاح: كمال الرياحي حيث أكّد أن قناة الجزيرة واحدة تمثّل من أهم المؤسسات الإعلامية العالمية التي انتزعت أحقية حضورها في كل التظاهرات والأحداث العالمية السياسية منها والثقافية والرياضية ومثلت قناة الجزيرة الوثائقية واحدة من المنابر المهمة التي أحدثت تقليدا جديدا في الإعلام العربي من خلال مراهنتها على الصورة في رصد وتوثيق ذاكرة الشعوب. فقامت قناة الجزيرة الوثائقية بإنتاج العديد من الأفلام الوثائقية ذات الصبغة السياسية والثقافية والتوثيقية حول عديد الدول بالعالم والعالم العربي.
ومن ضمن تلك الأعمال التي أنتجتها أفلام وثائقية تعنى بمواضيع وشخصيات تونسية. وقد خلقت هذه الأفلام عند عرضها جدلا بين المهتمين مشاهدين ومختصين ومن هنا جاءت فكرة استضافت القناة والقائمين على إنتاج تلك الأفلام من مخرجين ومنتجين لعرض ومناقشة هذه الأفلام في فضاء حر يؤمن بالاختلاف والحوار.
وتحدث الرياحي المسؤول عن النشاط الثقافي بفضاء ابن رشيق بتونس أن هذه التجربة ستفتح آفاقا كبيرة للتعاون مع القناة في برمجة تظاهرات أخرى وختم كلمه في افتتاح بقوله: إذا كان فعلا تمكن الشعب التونسي اليوم من إغلاق دهاليز وزارة الداخلية أو إيقاف أنشطتها فعلينا كمثقفين أن نفتح أبواب دهاليز وزارة الثقافة لتتحرك لتنمو الثقافة الحق كما كانت وأفضل وكان بذلك يشير اشارة مخاتلة إلى فضاء الندوات والذي يعرف بالدهليز وكان فضاء ثقافيا مهما شهد خروج أجيالا خطيرة من المثقفين والفنانين. وقدم بعد ذلك برنامج التظاهرة معبرا عن سعادته بحضور طاقم الجزيرة وتعاونها ، فقد كان ذلك شبه مستحيل في زمن النظام الدكتاتوري لبن علي, وهو نفس الرأي الذي أكده الأستاذ أحمد محفوظ في كلمته في الافتتاح الذي حضره مندوب وزارة الثقافة وعدد كبير من المسؤولية والمهتمين بالشأن الثقافي والسينمائي بتونس.
وقد بين أحمد محفوظ أن القناة بعد أن كانت تشتري الأفلام الوثائقية وتبثها أصبحت اليوم تصنع هذه المادة الوثائقية وهي تتعامل اليوم مع أكثر من 110 شركة إنتاج في مختلف أنحاء العالم لتصل إلى 300 ساعة إنتاج في السنة.
وقال” إن الجزيرة الوثائقية تهتم بالمواضيع المتعلقة بتقاليد المجتمعات وتاريخها وثقافاتها لاسيما منها المجتمعات العربية ولها علاقات تعاون مع بلدان إفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا ملاحظا أن المسائل السياسية من مشمولات وتوجهات قناة الجزيرة الإخبارية.
وقد بين أحمد محفوظ على سعادته بتواجد الجزيرة الوثائقية في أرض تونس لتقدم تجربتها في الفيلم الوثائقي لتناقش في جو ثقافي حر لم يكن ممكنا قبل ثورة 14 جانفي.
وانطلقت التظاهرة بعرض فيلمين ضمن التيمة الأولى : الشخصية السياسية” حيث عرض فيلم”اغتيال حشاد” وفيلم ” المنصف باي…نهاية عرش” وقد أثار عرضهما كما هو متوقع حوارا ثقافيا كبيرا بحضور مخرج الفيلم جمال الدلالي ومنتجه المنفّذ عامر العريضي. وتنوعت الأسئلة بين أسئلة حول المادة الفيلمية من ناحية وحول التيمة الفيلمية من ناحية أخرى واتسع النقاش لينفتح على تاريخ تونس الحديث وكيف يمكن أن نعالجه سينمائيا وحول الوثيقة ومدى توفرها وواقع السينما الوثائقية التونسية ومسؤوليتها في الاهتمام بالذاكرة التونسية أحداثا وشخصيات. كما لم يخل النقاش من أسئلة ذات حوامل إيديولوجية اتهمت المخرج بأنه يتحرك وفق إيديولوجيته الإسلامية في مقاربة شأن سياسي وشخصية وطنية. وهو كان جمال الدلالي يجيب الجمهور بكل ثقة في النفس ورحابة صدر فلم ينف قناعاته الإيديولوجية ولكنه رأى أن حاول أن يكون موضوعيا في تناوله للشخصية وفق زاوية النظر التي تناول بها الشخصية.


(من اليسارإلى اليمين) كمال الرياحي – أحمد محفوظ – ناصر السردي
– عادل خضر  – حسن المرزوقي – أحمد القاسمي

كما شكلت المقارنة بين الفيلم الأول والثاني محور نقاش آخر ورأى البعض أن فيلم:المنصف باي…نهاية عرش” بدا أكثر حرفية وفنية على الرغم من خطورة الفيلم الأول الذي اكتسب طابعا بوليسيا تحقيقيا في مرحلة من مراحله. بينما مثل الهاجس الجمالي في الثاني أحد الرهانات الكبرى في الفيلم.
أما اليوم الثاني والذي بدأ مبكرا على الساعة الحادية عشر صباحا فقد شهد ندوة علمية مهمة أدارها حسن مرزوقي المسؤول على الموقع الالكتروني للجزيرة الوثائقية  وكانت مداخلة الأستاذ أحمد محفوظ مدير قناة الجزيرة الوثائقية الذي قدم تجربة الجزيرة مع الفيلم الوثائقي  وتدرّج تلك التجربة إلى إنتاج الأفلام وإخراجها بعد أن كانت تشتري وتعرض الأفلام الوثائقية الأجنبية .
وأكد المحاضر أن الجزيرة الوثائقية تهتم بالمجتمعات وتاريخها وثقافاتها خاصة المجتمعات العربية ولم يمنعها ذلك من عقد علاقات تعاون مع بلدان إفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا .
أحمد القاسمي قدم مداخلة مهمة بعنوان “شخصيّة القائد”: من توثيق الحقيقة إلى البحث عن نمط سياسيّ أعلى. قراءة في فيلمي “اغتيال فرحات حشّاد” و” محمد المنصف باي: نهاية عرش”.  حاولت المداخلة رصد مدى  عبور  الفيلمين من التواصليّ إلى الجماليّ والموقف الشخصيّ  فتبحث في ما وفّر  المخرج جمال الدلالي من الموارد البصريّة والوثائق النادرة حتى يكفل لمنجزه شرعيّة الانتماء إلى الفنّ السينمائي كالمشاهد حربية والمشاهد التمثيليّة والصور الثّابتة ويستجيب لأفق انتظار متفرّج يترصّد المعنى ضمن المفردات البصريّة أساسا.
 
وتنتهي هذه المداخلة إلى أن المستوى الحواري اللغوي، رغم ما بذل المخرج من جهد، مثّل مركز الثقل من الفيلم جماليا ودلاليا فكانت الشهادات المختلفة تنزع منزعا تحليليّا يشرح مرحلة من تاريخ تونس ومنزعا سرديّا يربط بين الأحداث وفق منطق عليّ يكفله المونتاج العضويّ (Le montage organique) ويؤلّف بينها ضمن وضعيات تفضي إلى تحوّلات جديدة. وكان السّرد يمثّل وساطة بين المخرج والعالم الخارجي يتعقّب تاريخ فرحات حشاد ( زعيم نقابي تونسي أسّس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1945 اغتالته منظّمة اليد الحمراء الفرنسيّة في 5 ديسمبر 1952) ومحمد المنصف باي (4 مارس 1881 – 01 سبتمبر 1948 بمنفاه في فرنسا) سليل العائلة الحسينيّة وحاكم تونس من 1942 إلى 1943 ويبحث في تاريخهما المنسي فيجعلهما نموذجا للاستقامة الأخلاقية والدينيّة والالتزام بالمصلحة الوطنيّة من ناحيّة ويدس ضمن الأثرين نقدا للقائد في دولة الاستقلال، خاصة للزعيم بورقيبة  من ناحية أخرى ولكنه في الآن نفسه كان يعمل على ضبط هذه صورة شخصية للزعيم السياسيّ مع المثاليّ فيقترح نموذجا أعلى للقائد المنشود ويسيّج الممارسة السياسيّة بشروط أخلاقيّة تجعله رجلا صالحا وأبا عطوفا قبل أن يكون رجل دولة محنّك.
بعد ذلك قدم حسن مرزوقي تجربة كتاب الجزيرة الوثائقية والذي يؤسس إلى مكتبة وثائقية مهمة بعد صدور الكتاب الثاني. وهي مجموعة من البحوث العلمية والنقدية في معالجة الفيلم الوثائقي  العربي والأجنبي.

و

متابعة يومية للصحافة التونسية

قد تابعت الصحافة التونسية ورقيا والكترونيا وإذاعيا هذه التظاهرة فكانت الإذاعة الثقافية وإذاعة شمس أف أم والتلفزيونات تتابع بانتباه فعاليات الملتقى واستضاف التلفزيون التونسي مرتين ضيوف ومنظمي التظاهرة حيث استقبلت في البداية مدير القناة أحمد محفوظ وواحد من المخرجين المشاركين ثم استقبلت في اليوم الثاني معد التظاهرة من تونس والأستاذ حسن مرزوقي مدير موقع الجزيرة الوثائقية.
وعرض مساء فيلم عتوقة الأسطورة وفيلم بربريات وثم كان للجمهور نقاش حر وحماسي مع المخرج أكرم العدواني حول ما أخرجه بخصوص بربر تونس.

يوم السبت صباحا انطلقت ندوة الهامشي والشعبي بإدارة كمال الرياحي فقدم الناقد السينمائي الناصر الصردي رئيس جمعية النقد السينمائي سابقا مداخلة حول فيلمي “عتوقة الأسطورة” و”بربريات” وركز على ديمومة الأسطورة بين صمت الغفلة واحتفاء الذاكرة. وهي قراءة توقف فيها كثيرا عند فيلم بربر تونس الذي قارنه بأفلام أخرى اهتمت بالامازيغ خاصة أنه واحد من المتابعين لمهرجان السينما الأمازيغية وزار كثيرا من المدن الأمازيغية في الجزائر والمغرب وتونس وتوقف عند صمت الأسطورة في الفيلم.
الدكتور العادل خضر قدم مداخلة علمية شديدة الطرافة تحت عنوان” من الإنسان اللاّهي إلى إنسان الفرجة أو تحوّلات اللّعب في زمن الصّورة قراءة في شريط الصّادق ساسي (عتّوقة). وقد تعددت مداخل المحاضر للشريط من الميديولوجيا إلى الفلسفة إلى الأدب إلى الانتروبولوجيا فقال في سياق المحاضرة” ضمن السّياق اليوميّ وأساطيره الّتي تغذّي الحياة اليوميّة وتشكّل في الآن نفسه ثقافة الجمهور الحديثة ننزّل شريط “الصّادق ساسي، عتّوقة”. وهو شريط يتألّف من شهادات كثيرة أدلى بها لاعبون قدامى ومسيّرون رافقوا عتّوقة في مسيرته الرّياضيّة، وصور متنوّعة، ثابتة ومتحركة، بالأبيض والأسود وملوّنة، مثّلت الأساس الوثائقيّ لهذا الشّريط الّذي حاول قدر الإمكان الاقتراب من شخصيّة الصّادق ساسي فلم يظفر إلاّ بأسطورة عتّوقة، هذه الأسطورة الّتي يعسر جدّا الحديث عنها خارج ملاعب كرة القدم، وعالم الرّياضة وكون الفرجة. فإن كان للصّادق ساسي هويّة شخصيّة ذات عمق بيوغرافيّ ضارب بجذوره في حياة التّونسيّين اليوميّة وتاريخ الإنسان التّونسيّ المعاصر، فإنّ هذه الهويّة قد انقلبت إلى أسطورة صنعتها شهادات من عرف “عتّوقة” عن قرب، وصور من الأرشيف الرّياضيّ تشهد على حياة موصولة بملاعب كرة القدم. وإن أفلح مخرج شريط “الصّادق ساسي، عتّوقة” في الظّفر بأسطورة “عتّوقة” فإنّ هذه الأسطورة قد تعرّضت بدورها للتّغيير والتّحوير والتّصرّف بما مكّن من صناعة بورتريه عتّوقة أو صورة صالحة للاستهلاك في سوق الفرجة.”
وقد انتبه المحاضر إلى “كثرة الشّهادات وشهود العيان الّذين اشتركوا جميعا في الحديث عن “أسطورة عتّوقة”. وقد ركّبها المخرج في الخطاب الفيلمي ليصنع منها بورتريه ساهم في صناعة “تخييل عتّوقة”.” ولذلك رأى أنه في امكانه  أن يقرأ هذا الشّريط بالتّمييز بين مستويين:
مستوى الشّهادات الّتي قدّمت بعض العناصر البيوغرافيّة الّتي ساهمت في نشأة “أسطورة عتّوقة”.
ومستوى الشّريط الّذي بطريقة تركيب تلك الشّهادات والصّور الوثائقيّة المختلفة صُنع شيء يمكن أن نسمّيه “تخييل عتّوقة”.” وانهمك يفكك ويركب ليعطى تحليلا عميقا لفيلم وثائقي يبدو أنه يتناول شانا يوميا وشأنا شعبيا فإذا هو موضوع لبحث عميق في الشخصية التونسية نفسيا واجتماعيا من خلال أسطورة حارس مرمى أمكن له أن يعلق بقلوب الملايين.
وعرض مساءً فيلم عن لطفي بوشناق وفيلم عن الفاضل الجعايبي وجليلة بكار لتختتم التظاهرة في بلقاء مع أصحاب المشاريع من منتجين ومخرجين شباب وعرضوا مشاريعهم على ممثل القناة لدرسها واستقبل

وزير الثقافة التونسي يستلم هدية
رمزية من الوثائقية

وزير الثقافة الأستاذ الدكتور عزالدين باش شاوش حال عودته من فرنسا يوم السبت كل طاقم الجزيرة مع معد التظاهرة والمندوب الجهوي للثقافة وقد أثنى على جهود الجزيرة الوثائقية في رصد وتدوين الذاكرة التونسية كما شكر الجزيرة الإخبارية على ما قدمته للثورة التونسية أثناء الأحداث قبل وبعد 14 جانفي واعتبر أن ذلك كان حافزا لاستمرار الشباب في مواصلة ثورتهم حتى النهاية وطلب من كمال الرياحي معد التظاهرة أن يتكفل بإعداد دليل لتلك الوثائق والأفلام التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية عن الشخصية التونسية لتكون دليلا للباحثين وقد طرح عليه كمال الرياحي فكرة تحويل هذه التظاهرة إلى تقليد سنوي تحت مسمى أكبر وأشمل: “أيام الوثائقي العربي” تكون الجزيرة الوثائقية ووزارة الثقافة شريكين في رعايته فرحّب الوزير كثيرا بالفكرة وستعد لها العدة لتصبح واقعا في السنة المقبلة. وقد تسلم وزير الثقافة من الأستاذ أحمد محفوظ درع الجزيرة الوثائقية في جو من البهجة والسعادة حضره الشاعر الفلسطيني سميح القاسم.
تعتبر هذه التظاهرة بابا وفتحا كبيرا لتجسير طريق صحية للتعاون بين الجزيرة والمشهد الثقافي والسينمائي في تونس بعد سنوات طويلة من الإقصاء والجفاء وقد نجحت هذه التظاهرة في وضع هذا المناخ من التآخي والتعاون رغم الوضع الانتقالي الذي تشهده تونس لتثبت أن الثورة التونسية مصرة على المضي بعيدا في إعادة تشكيل ورسم صورة تونس الحرة التي حلم بها التونسيون جميعا. وما فكرة توسيع التظاهرة إلى أن تصبح أيام سنوية قارة إلا تأكيدا لنجاح التظاهرة التي كانت قبل أيام مغامرة غير هينة.


إعلان