فعل المُشاهدة بأمّ عينيه
“السينما التجريبية، مثل الزراعة البيولوجية، أو الديمقراطية القائمة على المُشاركة، كان علينا أن لا نضيف إليها صفةً، وبما أننا فعلنا، فهذا يُثبت بأنّ هناك مشكلةٌ مع النعت” (نيكولا ري) (1) .
بالتأكيد، السينما التجريبية، مصطلحٌ، أو معنى يُخيف الآخرين، وهي تمتلك كلّ الحظوظ بأن تُعتبر حادةً، صعبةً، ومحجوزةً لأقليةٍ من المُغرمين، والمتخصصين، ينجزها سينمائيون يبنون مفرداتٍ لغوية بصرية/صوتية لا تشبه ما نشاهده عادةً على شاشات التلفزيون، أو في الصالات التجارية.
هي سينما تحطم عاداتنا، راحتنا، واسترخاء طريقتنا في الاستقبال، حيث يهتزّ الجانب الحكائيّ، يتزاحم، تتصادم عناصره، ويُساء معاملته.
الزمان فيها مختلف، يمكن أن يكون بطيئاً، ويبدو بأنه لن ينتهِ أبداً، الصورة ليست بالضرورة سهلة، ولا تحثّ على الإغواء، والإعجاب، يجب أن يبذل المتفرج جهداً، واهتماماً، ويبحث عن منفذٍ للدخول، ولكن، لا يمكن إغفال تطور السينما التجريبية، وإثارتها للنقاش عند الشغوفين بها.
في مواجهة سيطرة سينما تجارية مُعولمة تتزايد قوتها يوماً بعد آخر، هل هناك أثرٌ للمقاومة يجذب المبدعين، والجمهور المتابع نحو السينما التجريبية ؟.

منذ أكثر من عامٍ، بادرت مكتبة الوسائط السمعية/البصرية في بلجيكا الناطقة باللغة الفرنسية إلى اقتناء مجموعة جديدة من الأفلام التجريبية، فنّ الفيديو، وأفلام التجربة، تعتمد بشكلٍ خاصّ على الإصدارات الرائعة لـ Re:Voir، مؤسُسة باريسية صغيرة، يقودها بحبٍّ وخبرةٍ واسعة، الأمريكي المُقيم في باريس “بيب شودروف”، وهي في معظمها أفلام قصيرة تفضلها السينما التجريبية، وتتضمّن اختيارات من أفلام سينمائييّن، أو حركة فنية.
تهدف هذه الخطوة لوضع هذه الأفلام في متناول أكبر عددٍ من الجمهور، لأنّ التظاهرات التي تحتفي بصحوة هذه السينما تنعقد عادةً في المدن الكبرى، والمؤسّسات الثقافية التي تتعامل مع جمهور مُستهدف، ولهذا، تواصل المكتبة تعريفاً إعلامياً ديمقراطياً لترويج الوسائل التعبيرية الحالية، وهي لا تخصّ “نخبة” من المتفرجين فقط، ولكن، بإمكان أيّ شخصٍ الاهتمام بها، وأكثر من ذلك، يتوّجب الدفاع عن وسائل تعبير يُقال عنها صعبة، وكلما دعونا، وروّجنا للسهولة، كلما أضعفنا ديمقراطيتنا الثقافي(بيّير همبتين).
***
إذا اعتبرنا السينما التجريبية نوعاً، سوف يقودنا هذا التصنيف إلى طريقٍ مسدود، فهي تجمع أعمالاً ذات طبيعة متباينة، وحتى متعارضة :
ـ أفلامٌ تجريديةٌ مرتبطة بالسينما الطليعية في سنوات العشرينيّات: مان ري، أوسكار فيشينجر، هانز ريشتر…
ـ أفلامٌ بدون كاميرا تمّ رسمها، أو نقشها مباشرةً فوق الطبقة الحسّاسة للشريط الخام (8، 16، أو 35 مللي): لين لاي، ستان براكاج..
ـ مناماتٌ درامية، أو ما بعد سوريالية : مايا ديرين، مان ري، هانز ريشتر، برتولد بارتوش….
ـ أفلامٌ بنائية : ميكائيل سنو…
ـ أفلامٌ ومضات (flicker films): بول شاريتز..
ـ مذكرات فيلمية : جوناس ميكاس،….
ـ أشرطة مهملة تمّ العثور عليها (found footage ): ماتياس موللر، مارتان أرنولد،..
الاقتراب من السينما التجريبية منهجاً، موقفاً، وحالةً ذهنية، تحرر السينمائي، وتسمح له بالمُشاركة في سلسلة ممارساتٍ (تُعتبر مدمرة لسينما حكائية سائدة) تبدو أكثر فأكثر خصوبةً(2) .
وهكذا، بالنسبة لـ “نيكول برينيز”(3) (يتعامل الفيلم التجريبيّ مع السينما بدءاً من قدراتها، وليس من استخداماتها، ويركز على التذكير بها، ونشرها، بدلاً من معارضتها، نكرانها، مخالفتها، أو شطبها).
بالنسبة لـ “دومنيك نوغيز”(4) (تُعتبر السينما التجريبية فناً شخصياً، كما حال الرسم، أو الشعر، هي بالأحرى ممارسة يدوية، وليست صناعية، سينما تكشف عن مجموعةٍ من الرغبات بدلاً من الأرباح الاقتصادية).
بالنسبة للسينمائي الألماني “ماتياس موللر”(تفضل الأفلام التجريبية تباينات المعنى المُترنح بدل التطرّق من جديدٍ لقصصٍ معروفة، ومفهومة مسبقاً، إنها تُولد في أرضٍ شعورية مهجورة، أمكنة تتموقع فوق طبقة حساسة لا يمكن تسميتها، يهتمّ السينمائي التجريبي أكثر بالغموض، والحالات غير المستقرة، والتي لا يمكن تصنيفها، بدلاً من الظواهر التي وجدت من قبل معناها النهائي).
جميع عناصر الفيلم الحكائي (العقدة، الإيقاع، الفترة الزمنية، دقة الصورة، التكوين،..) وحتى تلك الخاصة بالنظام التقليدي للسينما (الكاميرا، الشريط الخام، جهاز العرض، الشاشة، المتفرج،..) هي، منذ ذلك الحين فصاعداً، مرجحة للطعن بها، مراجعتها، ونسيانها، أو على النقيض، استثمارها في وضعٍ جديد أكثر نبلاً، واحتفاءً…
وهكذا، عندما يلجأ سينمائيون مثل “مايا ديرين” في فيلميّها (

)، و(Ritual in Transfigured Time)، و”جاكي رينال” في (Deux fois)، وفيليب غاريل في (Le révélateur) إلى الحفاظ على نسيجٍ وهميٍّ، يصبح الخط الروائي ضعيفاً بشكلٍ متزايد حتى خطر تهديده بالانقطاع، تختفي الحوارات (عندما لا يكون الفيلم صامتاً تماماً)، وتحظى مناطق الظلال، وشواطئ الغموض على أسبقية ضرورة الشرح، والفهم.
يتوّجب على المتفرج أن يشارك، يشاهد بأمّ عينيّه، ويجرب بعواطفه، وأحاسيسه الخاصة عالماً تلميحياً، ومعقداً لم نحرص من قبل على تبسيطه له.
ويعتبر الزمن أحد جوانب الواقع الذي دفعته السينما التجريبية في استحكاماتها الأخيرة مع مزيدٍ من البصيرة، والافتتان ـ هو بالتناوب، حساسٌ، شعريّ، علميّ، أو شبه صوفي ـ ، كما لو كان الغرض اختبار كلّ الإيقاعات، السرعات، والأوقات.
في كثير من الأحيان، لا يجسد الزمن الفعلي في الحياة، ولا الواقعي في نفس هذه الحياة المُتحوّلة عن طريق الاتفاقيات الروائية في السينما السائدة، ولكن، فترة رصدّ الأشياء : الوقت اللازم للمتفرج كي يفهمها، يشعر بها، ويجربها، وهكذا، في (Tom Tom the Piper’s Son)، يقترح “كين جاكوبز” عن طريق التكرار، التنويعات، وإعادة تأطير الصور، ساعتين من التحليل البصريّ لفيلمٍ قصير صامت من إنتاج عام 1905 في الأصل لا يستغرق أكثر من خمسة دقائق، “مارتين أرنولد” بدوره “رجلٌ مغرمٌ بالإبطاء”، انطلاقاً من مشاهد قصيرة هوليودية تافهة المظهر(إفطار، عودة رجلٍ إلى منزله، …)، وعن طريق تنقلات حاذقة بين الصور المُتجاورة (نوعٌ من “الخدش” البصري)، يكشف “تفاصيل صغيرة”(تشنجات لا إرادية، تجهمات، ونظرات،..) لا يمكن مشاهدتها، أو ملاحظتها بالسرعة العادية لتدفق شريط الفيلم في جهاز العرض.
في منظورٍ شاعريٍّ أكثر منه تحليليّ، يتباطأ “يوكو أونو” كثيراً عند “أحداثٍ مجهرية” عن طريق التصوير بكاميرا علمية بسرعةٍ كبيرة، وعند العرض 24 صورة في الثانية، نشاهد في فيلمه (Eye Blink)، ولمدة دقيقة واحدة، غمضة عينٍ كما لا يمكن أن نتأملها في الواقع.
وهنا نكشف عن التأثيرات الثمينة لهذه “السينما الأخرى”، أكثر من دورها مختبراً لبحوثٍ جوهرية تحصد سينما المؤلف بانتظام نتائجها الباهرة (ألفريد هيتشكوك، وونغ كار- واي، أو فيليب غراندريو)، أو حتى الصور الأكثر تجارية (أغاني الفيديو، والأشرطة الإعلامية)، فإنه عندما لم تعد تميل إلى توظيفها “داعماً واضحاً لشيءٍ آخر”ـ عقدة، محتوى، نتاج، أو توقع ـ فإنّ السينما التجريبية، وبدءاً من أهمّ العناصر الأساسية للغة السينمائية (الضوء، الزمن، الحركة ،..) تجسد قطيعةً مع إمكانيات الإعجاب، وسحر السينما في بداياتها.
“هذه هي السينما، صور، لقطات، السينما بين الصور، السينما هي تك تك ـ صوت زناد تشغيل الكاميرا ـ، ضوء،…حركة،…شمس،..ضوء، خفقان قلب،..تنفس، …ضوء،.. لقطات، تك تك”(تعليق “جوناس ميكاس” من خارج إطار الصورة في فيلمه “Walden”).
هوامش:
(1) ـ نيكولا ري : سينمائيّ تجريبيّ فرنسيّ، هو المسئول عن المُختبر المُستقل L’abominable، وتعني : الشنيع، الممقوت، أو البغيض، وهي نعوتٌ تنطبق ـ ربما ـ على السينما التجريبية عند الذين انحصرت أذواقهم في السينما السائدة.
(2) ـ في هذا الخصوص، أقترحُ مشاهدة سلسلة الأفلام التسجيلية التي أنجزها الثنائيّ الفرنسي “فريدريك دوفو”، و”ميشيل أمارجيه” تحت عنوان Cinexpérimentaux، والتي تتطرّق تيماتها لخفايا السينما التجريبية من المختبر، وحتى التوزيع.
(3) ـ نيكول برينيز : أستاذة في جامعة باريس الأولى، ومبرمجة عروض منتظمة للسينما التجريبية في السينماتيك الفرنسية.
(4) ـ دومينيك نوغيز : كاتبٌ، روائيٌّ، وباحثٌ فرنسيّ، ويعتبر واحداً من كبار منظريّ السينما التجريبية.
ـ تتكون هذه القراءة من ترجمة نصيّن كتبهما “بيير همبتين”، و”فيليب دلفوسال” في موقع مكتبة الوسائط السمعية/البصرية في بلجيكا الناطقة باللغة الفرنسية.
http://www.lamediatheque.be/dec/cinema/cinema_experimental/index.php
(فعل المُشاهدة بأمّ عينيه) مستوحى من (The Act of seeing with one own’s Eyes ) عنوان فيلم للسينمائيّ “ستان براكاج” الأب الروحيّ للسينما التجريبية الذي رحل عن عالمنا في مارس عام 2003.
ونصّ “فيليب دلفوسال” هو نسخة منقحة في عام 2004 (على إثر اقتناء مجموعة جديدة من الأفلام) لمقالةٍ كتبها قبل عامٍ لمجلة شهرية مجانية (Tous azimuts) تصدر عن المكتبة، في غضون ذلك، اقترح “فيليب آلان ميشو” على إدارة “مركز جورج بومبيدو” بباريس برمجةً بعنوان “هوليوود تُفكك، إعادة مونتاج، إعادة إخراج، إعادة تنظيم” تعكس وجهة نظر مغايرة عن العلاقة بين السينما التجريبية، والسينما السائدة.
(اعتقدنا بأنّ السينما التجريبية اكتشفت أشكالاً عمّمتها هوليوود، وجعلتها شعبية، وهنا فكرة معاكسة: السينما التجريبية تُعيد بناء صيغ السينما الهوليوودية.
الكاتب “فاليري لاربو” يقول عن “مانيه” : فقط، الفنان المبتكر بأصالةٍ قادرٌ على النظر إلى الماضي”، هناك استثمارٌ لا يحنّ إلى الماضي، ويسمح لنا بالتفكير بتجديد الأشكال) “مقتطفات من حوار مع فيليب آلان ميشو، أجرته إليزابيت لوبوفيتسي، وفيليب أزوري في صحيفة ليبراسيون بتاريخ 9 يونيو 2004” .