“يجب أن نتحدث عن كيفين”: سيكولوجيا الطفولة الشريرة
كثيرة هي الأعمال السينمائية التي تعتمد بشكل رئيسي على الدراما النفسية والتحليل النفسي، أو محاولة سبر أغوار النفس البشرية ودوافعها، لكن القليل منها يقترب من تلك المنطقة الغامضة التي تتعلق بسلوك الإنسان، دون أن يقدم لنا شروحا مبسطة لكل شيء، بل يكتفي بطرح الأسئلة دون أن يملك الإجابة عليها، وبذلك يدفع المتفرج إلى التفكير والتأمل وطرح المزيد من التساؤلات.
من هذه الأفلام “الحداثية” التي أثارت الكثير من الاهتمام في دورة مهرجان “كان” السينمائي الأخير الفيلم البريطاني “يجب أن نتحدث عن كيفين” We Need to Talk About Kevin للمخرجة “لين رامزي”.
هذا الفيلم من إنتاج تليفزيون البي بي سي ويعتمد على سيناريو شاركت في كتابته المخرجة، مقتبس عن رواية واسعة الانتشار بالعنوان نفسه للكاتبة ليونيل شريفر، كتبت من وجهة نظر الشخصية الرئيسية، وهي شخصية الأم “إيفا”، لكن السيناريو يردها هنا إلى الرؤية الموضوعية التي تروي لنا الأحداث كما وقعت ولكن بأسلوب تتداخل فيه مشاهد الماضي بالحاضر، كما يتغير مكان وقوع الأحداث من بريطانيا الى نيويورك.
ويعتمد الفيلم على اللقطة كوحدة للبناء، لتفتيت الحدث إلى شذرات أقرب إلى التداعيات الذهنية الخاطفة التي تبدأ سريعة ثم تتحول تدريجيا مع تقدم الأحداث إلى لقطات أطول تتقاطع مع المسار الرئيسي للحدث، ويمكن للمتفرج تجميعها معا في النهاية لكي يتوصل إلى الصورة كاملة، مع إبقاء الذروة المخيفة حتى النهاية.
هذا البناء البصري لاشك أنه يثري الرؤية السينمائية، ويضيف كثافة وعمقا إلى الفيلم، ويخلصه من أسلوب الحكي المطرد المتصاعد نحو الذروة، ثم الهابط في اتجاه التطهير، فلا يوجد هنا فعل للتطهير أو للخلاص كما في الدراما الاغريقية التقليدية، بل نحن أمام عمل حداثي مكثف، يذكرك بالسينما الأوروبية “الجديدة”- القديمة في الستينيات والسبعينيات.
إنه عمل ينتمي إلى الحداثة السينمائية من زاوية اعتماده على تحطيم السرد التقليدي، وإبراز دور المونتاج، والتمرد على مسار الحكي التقليدي، والبحث عن علاقة بين المرئي واللامرئي، عن بعد ثالث خفي يكمن وراء السلوك.

هنا نحن أمام أسرة مكونة من زوجة (إيفا)، وزوج (فرانكلين) وابن (كيفن). الأم كانت تعيش حياة مفتوحة تعتمد فيها على نفسها وعلى فرديتها، كانت ترحل عبر بلدان العالم، تؤلف كتب الرحلات، وتحقق ذاتها في تلك المغامرة الممتدة. والآن بعد أن أنجبت كيفن لم يعد باستطاعتها مواصلة ذلك النمط من الحياة، ينتابها غضب داخلي مكتوم ينفجر أحيانا ضد فكرة الأمومة نفسها، رغم حبها الشديد لابنها وخوفها البالغ عليه وقدرتها الدائمة على أن تغفر له وتصالحه وتحاول دائما استرضاءه.
ولكن ماذا يفعل “كيفن” بالضبط، وما هي العقدة التي يتركز حولها الفيلم؟
يولد “كيفن” ويبدأ في النمو، ومنذ مراحله الأولى تبدأ معالم التمرد الشرس واضحة عليه، موجهة في الأساس ضد الأم وضد كل ما تقدمه له الأم.. رغم ارتباطه بالأم أكثر من ارتباطه بالأب، صاحب الدور السلبي في حياته، بعيدا عن التدليل والهدايا والتماس الأعذار دائما.
يبدأ الفيلم من الزمن الحاضر، حيث نرى في المشاهد الأولى كيف يتعرض منزل “إيفا” وسيارتها لاعتداء من جانب مجموعة من الشباب الغاضبين الذين يقومون بتلطيخ زجاج الباب ونوافذ السيارة بالطلاء الأحمر أو لعله لون حبات الطماطم (البندورة) مع ملاحظة أن اللون الأحمر يستخدم كثيرا في الفيلم فيما بعد، سواء في تلطيخ الجدران أم في الدم الذي سيتفجر قرب النهاية.
يتطلع الجيران أيضا إلى “إيفا” في نفور واشمئزاز بينما هي تحاول ازالة الطلاء الأحمر تمهيدا لقيادة السيارة. ويمهد الفيلم كذلك بتصوير حفل من تلك الحفلات المعروفة في اسبانيا التي تقام لتبادل الضرب بحبات الطماطم وعصير الطماطم بين الشباب، في مزيج دموي سيريالي ولكن في سياق هزلي لا ينبىء بالدراما المثيرة التي ستلي ذلك وإن كان يوحي لنا بالطبيعة السيكولوجية للفيلم كما أشرت.
وعن طريق العودة إلى الماضي، تتداعى نثرات من فصول من القصة دون الكشف عما انتهت إليه من مأساة إلا عند النهاية تماما، ونظل ننتقل ما بين الماضي والحاضر، لنتابع تلك العلاقة المعقدة بين “إيفا” وابنها “كيفن”.
“كيفن” يغضب فيلطخ غرفة مكتب أمه بطعام الأطفال وهو أيضا أحمر اللون أو يغلب عليه الأحمر، ويفسد الخريطة التي وضعتها لتوها على الجدار.
“كيفن” لا يغضب بل يبدي من التحدي ما يعجز المرء عن فهمه، فيعاقب والدته سواء بالتبرز الفوري في ملابسه بعد أن قامت لتوها بتغييرها، أو بعصيان أوامرها وتعليماتها، أو بإلقاء الطعام في الحوض.
وبعد أن تنجب “إيفا” أختا له تصغره بثماني سنوات، يحاول قتلها عن طريق اقناعها بتناول مادة بلاستيكية أو التسبب في خنقها. ويقابل الأب شكوى الأم من سلوك “كيفن” بالسلبية أو باللامبالاة أو بالتقليل من شأن ما تتعرض له، فالولد يبدو في الحقيقة لطيفا جدا مع والده ولكنه لا يحبه بل ولا يبدو أنه يحب أحدا على الإطلاق، وهو بوجه خاص، يضمرعداوة شديدة لأمه لدرجة أنها لا تملك ذات مرة إلا أن تتعامل معه بخشونة مما يؤدي إلى كسر ذراعه.
يكبر “كيفن” ويصبح مراهقا، يبدي كل ازدراء واحتقار لأمه، ولكل ما تقوله وتفعله، فهو عنيف، خشن، يميل إلى الإيذاء، يأتيه والده في عيد ميلاده عندما يبلغ الثامنة عشرة، بهدية سبق أن تدرب على نموذج صغير لها هي عبارة عن قوس ضخم ومجموعة من الأسهم الحقيقية لكي يمارس هوايته المحببة في رشق السهام.
هذه “الهواية” هي التي ستؤدي به في النهاية إلى قتل والده وشقيقته وزملائه في الفصل الدراسي في مذبحة جماعية رهيبة.
يقبضون عليه، ويودع في السجن، وتزوره أمه، وتقول إنها ترغب فقط في معرفة أمر واحد منه: لماذا؟ ينظر إليها في هدوء، وبكل بساطة يجيبها: لو كنت أعرف لقلت لك!

رغم تركيز الفيلم كثيرا على “كيفن” بسلوكه المتطرف الذي يشي بأننا أمام مجرم بالسليقة أو بالفطرة، إلا أن هذا الفيلم ليس عن كيفن تماما، بقدر ما هو عن “إيفا”.. تلك الأم التي تفلت منها ذات مرة عبارة تكشف ربما، عن طبيعة ما يرمي إليه الفيلم حينما تقول لـ”كيفن” إنها تكره أن تكون معه الآن تتحمل منغصاته، في حين كان يمكنها أن تكون في صحبة ثلة من الصديقات والأصدقاء في باريس تتناول معهم جميعا الشبمبانيا وتسعد بالحياة.
ربما يريد الفيلم أن يقول إن “كيفن” ولد منحرفا نتيجة أنه لم يأت إلى الحياة بشوق ولهفة وترقب وحب مسبق من جانب الأم، بل ربما تعتبر هي وجوده، ولو على المستوى الداخلي الذي لا يكشف عن نفسه، “نكبة” شخصية عليها!
“إيفا”- التي تقوم بدورها الممثلة “تيلدا سوينتون”- في أداء عبقري- موجودة في كل لقطة من لقطات الفيلم تقريبا، فنحن نتابع ما يجري من وجهة نظرها ولكن دون أن يعتمد الفيلم على أسلوب الحكي المباشر من وجهة نظر ذاتية.
إنها تخفي علب الصابون وأدوات التنظيف وراء باب المنزل الذي انتقلت إليه في ضواحي نيويورك بعد وقوع الواقعة، لكي تكون مستعدة دائما لتنظيف وازالة آثار الاعتداءات التي يتعرض لها المنزل الصغير الذي أصبحت تعيش فيه الآن بمفردها، لكي تتفادى الذهاب لشراء مثل هذه الأدوات وتتحاشى بالتالي نظرات الإدانة التي يوجهها لها العامة الذين يعتبرونها “المرأة التي أنجبت ذلك الوحش”.
هل كان “كيفن” مجرما سيكوباتيا ولد وبذرة الشر مزروعة في داخله؟ لا يجيب الفيلم قط عن هذا السؤال، بل يكتفي بتصوير حالة “كيفن” الذي نراه من خلال أداء ثلاثة من الممثلين، يؤدون دوره في الأطوار الثلاثة المختلفة: وهو طفل ، ثم صبي، ثم شاب مراهق.
إنه أقرب إلى أفلام “دراسة الحالة” السيكولوجية ولكن دون اللجوء إلى آليات التحليل النفسي، بل من خلال العرض والإشارات الكامنة إلى فكرة “فقدان الحب”.
وهنا يصبح فيلم “يجب أن نتحدث عن كيفن” (وهو حديث بين الأم والأب لا يؤدي إلى منع وقوع المأساة) فيلما من أفلام التمثيل أيضا، يعتمد على الأداء الفردي المميز الذي يعتمد على التقمص، تقمص شخصية “إيفا”.. كيف تعبر بالنظرات، بحركة اليدين، بمعالم القلق كما تتبدى في تحريك عضلات الوجه، بخفض الصوت، وبتغميض العينين.
إن أداء “تيلدا سوينتون” في هذا الفيلم هو دون شك، نموذج للأداء الذي يعبر عن التوتر الداخلي دون حوار ودون حركات واسعة مبالغ فيها، بل وأحيانا أيضا، دون أي حركة من جانب الممثلة على الإطلاق.
وأما المخرجة “لين رامزي” فهي تنجح في الاستفادة من إمكانيات شريط الصوت الثري بموسيقاه التي تستخدم نغمات متنوعة وأحيانا تستخدم الأغاني التي تعبر بشكل ما، عن المزاج النفسي العام السائد في الفيلم، كما تعتمد على قطعات المونتاج السريعة، والحركة الطويلة للكاميرا، واستخدام قطع الديكور وتوظيفها كأفضل ما يكون لخدمة الدراما.
“يجب أن نتحدث عن كيفن” نموذج أيضا للفيلم الذي ينتجه التليفزيون، لكنه يظل عملا سينمائيا رفيعا في الأساس، لا يفقد قدرته على التأثير، ولا على إثارة الخيال والفكر.