قبور لاحدود لها ” كفكرتنا عن المجهول”

  ( ظل الغياب ) لنصري حجاج
تصلح السيدة الفلسطينية “روزا” ذريعة درامية ليبدأ المخرج الفلسطيني “نصري حجاج” فيلمه الوثائقي ( ظل الغياب) من مخيم عين الحلوة القريب من مدينة صيدا اللبنانية الجنوبية.
 صعب في زمن فلسطيني خالص أن تحمل سيدة مثل هذا الاسم ، هي نفسها تعترف بذلك ، وإن أخذ المخرج حجاج عليها أنها  ” رفيقة ” لأمه ، وتدمن وظيفة واحدة هي زيارة مقبرة الشهداء التي تقع خلف المخيم مباشرة .
“روزا” تعطي مفتاح الفيلم إذن وتغيب مع الغائبين ، لأن رحلة حجاج لن تقف هنا ، أو لن تقف عندها، فخصوصية هذه السيدة تكمن أصلا في سرعة اختفائها وغيابها، مثل كل الآخرين الذين سعى المخرج إليهم في قبورهم المتناثرة في مناف كثيرة، لم ترأف بهم، ولكنها كانت ظالمة في معظم الأحيان.
 حسنا يفعل حجاج بسؤاله الصحفي الاسرائيلي عاموس كينان عن تفسيره لسبب رفض دولة اسرائيل دفن غير اليهود فيها، والإجابة مع ذلك ستكون واحدة : نحن دولة ظالمة.
 يقدم هنا الفيلم حالتين ليشرح فيهما مدى إستعداد الفلسطيني ليموت في المنفى ويتحدى هذا الظلم بالعودة ليدفن في فلسطين موطنه الأصلي.

الدكتور “إبراهيم أبو لغد” الأكاديمي الفلسطيني الذي اختبر بعلمه ودرايته المنافي الظالمة ودفن في مدينة “يافا” رغما عن قوانين دولة اسرائيل لسبب واحد، وهو أنه توفي في مشفى المقاصد في القدس ، ما أتاح له أن يدفن في مسقط رأسه رغم أن وصيته كانت تشدد على أنه في حال منعت اسرائيل ذلك أن يُحرق جسده ويُذرّ رماده في مقبرة يافا ” ملعب الطفولة ” في أحايين كثيرة .
الحالة الثانية كانت مع الشاعر الراحل “راشد حسين” الذي أعيد من الولايات المتحدة ودفن في مسقط رأسه مصمص، فمن حسن حظه أنه كان يحمل جواز سفر اسرائيلي ما سمح لجثمانه بالعودة ” المباركة ” إلى قريته في الجليل الأعلى .
في ( ظل الغياب ) يمكن للمقابر المتناثرة في أماكن كثيرة : فيتنام، تونس، بلغاريا، بيروت، صيدا، دمشق، أشرفية عمان، رام الله، ولندن..أن تختصر رحلة الفلسطيني نفسه في مناف متغوّلة كان صعبا عليه أن يجد  مكانا ليدفن فيها.
 بعض أماكن الاستراحة الأبدية أخذت رموزا مختلفة لراحة النفس ، ففي المكان الذي دفن فيه بعض مئات الفلسطينيين واللبنانيين في مخيم الكرنتينا أثناء الحرب الأهلية اللبنانية ثمة مرقص ليلي على شاكلة تابوت كبير وطاولات تأخذ أشكال قبور يضج بالموسيقى الصاخبة، ربما لا تقلق راحة الموتى، بقدر ما تقلق راحة من بقي على قيد الحياة ليقوم ويرقص فوق العظام متحديا ضجر الحياة الحديثة.
في دمشق، وتحديدا مخيم اليرموك اختبرت قيادة منظمة التحرير علاقاتها المرتبكة مع القيادة السورية من خلال قرار دفن خليل الوزير فيها بعد جنازة شارك فيها مليون فلسطيني حينها، فيما فشل الفلسطينيون في دفن ياسر عرفات  في القدس فوضعوه في صندوق مؤقت من الاسمنت في قبر في رام الله بانتظار أن تحين اللحظة المباركة وينقل فيها جثمانه إلى ساحة الأقصى الشريف بحسب وصيته، “وهي الساحة التي كانت ملعب الصبا لأبي عمار”، ولم ينس الفلسطينيون أن يرشوا تراب القدس والمسجد الأقصى على قبره المؤقت .
بالطبع لا يفوت “نصري حجاج” الذي لم يصدق يوما أن ” الختيار” سوف يرحل أيضا، أن يذكر في الفيلم حين طرح الفكرة عليه حماس عرفات لها ومطالبته اياه في نفس الوقت ألا ينسى قبري الحاج أمين الحسيني وكمال ناصر في بيروت.
 وحين زارت كاميرا “نصري حجاج” مقبرة الشهداء في بيروت أدرك حينها سبب طلب عرفات منه ذلك، فهذه المقبرة الفلسطينية تعج بشهداء من طوائف وقوميات مختلفة، فهناك مسيحيون ومسلمون شيعة وسنة ودروز وكرد وسوريون ولبنانيون ويابانيون وباكستانيون، وهي ربما تصلح لتشكل هوية المنفى نفسه حين يأخذ أبعادا رمزية لايمكن أن تحدث إلا في حالة الموت حين يتوحد سكان المقابر على هوية واحدة لم يكن ممكنا حدوثها  لولا الانتصار لقضية عادلة والموت في سبيلها.
حتى “بلقيس الراوي” زوجة الشاعر نزار قباني وجدت مكانا لراحة النفس بين كل هؤلاء الذين أجبرتهم المنافي على الدفن فيها بعد أن تقطعت بهم سبل العودة بجثامينهم إلى ديارهم الأصلية، فالبروفيسور ادوارد سعيد الذي وجد شجرة زيتون مباركة في برمانا لوضع بقايا رماده فيها يدفع المطران جورج خضر ليقدم تحليلا لهذا الخطوة الرمزية التي أقدم عليها في وصيته بعد أن رفضت اسرائيل دفنه في فلسطين .
( ظل الغياب ) فيلم وثائقي تختصر رمزيته  قصيدة لمحمود درويش بصوت “جوليا قصار” يقول مطلعها ( لنا بلاد لا حدود لها كفكرتنا المجهول ).
 هنا الموت الفلسطيني المعادل لهذه البلاد يصبح كذلك..”أنور شهاب” دفن في فيتنام ؛ أحيانا لا يعود مهما معرفة وظيفته، ولكنه فلسطيني مُنع من العودة للدفن في مسقط رأسه..”نضال خليل” الذي قضى في العاصمة البلغارية ومنع من العودة للدفن بين أهله لا يعود مهما معرفة وظيفته قبل استشهاده..”ناجي العلي” دفن مؤقتا في لندن بعيدا عن “عين الحلوة”..”محمود الهمشري” دفن في باريس.. ما يصبح مهما في هذه الحالات هو معرفة حقيقة واحدة تبدأ روزا من عندها ببداهة : سيموت الفلسطيني في كل مكان ، وعندما يموت لن يجد مكانا يدفن فيه . فهذه الأماكن ليست أماكن حقيقية لراحة النفس الأبدية طالما أنها لاتكون في فلسطين .


إعلان