توثيق الشخصية في الأفلام السينمائية

حضر “الفاجومي” مرة أخرى، وهو الاسم الأشهر الذي يطلقه محبوه عليه، هو “أحمد فؤاد نجم” الشاعر الفوار المثير للجدل، الذي كوّن مع رفيق دربه الراحل الشيخ إمام عيسى، أشهر ثنائي فني ثوري في الوطن العربي، يؤلف “نجم” فيهجو الحكام ويسخر من الأوضاع، ويلحن “إمام” ويغني، ويتناقل الناس الأغاني كالمنشورات السياسية الممنوعة، حتى أصبحت منذ عام 1967 ، وحتى الثورة المصرية في 2011 ، أشهر ممنوعات، وأكثر محرّض على الغضب والثورات .
مع الذكرى السادسة عشرة لرحيل الشيخ إمام في 7 يونيو / حزيران 1995، شهدت دور السينما في القاهرة العرض الأول لفيلم ” الفاجومي”، وهو مستوحى من السيرة الذاتية للشاعر أحمد فؤاد نجم، وإن كان مؤلف الفيلم ومخرجه “عصام الشماع”، يشير إلى أنه تعمد تغيير الأسماء لأبطال الفيلم حتى لا تكون الأسماء الحقيقية، لأنه لا يريد شخصنة العرض ، لكنه يحاول فقط تجسيد الحالة، التي مثلت ظاهرة في المقاومة والغضب في العالم العربي من المحيط إلى الخليج .

الشاعر المصري “محمد فؤاد نجم”

أزمات عبر التاريخ

وكلما ظهر فيلم جديد على الشاشة الفضية ، ثارت معه الأسئلة حول مدى الالتزام بالحقائق التاريخية، والوقائع الحقيقية المتعلقة بالشخصية الرئيسية محل التناول بالفيلم، تكرر هذا مع جميع الأعمال الدرامية التي تناولت شخصيات عامة وتاريخية، أفلام مثل “مصطفى كامل” الذي حققه المخرج ” أحمد بدرخان” وعرض عام 1952 ، عن حياة الزعيم الوطني الذي توفي شابا في مطلع الثلاثينيات من عمره، وأعقبه “بدرخان” أيضا بتحقيق فيلم آخر عن شاب آخر غير تاريخ وواقع الموسيقى العربية، وهو فيلم “سيد درويش” في عام 1966، وقبله كان المخرج يوسف شاهين قد قدم فيلم “جميلة” عام 1960، عن المناضلة الجزائرية الأشهر “جميلة بوحيرد”، قبل أن يحقق فيلمه الشهير من هذه النوعية “الناصر صلاح الدين” عام 1963 ، ورغم ما أثاره هذا الفيلم من جدل حول دقة أحداثه وشخصياته وموافقتها للوثائق التاريخية، إلا أن فيلما آخر أثار جدلا أعنف حول شرعية تحقيقه أصلا، هو فيلم “الرسالة” عن حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والذي ظهرت فيه شخصية حمزة رضي الله عنه عم النبي وجسدها “أنتوني كوين” في نسختها الانجليزية و”عبد الله غيث” في النسخة العربية وهو من إخراج السوري الراحل “مصطفى العقاد” عام 1976 ، ونفس المخرج والأبطال هم من حققوا فيلما آخر عام 1981 هو” أسد الصحراء”، عمر المختار البطل الليبي الأشهر، وطبعا هذه الأزمات لا تقارن بالزلزال الذي حدث حول فيلم لم يتم أصلا عام 1926، وكان بطل الواقعة ساعتها هو الفنان الراحل الكبير “يوسف وهبي”، عندما نشرت مجلة المسرح خبرا تقول فيه إن شركة سينماتوغرافية ألمانية جاءت إلى مصر واتفقت مع “يوسف وهبى” على أن ينتقل مع بعض أفراد فرقته إلى باريس ليمثل للشركة رواية «النبى محمد»، وكان الأمر يجري بترتيب تركي وتحت رعاية رئيس تركيا في ذلك الوقت “مصطفى كمال أتاتورك”، ودارت الدائرة وثارت الثائرة من الأزهر والعلماء وحتى المواطنين العاديين، وهدد الملك فاروق ملك مصر وقتها بسحب الجنسية عن يوسف وهبي إن فعلها، مما اضطره في النهاية للتراجع، ولم يتم تصوير الفيلم أصلا بعدها لحساسية الموضوع المفرطة؛
 ومن ليبيا للجزائر حيث الجدل هذه المرة لم يكن فنيا فقط بل عائليا أيضا ، بعد مشكلات أثارتها عائلة المغني الشهير الراحل الشاب حسني ، ضدّ مخرج فيلم ” الأغنية الأخيرة ، الذي يروي قصة حياته حتى اغتياله في سنوات الدم والرصاص، وظهر الفيلم عام 2009 للمخرج مسعود العايب ، إلا أن هذا النوع نفسه من مشكلات أفلام السير الذاتية للمشاهير، كان نوعا متكررا دائما، خلافات عائلية ومالية وقضايا وخلافه، وهو نفس الأمر الذي حدث مع  أفلام مثل، كوكب الشرق عن قصة حياة أم كلثوم وصدر عام 1999، من إخراج محمد فاضل، وأيضا لنفس المخرج فيلم / ناصر 56 عن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وصدر الفيلم عام 1996 ، بما أن أم كلثوم لها فيلم فطبيعي أن يتحقق فيلم آخر عن المطرب عبد الحليم حافظ  والذي أخرجه شريف عرفة عام2005 ، وكذلك الأمر إذا كان فيلم لناصر فسيكون هناك فيلم عن الرئيس الراحل أنور السادات ، باسم “أيام السادات” حققه المخرج محمد خان عام  2000.

“الفاجومي” ..جدل أخلاقي

بالعودة لآخر عنقود أفلام السير ، فيلم “الفاجومي” الذي قام ببطولته خالد الصاوي ، ومعه صلاح عبد الله ، نجد الجدل هذه المرة يكتسب بعدا أخلاقيا، فالمؤلف وهو نفسه المخرج أعلن من البداية أنه ليس مجرد سيرة ذاتية للشاعر أحمد فؤاد نجم ، ولم يلتزم بالشخصيات الحقيقية تماما ولا بأسمائها ، لكنه جاء إلى حد كبير متطابق معها وان أطلق عليها أسماء أخر، لكن الانتقادات التي وجهت للفيلم تركزت أكثر بعيدا عن الأمانة التوثيقية ولكن إلى الانتقائية الأخلاقية، حيث يكثر في الفيلم استعراض نهم “الفاجومي” للنساء والعلاقات المتعددة في هذا الإطار، وجو اليسار في أواخر الستينات والسبعينات من القرن الماضي حيث صوره المخرج مفرطا في لا مبالاته الأخلاقية من حيث المخدرات والعربدة والسلوكيات غير المبالية ، وبالتالي يرى من انتقدوا الفيلم انه ابتعد عن تجسيد الحالة النضالية، لصالح خلطة شعبية سينمائية من المخدرات والانحلال المصور ، في حين من يرجع للوثيقة الأساسية في هذا الصدد ، ونعني بها مذكرات نجم نفسها ، التي كتبها وأصدرها في بداية التسعينات من القرن الماضي، يجد الوقائع التي يحكيها عن نفسه ونشأته وأهله موغلة في العدمية والتشرد والإنحلال، وهو يبدو سعيدا برسم هذه الصورة عن نفسه ولم ينفها في يوم، بل يصف  والده ضابط البوليس المتقاعد وكيف كان يحب اللهو مع النساء، ويصف جلسات التحشيش التي كان يمارسها هو بشكل دائم ، وأخوه الأكبر الذي تاه ولم يلتقيه في حياته سوى في السجن، حيث كان أخوه من أكبر لصوص الخزانات المالية، وكان نجم نفسه محبوسا في قضية تزوير واختلاس اعترف بارتكابها، ولم يكن في كل حياته وحتى الثلاثينات من عمره أي لمحة  من الإهتمامات الكبرى أو العمل الوطني، باستثناء المرة التي انسحب فيها مع عشرات الآلاف من العمال من العمل في معسكرات الانجليز، احتجاجا على رفض بريطانيا استقلال مصر، وأخرى قام فيها بحرق سيارة بوليس لكابتن انجليزي، وزامل في طفولته عبد الحليم حافظ المطرب الشهير في الملجأ لمدة عشر سنوات كانت فترة صباه ، ولم يحصل على أي تعليم أو شهادات …

 وهكذا تمتد سيرته التي يرويها بنفسه، لاشيء فيها يختلف كثيرا عن أجواء الفيلم بالفعل، ومع ذلك لا يتوقف الجدل أبدا حول “توثيق” وضبط الأفلام السينمائية التي تتناول السيرة الذاتية لشخصية ما، ما بين احتجاجات من مهتمين، وإعتراضات من تاريخيين ومختصين، ودعاوى قضائية من أقارب ومستفيدين، والحكم في الأول والأخير على يجب أن يكون بمعيار العمل الدرامي، وليس الوثيقة التاريخية، فمن أراد أن يعرف الوقائع ويطلع على الوثائق، فعليه بكتاب التاريخ وعلمائه، أما من أراد العيش في الأجواء والتفاعل مع الفكرة أو الشخصية في جانب منها وفق رؤية صانعي الفيلم، فستظل الشاشة تقدم ما تراه بعيون صانعيها، وهي ليست عيون تسجيلية محضة، لكنها عين تنظر في الحقيقة وتستلهم الخيال، وهكذا هي السينما، حتى في أقصى درجات توثيقها وعلميتها.


إعلان