هل تحتاج قراءة التاريخ إلى تحطيم الزمن !

قراءة في فيلم ” تعظيم سلام” للمخرج “سيد سعيد”
– رامي عبد الرازق –
في تجربته التسجيلية الأولى يقدم لنا المخرج المصري “سيد سعيد” محاولة لقراءة فترة حساسة ومؤثرة من تاريخ مصر الحديث وهي فترة النهضة الإقتصادية التي قادها طلعت باشا حرب عقب ثورة 1919 وذلك عبر شكل وثائقي أطلق عليه المخرج اسم “تحقيق سينمائي” .
يعتبر “سيد سعيد” أحد المخرجين المصريين المقلين في تقديهم لتجارب سينمائية روائية أو تسجيلية حيث لم يقدم طوال تاريخه منذ تخرجه العام 1975 سوى فيلما روائيّا واحدًا هو “القبطان” عام 1996 من بطولة: “محمود عبد العزيز” ولكن لـ”سيد سعيد” العديد من المساهمات البحثية والنظرية في مجال السينما وعلم الجمال بالإضافة إلى رواية ومجموعة قصصية.
ومنذ اللقطات الأولى لتحقيقه السينمائي “تعظيم سلام” نشعر أننا أمام مخرج صاحب أفق ذهني مفتوح على التعامل مع مادته الوثائقية دون قيود شكلية أو إلتزامات مسبقة .
ثلاثة أصوات للسرد
في البداية يُطلّ علينا المخرج من خلال صوته المباشر الذاتي قبل التيترات حيث يستعرض لنا أحد الأعمدة الصحفية الأسبوعية للناقد “سمير فريد” يتحدث فيه عن أن أحد رموز اليسار المصري (يقصد المخرج) سوف يصنع فيلما عن أحد باشاوات الرأسمالية ( قاصدا طلعت حرب) ويتعمد المخرج الردّ بشكل قاطع عما يعتبره اتهامات من الناقد او استفزازا له لكن هذا الصوت/ الذاتي يختفي تماما فيما بعد بل يبدو كلما توغلنا في تفاصيل التجربة مقحما وثقيلا وبدونه كانت البداية الحقيقية للتحقيق سوف تبدو أكثر رحابة وعمقا وهي البداية التي تتبلور من خلال لقاءات المخرج الحية والعفوية مع بعض الأشخاص العاديين الذين يمرون يوميا عبر الميدان الشهير بوسط القاهرة الذي يحمل اسم وتمثال “طلعت حرب”.
إن نقطة الهجوم على التاريخ تبدأ من هذا السؤال البسيط ( مين صاحب التمثال ده ؟) أما فضيحة الذاكرة التي تتكشف عن هذا السؤال فتمثلها إجابات الفئات والشرائح العمرية والاجتماعية والمدنية المختلفة والتي تتمثل في كلمة واحدة مذهلة وبغيضة (معرفش)!
بعدها مباشرة يظهر الصوت الثاني في متتالية السرد وهو أحد صوتين أساسين يعتمد عليهما المخرج ليس فقط في نقل مادته إلى المتلقي ولكن توثيقها صوتيا, فالصوت الثاني هو صوت أحد الممثلين المصرين المعروفين بقوة ورخامة صوتهم “الفنان أحمد فؤاد سليم” حيث يؤدي أو يوثق صوتيا أو يستدعي صوت “طلعت حرب باشا” نفسه من خلال المكاتبات والخطب والقرارات العديدة التي تقرأ على طول زمن التجربة هنا لا يكتفي المخرج بالوثيقة التاريخية مصورة أمام الكاميرا ولكنها تتلى أو يتم تلاوة أهم فقراتها مسموعة عبر أداء تمثيلي يحاول أن يحاكي الحالة النفسية للشخصية محل التحقيق وذلك في “روائية ” ناعمة وبلا أي مزايدة على روح الوثيقة أو أهميتها.
ثم يظهر الصوت الثالث للسرد وهو صوت المعلق الصوتي أو الرواي العليم الذي يعتبر الصوت الوثائقي التقليدي والذي يتقاطع صوته أو ما يرويه مع صوت الشخصية الرئيسية “طلعت حرب” بينما يختفي تماما الصوت الذاتي للمخرج حيث نتأكد أنه كان مجرد انفعال دخيل على التدفق الشعوري والنفسي للتجربة بأكلمها.

الخيال/الوثيقة
يبدأ الفيلم من نقطة متقدمة جدا زمنيا بالمقارنة لأحداثه (التاريخية) حيث يملئنا الصوت المستدعى لـ”طلعت حرب” وهو يتلو خطاب الإستقالة الشهير عام 1939 من رئاسة بنك مصر وبأداء تمثيلي يحاول أن يجسد حجم المرارة والأسى والألم التي كانت تشعر به الشخصية في تلك اللحظة, ويتعامل المخرج بصريا مع “تلك اللحظة” بشئ غير قليل من الخيال رغم “وثائقية ” المغزى حيث قام بتصوير مجموعة من الطرابيش موضوعة على مائدة الاجتماعات الشهيرة في المقر الأصلي لبنك مصر بالقاهرة وذلك أمام لوحة التكريم التاريخية التي تضم صور وأسماء مديري البنك من بعد طلعت حرب والذين كان بعضهم عضوا في مجلس الإدارة إبان استقالة حرب نفسه.
وبينما نسمع صوت الشخصية على هذا المشهد الذي أعيد بناءه باستخدام عناصر حقيقية وخيالية في نفس الوقت (المكان والصور حقيقية ولكن الصياغة كلها روائية) لا يفوتنا حسّ السخرية الذي يبدو جزءا من الهدف الرئيسي وراء البدء من هذه النقطة في فيلم يتحدث بالأساس عن حياة رجل عظيم فالطرابيش في القاموس الشعبي المصري الساخر دلالة على عدم النفع أو الوجود الذي مثل عدمه “خيال مآتة” أي أن هذا الرجل الذي اضطر إلى الإستقالة اضطرارا نتيجة الضغوطات الداخلية والخارجية لم يكن ليستقيل لولا أن مجلس إدارته كان مجرد “طرابيش” ضعيفة الإرادة والقدرة.
تحطيم الزمن
يقول “جودار” أن السينما ليست مجرد صورة ولكنها صورة زائد صورة وعندما نتمعن في هذا الوصف نكتشف أنه من السهل جدا الحصول على الكثير من الفهم والإحساس بطبيعة العلاقات بين الصور المتتابعة عبر تفعيل ذاكرة المدى القصير أثناء المشاهدة وبالتطبيق على تعظيم سلام نلتقط بعد ضربة البداية الأولى ذلك المنطق السردي الذي يتعمده “سيد سعيد” في التعامل مع “قصة” طلعت حرب.
بمجرد انتهاء خطاب الإستقالة يعود بنا المخرج في قفزة زمنية إلى الوراء حيث البدايات العمرية الأولى لهذه الشخصية وكيف نشأت وتشكلت سياسيا واجتماعيا مستخدما ما توفر له من وثائق في شكل صور فوتغرافية أو بقايا أماكن ومبان من تلك الحقبة التاريخية وهذه العودة لا تمثل رجوعا لخط السرد الزمني التقليدي ولكنها الاشارة السرية للمتلقي لكي يدرك أنه ليس أمام بناء زمني متصاعد وممهد ولكن أمام كيان زمني متكسر ومفتت علينا أن ننظر في كل شظية منه لنرى انعكاس التاريخ أو الحقيقة وكأننا أمام مرآة كبيرة قام المخرج بتحطيمها وبعثرة أجزائها التي ظلت تحمل نتف من الصورة الكاملة التي انعكست عليها قبل التحطيم وبالتالي تتم إعادة تشكيل الرؤيا عبر إعادة تشكيل الأجزاء بترتيب ونسق مختلف.
وتمنح فكرة تحطيم الزمن القدرة لصانع التجربة على الحركة داخل السياق الزمني بشكل مريح وبلا تبريرات حيث يبدو الزمن في تعظيم سلام “روائيا” أكثر منه تسجيليا فعندما يتحدث عن فكرة إنشاء بنك مصر ثم الشركات التي انبثقت عنه وكلها تحمل إسم مصر يصبح من السهل نتيجة روائية الزمن أن يتحرك المخرج نحو الأمام بعد عشرات السنوات حيث لم يعد هناك ما يعرف بالصناعة الوطنية بعد سعر الخصخصة وبيع القطاع العام وحيث تراجع اسم مصر أمام أسماء الماركات الأجنبية الشهيرة؛ ثم يعود مرة أخرى لاستكمال الحديث عن مشوار “طلعت حرب” في البدايات دون أن يشعر المشاهد أن ثمة قفزة زمنية أو اختلال حدث في المنطق الزمني للفيلم لأن المخرج أعده منذ البداية للتعرف على طبيعة الشخصية الزمنية للتجربة.
الصمت البصري
يقول شاعر السينما الفرنسية “روبير بريسون” في كتابه / ملاحظات على السينماتوغرافيا أنّ السينما الناطقة اخترعت الصمت وكان يقصد هنا الصمت الدرامي أي تلك المساحة من السكوت التي يتم التعبير من خلالها بالصورة أو بالتشكيل أو بالانفعال المرئي أو بردّ الفعل بلا أيّة أصوات حتى لو كانت طبيعية.
وفي تعظيم سلام يحاول سعيد أن يخلق ما يمكن أن يكون نوع من “الصمت البصري” الذي يأتي عقب ذروة درامية /وثائقية بما يتيح للمتفرج التشبع بها والانطلاق خلفها عبر الخيال أو الذاكرة أو الذهن في المقارنة أو الإستدعاء أو التحليل وذلك عن طريق وضع لقطة لشاشة سوداء تماما تستمر لفترة زمنية قصيرة داخل سياق المادة المصورة.
ورغم جرأة الفكرة وطزاجتها إلا أن المخرج تعامل معها بكثير من التخوف الذي جعله يفسد هذا الطرح التجريبي ولو جزئيا نتيجة أنه مع خشيته من عدم استيعاب المشاهد لهذه اللحظة من “الصمت البصري” قام بكتابه لوحة تشرح الغرض من وراء “توقف الصورة” أو الشاشة السوداء التي من المفترض أنها تمثل مساحة مفتوحة وخالية للتأمل والتفكير!
بل وقام بكتابة كلمة انتبه مع اقترانها بمؤثر صوتي تنبيهي لزيادة التأكيد على المتلقي أن السواد الذي يراه ليس عيبا تقنيا وإنما له غرض فني !
وهذه الحيطة المبالغ فيها أفسدت كثيرا من الطزاجة الفكرية ونبل الابتكار من وراء هذه الفكرة السردية الجديدة.
سؤال في الشعر
في تجر��ته الذهنية “تشظيات أشكال ومضامين” يقول الكاتب/ عبد الله حبيب: أن الأسئلة تليق بالشعر ذلك أن الأقدار لا تشغف بالإجابات ولا يتعين عليها تبرير حكمتها القاسية.
وتتجلى تلك الرؤية في تعظيم سلام من خلال ذلك التساؤل الشعري الذي حاول المخرج أن يكثف من خلاله شعور المتلقي بأن الدلالات يمكن أن تستقى من التساؤلات وليس فقط الحقائق أو في حالاتنا الوثائق وقد يتصور البعض أن التدخل الشعري في الفيلم يتجسد في تلك الحالة البصرية التي قدم فيها المخرج مشاهد ولقطات لحصان يركض بقوة وحماس وكأنه معادل بصري /درامي لشخصية “طلعت حرب” في فترة الانطلاق والنجاح ثم لقطات أخرى لنفس الحصان يكبو ويسقط صريعا بعد أن تم حبك خيوط المؤامرة الخارجية والداخلية لاجبار الباشا الوطني على الإستقالة وحرمان الإقتصاد القومي من أحد أهم أعمدته, نقول أن تصور البعض أن هذه المشاهد ربما كانت شعرية من وجهة البعض رغم مبالغتها الميلودرامية خصوصا في نمطية الرمز لكن تتجلى قوة السؤال الشعري في تلك التساؤلات التي نسمعها بصوت الراوي العليم يتحدث فيها عن مشاعر وأفكار هذا الصرح البشري عقب تلقيه هزيمة قاتله من أعداءه وأعداء الوطن صحيح أن هذا السؤال يأتي قبل النهاية بقليل – نهاية التحقيق السينمائي- وعلى مسافة زمنية /سردية من البدايات التي جاءت بصوت “طلعت حرب” يتلو استقالته!
لكن هذا يؤيد ما طرنا من قبل عن مبدأ قراءة التاريخ عبر منطق التشظي الزمني حيث أصبح لدينا- كمتلقين- ذاكرة مفتوحة تستطيع أن تربط ما بين لقطات تلاوة الاستقالة في البداية وتساؤلات ما بعد الاستقالة في ما قبل النهاية, وحيث يتساءل الراوي “العليم” عن حال الباشا بعد الإستقالة فهل أصيب بالإحباط أو أحس بالفشل هي جمع أحفاده وحدثهم عن الواقع الغامض والمستقبل المحفوف بالمخاطر نتيجة المؤامرات على هذا الوطن !
هذه التساؤلات يصيغها سيناريو “سيد سعيد” بنَفس درامي صريح وفي نفس الوقت تشكل ما أشرنا إليه بمقولة حبيب من أن الأسئلة تليق بالشعر فهذا هو تجلي الشعر ضمن سياق التحقيق الوثائقي وليس مشاهد الحصان والموسيقى المحملة بموتفيات الأسى والحزن المفتعل.
ولم يكن هناك أسهل من البحث والتقصي التوثيقي حول ما حدث خلال العامين الأخيرين من حياة “طلعت حرب” أي منذ 1939 حين استقال وحتى 1941 وهو عام وفاته ولكن المخرج ينحو دراميا أو روائيا تجاه الأسئلة الشعرية مطعما البناء التسجيلي بمساحات ذهنية أو شعورية للتأمل وليس للتعريف .
خاتمة
نود الإشارة في النهاية إلى أن النسخة التي عرضت من الفيلم للمرة الأولى بالقاهرة لم يكن بها أي ذكر لثورة مصر في الــ 25 يناير حيث أن الفيلم قد تم الانتهاء منه قبل الثورة ولكن بناء على بعض الآراء من قبل أصدقاء المخرج قرّر أن يضمن الجزء الأخير وبالتحديد ما بعد تيترات النهاية ما يفيد بأن هذا الفيلم ليس له علاقة مباشرة بالثورة وإنما هو ابن مرحلة الاحتقان أو الحَمل الثوري الذي أنجب الــ 25 يناير ولكن هذه المشاهد واللوحات المكتوبة عن الثورة بدت حملا ثقيلا على مغزى الفيلم وسياقه وكأنها عضو زائد, فالفيلم كالكائن الحي أو الإنسان لو نقصت له يد صار مشوها ولو ذادت له ساق صار مسخا ولم يكن “تعظيم سلام” في حاجة لأن يقترن بالثورة لا من قريب ولا من بعيد ليؤكد على كونه رؤية مرهصة بما حدث من خلال التقابلات التاريخية التي لا شك سوف تحدث في أذهان المتلقين!
إن قوة الإرهاص تأتي من انتفاء العلاقة المباشرة بين المادة المرهصة والإكتشاف أو الحدث الذي تم الارهاص به وبالتالي من الصعب تقبل الجزء الأخير على اعتبار أنه جزء عضوي من بناء الفيلم .
بل إن وجوده يصنع حاجزا نفسيا دون تأويل التجربة بشكل يربطها بالثورة لأن المتلقى يشعر أن ثمة قصدية أواجبارا من قبل صانع الفيلم على هذا الربط وبالتالي ينتهك هذا الجزء فطرية أو عفوية الربط الجميلة التي تحدث عقب مشاهدة هذا النوع من التحقيقات الوثائقية المتقنة والهامة.