مهرجان كليرمون .. بالقرب من الأفلام القصيرة

إذا أردنا الإشارة إلى أكبر، أو أهمّ، أو أعرق مهرجان سينمائيّ يهتمّ بالأفلام القصيرة على مستوى فرنسا، والعالم، فإنّه، بدون جدال، المهرجان الدولي للأفلام القصيرة في كليرمون فيران، وهو الذي ينتظره فعلاً العاملون في الصناعة السينمائية بكلّ تخصصاتها، وأيّ إشارةٍ مُتسرّعة تمنحُ أهميةً مُماثلة، أو أقلّ منها إلى مهرجانٍ عربيٍّ فهي نظرة غير موضوعية.
في هذا الصدّد، بإمكاننا القول، وبدون ترددّ، بأنّ السينمائيين العرب ينتظرون مهرجاناتٍ مثل : دبي، أبو ظبي، والدوحة، بينما أصبح مهرجان الخليج السينمائيّ بيتاً لصُناع الأفلام في المنطقة (بما فيها العراق، واليمن). ويمكن التأكيد أيضاً، بأنّ المهرجانات العربية في القاهرة، دمشق، تونس، مراكش، وتطوان،.. كانت، ومازالت مُتنفساً حقيقياً للسينما العربية.

ولكن، قبل أيّ مهرجانٍ عربيّ، فإنّ عيون هؤلاء (مخرجي الأفلام الروائية الطويلة بشكلٍ خاصّ) تتطلعُ بدايةً نحو المهرجانات الأوروبية، وعلى رأسها : كان، فينيسيا، برلين، لوكارنو، …وأيّ مهرجانٍ أجنبيّ ـ حتى ولو كان في مدينةٍ مجهولة ـ وهو طموحٌ مشروعٌ تماماً أوصل البعض إلى هذه المهرجانات فعلاً، وآخر الأمثلة البرّاقة فيلم “هلق لوين؟” للمُخرجة اللبنانية “نادين لبكي”، و”على الحافة” للمغربية “ليلى كيلاني”.
ولكننا سوف نقعُ في خطأ عظيم إذا اعتقدنا بأنّ السينمائييّن الأجانب ينتظرون مهرجاناتنا العربية بلهفةٍ، وسوف نكشف عن حماقةٍ مهنية إذا فكرنا بأنّهم يعتبرونها محطاتٍ سينمائية أولى.
صحيحٌ أنهم يمتلكون القليل، أو الكثير من المعلومات الجغرافية عن العواصم العربية، ولكنهم، وحتى وقتٍ قريب، كانوا يتلعثمون عند الحديث عن دبي، أبو ظبي، والدوحة، وبطريقةٍ أقلّ ـ رُبما ـ عند الوصول إلى تطوان، خريبكة، وسوسة،.. فما بالنا لو كتب متحمسٌ بأنّ المهرجان الدولي للأفلام التسجيلية، والقصيرة في الإسماعيلية “أصبح حدثا فكرياً، وثقافياً هاماً لعددٍ لا بأس به من صناع السينما في العالم الغربي”،….و”يُعتبر بالنسبة للغرب المُنفتح على كلّ ما هو جديد في صناعة السينما مكاناً هاماً، وفرصة حقيقية لمُتابعة أروع الإنتاجات السينمائية، وخاصةً الشابة منها في مجالات فن ّالتحريك، والتجريب،…”.
هذا الرأيّ الطريف، وغيره، يُذكرّني بواقعةٍ أكثر طرافةً حدثت معي شخصياً عندما التقيتُ يوماً بأحد المُخرجين الفرنسييّن الشباب، وسألته عن فيلمه الذي عُرض مُؤخراً في مسابقة الأفلام التجريبية لمهرجان الإسماعيليّة، وكانت المُفاجأة، بأنه لم يسمع عن المهرجان أبداً، وأكثر من ذلك، لا يعرف أين توجد مدينة الإسماعيلية أصلاً، ولا يدري كيف وصلت نسخة من فيلمه إلى إدارته، وعندما سألته عن “تجريبيّة الفيلم”، أكدّ لي بأنه مخرجٌ مبتدئ، ولا يعنيه التجريب في السينما، وعندما شاهدتُ الفيلم بنفسي، تبيّن لي بأنه لم ينسبَ إلى فيلمه صفاتٍ لا يمتلكها، ومن المُؤسف بأنّ الكثير من المُتحدثين عن “التجريب في السينما” يختبئون خلف هذا التوصيف انطلاقاً من غموض الفيلم (فقط)، وهو الأمر الذي تأكد لي مُؤخراً مع نقادٍ، وسينمائييّن مُخضرمين خلال إحدى الجلسات الليلية للدورة الرابعة لمهرجان الخليج السينمائيّ في دبي الأخير، حيث توقفت معلوماتهم عند فيلم “المومياء” لمخرجه المصري “شادي عبد السلام”، و”صندوق الدنيا” لمخرجه السوريّ “أسامة محمد”، وكان عليّ التدخل عنوةً لإيقاف هذا الجدل قبل أن أسمع كوارث تُجسّد إشكاليةً كبيرةً في ثقافة النخبة السينمائية العربية، ومن المُؤسف، بأنّ بعض المهرجانات (مثل مهرجان الإسماعيلية) تُكرس مفاهيم خاطئة عندما تقدم في مسابقة الأفلام التجريبية أفلاماً لا علاقة لها بالتجريب .
من خلال متابعتي لبعض دوراته، لا أخشى القول علناً بأنّ مهرجان الإسماعيلية في واقعه الحالي ـ المُحتضر ـ لا يعدو أكثر من متنفسٍ سياحيٍّ لضيوفه المصريين، والعرب، ورُبما فرصةً لمُشاهدة عدد من الأفلام القصيرة القادمة من دولٍ أجنبية لا يتسنى لهم مشاهدتها خارج إطار المهرجان، ويعتبرها بعضهم من “أروع الانتاجات السينمائية”، مع أنّه يمتلكُ كلّ العناصر التي يمكن أن تجعله مُتفرداً في المنطقة العربية، وتحتاج دوراته القادمة إلى فريق عملٍ جديد يبثُ الروح فيه، ويُخلصه من شيخوخته المُبكرة التي انعكست على كلّ فعالياته، ونشاطاته، والأهمّ، تصفية برمجته عن طريق لجنة اختيار تمتلك معرفة متواصلة بحال الأفلام القصيرة في العالم، ومن ثمّ، غربلة ضيوفه من أولئك الذين تسللوا إليه بتساهلٍ، أو تواطئ من الإدارة نفسها.

من جهةٍ أخرى، وفي الطرف الآخر من المُتوسط، هناك مئاتٌ من المهرجانات الدولية المُتخصصة بالأفلام القصيرة، ومنها عشراتٌ تُعتبر بحقٍّ مواعيد سنوية لا غنى عنها للمُحترفين، بدءاً من الباحثين عن

موسوعة الأفلام القصيرة الفرنسية

تمويلٍ لمشروعاتهم القادمة، مروراً بالمهرجانات السينمائية، وقنوات التلفزيون الفرنسية، والعالمية، وانتهاءً بالجمهور نفسه، ومع أنّ مهرجان كليرمون فيران الأكثر جذباً، إلاّ أنه لا يُنقص أبداً من أهمية مهرجاناتٍ أخرى مختلفة في طبيعتها، برمجتها، وخطتها التحريرية، وهي ـ من حسن حظها ـ لا تُشغل نفسها (مثلنا) بأيّ نوع من المُنافسة مهما بلغ عددها.
بالنسبة لمن يعرفه، يعتبر مهرجان كليرمون فيران نموذجاً يُحتذى في التنظيم، والبرمجة، وخاصةً تيماته المُتفرّدة، الجريئة، الطريفة، الثرية، والتجديدية، والتي أتابعها بشغفٍ أكثر من المُسابقات الثلاثة (الوطنية، الدولية، والمُختبر)، وأنتظر دائماً المُفاجآت التي سوف تقدمها كلّ دورةٍ جديدة.
بدوره، يُعتبر مهرجان الأفلام القصيرة في سين ـ سان ـ دوني ـ بانتان (Côté court) واحداً من الأكثر حضوراً في خارطة المهرجانات الفرنسية، وخلال الفترة من 15 وحتى 25 يونيو 2011سوف يحتفل بسنواته العشرين، صحيحٌ، بأنه لا يحظى بمكانةٍ عالمية كحال مهرجان كليرمون فيران، لأنه، منذ البداية، تخيّر توجهاً محلياً لمُسابقتيّه، ولكنه فتح الأبواب، والنوافذ أمام برامج مُوازية تتحلى بروح البحث، والتجريب، وتمنحه خصوصيته بالمُقارنة مع مهرجاناتٍ فرنسية أخرى مُتخصصة بالأفلام القصيرة، ومن المفيد بأن نتوقف عن المُقارنة بين المهرجانات الأوروبية، ومنح الأهمية لأحدها على حساب الآخر، فكلّ واحدٍ منها يمتلك تيمته، طبيعته، توجهاته، وبرمجته المختلفة.
حيث يُعتبر مهرجان الأفلام القصيرة في بانتان نافذةً على الإنتاج الفرنسي المحليّ، ولكن، ما يشدّني إليه بشكلٍ خاصّ اكتشافاته التي تعكس توجهاتٍ بحثية، وتجريبية تمزجُ بين السينما، والفنون الأخرى “المسرح، الفيديو، الموسيقى، الفنون التشكيلية،..”، ومهما بالغتُ في الإدعاء بأنني على إطلاعٍ مُتجددٍ على حال الأفلام القصيرة في فرنسا، يأتي هذا المهرجان، وغيره، كي يُخفف من هذا الغرور، ويقدم لي، وللجمهور، سينمائيين أتعرّف على إنجازاتهم للمرّة الأولى، وممارساتٍ سينمائية أتذوّقها بطريقةٍ مختلفة.
“بابتهاجٍ، يستعدّ مهرجان الأفلام القصيرة في بانتان لعبورٍ رمزيٍّ لسنواته العشرين، عشرون عاماً من الالتزام المُتواصل لصالح الإبداع السينمائيّ الأكثر اختلافاً، ولهذا، يستحقّ هذا التاريخ احتفالاً”.
هكذا يقدم المهرجان تيمته الرئيسية لهذا العام، عودة استرجاعية إلى الماضي للاحتفاء بعشرات المخرجين الذين حازت أفلامهم على استحقاقاتٍ مُعتبرة، وجوائز، ومن ثمّ تجاوزوا عتبات الأفلام القصيرة، وأصبحوا أسماء لامعة في المشهد السينمائي الفرنسي، مثل : لايتيسيا ماسون، برتران بونيللو، لوران آشار، لوران كانتيه، فرانسوا أوزون،…بالإضافة إلى المُسابقتين الرسميتيّن، الأولى المُخصصة للأفلام الروائية، والثانية التي تضمُّ الأفلام التجريبية، وفنّ الفيديو، وبانوراما خارج المُسابقة تتضمّن أفلاماً روائية، تسجيلية، تحريكية، وتجريبية.
وفي الوقت الذي تهتمّ الإدارة الفنية ـ بقيادة “جاكي إيفرار” ـ بالمُسابقتين، والبانوراما، فإنها تدعو مؤسساتٍ أخرى لإثراء البرمجة العامة .


إعلان