رضا الباهي: سأظل حذرا من السلطة مهما كانت

انتظمت على هامش مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية الأخير ندوة عن السينما والثورة. وقد اشترك فيها كل من المخرج التونسي رضا الباهي والمصري خالد يوسف. والتقينا برضا الباهي في حوار مطول عن السينما التونسية ما قبل وما بعد الثورة والآفاق التي ستنفتح للسينمائيين.
رضا الباهي ينتمي إلى جيل من السينمائيين الملتزمين بقضايا سياسية واجتماعية قومية ووطنية. ونظرا لتكوينه في علم الاجتماع في نهاية الستينات في فرنسا فهو من جيل انتفاضة الطلبة في باريس سنة 1968 التي كانت فارقة في جيل المثقفين الفرنسيين والمغاربة. ثم انتقل من العلوم الإنسانية إلى السينما ليستثمر رؤية استكشافية ستعبر عنها أفلامه. لذلك يعتبر رضا الباهي صوتا مختلفا عن السينما التونسية السائدة إعلاميا.

****************

* صورة السّينما التّونسيّة في المشرق إمّا مشوّهة أو معدومة فحبّذا لو تعطنا بانوراما سريعة عن السّينما التونسيّة.
نبعت السّينما التونسية من مدرسة سينما الهواة و نوادي السّينما التي وجدت في فترة الستّينات و السّبعينات، في تلك الفترة كانت السّينما العالميّة و حتّى السّينما الفرنسيّة بعد الموجة الجديدة في فرنسا، بعد

المخرج رضا الباهي

انتفاضة الطّلبة سنة 1968 و هزيمة العرب سنة 1967. وسينما الهواة هي سينما بكاميرا صغيرة و بإمكانيّات بسيطة تخرج صورة من الواقع . هذا ما تعلّمناه من بقايا السّينما الواقعيّة سواء كانت الإيطاليّة أو حتّى الواقعيّة الجديدة التي تبنّاها صلاح أبو سيف و مجموعة من السّينمائيّين المصريّين فارتباطنا بهذا الإرث،لأنّنا افتقدنا السّينما الهوليوديّة والصّناعة الموجودة في مصر، هو الذي جعلنا نصنع دائما أفلامًا قريبة، ما عدا مخرج واحد هو “عمر الخليفي ” الذي كان يصنع أفلاما تجاريّة، أمّا بقيّة المخرجين حتّى وإن كانت أفلامهم لا تعجبنا.
فهي أفلام تصنَّف إلى ثلاثة أنواع: فيلم الستايل (الأسلوب) الفنّي الذي كان يتبنّاه المخرج ” ناصر خمير ” و المخرج ” منصف ذويب ” و هناك الفيلم السّياسي الاجتماعي الذي كان يشتغل به ” ناصر القطاري ” و ” عبد اللّطيف بن عمار ” و ” رضا الباهي “و ” الطيّب الوحيشي ” و ” إبراهيم باباي ” الذي أخرج ” و غدا ” فهذه المجموعة هي التي أثّرت في السّاحة أكثر من غيرها . ثمّ يأتي جيلٌ آخر هو جيل ” النّوري بوزيد ” الذي قد يكون قدّم أفلاماً أثارت جدلاً رغم أهميّتها هي لا تمثّل السّينما التونسيّة، و لكن، لأنّ “الإعلام واكبها ولأنّ منتجها رحمه الله “أحمد عطيّة ” كان يتقن التّرويج،  فتكلّمت الأوساط الإعلاميّة عن أفلام “النّوري بوزيد” وعن أفلام صديقتنا ” مفيدة التّلاتلي” في فيلم ” صمت القصور ” فأصبحت هذه السّينما لمّا يتحدّثون في الشّرق خاصّةً في سوريا وفي مصر عن السّينما التونسيّة يستعرضون أسماء ” فريد بو غدير” و” النّوري بوزيد “و ” مفيدة التّلاتلي.
لكن، في الحقيقة هي عكس ذلك لأنّ السّينما التونسيّة الأساسيّة هي  “محمود بن محمود “، و” عبد اللّطيف بن عَمّار “، ومجموعة من السّينمائيّين بوسائلهم البسيطة تكلّموا عن مشاكلَ كثيرة فمثلاً “الطيّب الوحيشي ” كان مختصًّا في مشاكل الطّبقة الفلاحيّة المغلوبة على أمرها في “مارث” في الجنوب كما في فيلم “ظلّ الأرض”، وغيره كان ملتزما فعلاً بهذه المشاكل، كذلك المخرج “رضا الباهي ” في فيلم ” شمس الضّباع” و “الهويّة” “الوشم على الذّاكرة” و غيرها من الأعمال .
كذلك المخرج “ناصر القطاري” و موضوع المهاجرين إلى أوروبا في فيلم “الشفراء” فهذه المجموعة من السّينمائيّين هي التي تقدّم فعلاً الوجه الحقيقي للسّينما التونسيّة.

* لقد أدرجت نفسك ضمن السّينما السياسيّة أو ” سينما السّياسة أو الاجتماعيّة السياسيّة ” لو تعرّفها لنا لأنّنا قد نعترض ونقول إنّ السينما السياسيّة عادةً هي سينما إيديولوجيّة خالية من الجمال إلاّ نادراً و تذهب إلى المباشرتيّة .

** من المعروف أنّ مدارس كثيرة وسينما مختلفة خاصّة أوروبيّة و في أمريكا اللاّتينيّة بالذّات،  في الستّينات و السّبعينات و خاصّة الموجة الفرنسيّة الجديدة، قدّمت سينما ضدّ السّينما السّائدة الهوليوديّة بأساليبها لكن تعتمد بالأساس على الرّواية وعلى ممثّلين وعلى قصّة و حبكة و كتابة سيناريو والطّريقة في السّرد. فنحن الجيل الذي بنى على خيبة تجربة  “أحمد صالح” و على خيبة تجربة ” القوميّة العربيّة ” عند النّكبة سنة 1967 طبعًا ورثنا المرارة عن والدينا من نكبة 1948 لكنّنا عايشناها، كان عمري سنة واحدة عندما حدثت النّكبة لكنّنا رضعنا هذا الإحساس بالنّكبة والخيبة وجاءت نكبة 1967 ثم حرب 1973 التي يعتبرها الكثير انتصاراً، لكن ما وقع في مصر ليس انتصارًا، مجموع هذه الخيبات أضفْ إليها حرب لبنان في 1975، كلّ هذه الخيبات المتتالية جعلت انتماءَنا الفنّي يوجّه السّينما التي يصنعها إلى مجتمعه لذلك أُلحّ في تسمية هذه السّينما بالسّياسيّة لأنّنا لم نتطرّق فيها إلى التّرفيه مثلاً أو إلى أفلام بوليسيّة، كلّها قضايا اجتماعيّة ساخنة و كلّ مخرج ملتزم بها. فالغاية سياسيّة بمفهومها الشّامل و ليست سياسيّة بمفهومها الإيديولوجي .

* أنت معروف، في السّينما التي تنتجها أو التي تبدعها بالتزامك بقضايا محليّة مثل فيلم  “شمس الضّباع” و لكن هذا البعد كوني في النّهاية.
لمّا تكون المحليّة صادقة، واللّجوء إلى المحلّية ليس لإظهار “الفلكلور” فقط و تسويقه بقدر ما هو إظهار عذابات الفلاّح، عذابات هذا الشّخص الذي ليس له شغل في المدينة، هذا النّازح من البادية إلى المدينة، لمّا تكون صادقاً في التّعبير عنه وتضع الكاميرا في المكان المناسب مثلاً عندما أخرجت “العتبات الممنوعة” فبائع البطاقات البريديّة للسّيّاح وكبته الجنسي هو مأساة كلّ واحد. وعند عرْض الفيلم في أيِّ مكان من إسبانيا إلى البلدان السّياحيّة يقولون لك هذه المأساة عشناها في الخمسينات والسّياحة في بداياتها، هذا ما أقصده، هذا هو الأساس . ليست المحلّية التي تغلق الحدود بقدر ما هي اللّجوء للصّدق في التّعبير الذي يجعل هذه المحليّة مرتبطة بالعالميّة .

من فيلم السنونو لا يموت في القدس

هل نجد هذا التّصوّر أو هذه الرّؤية في فيلم ” الخطاف لا يموت في القدس ” ؟
كان هناك أناسٌ سنة 1994 متفائلين بعمليّة السّلام، فقرّرت التّصوير في غزّة و القدس،  واكتشفت أنه لا سبيلَ للسّلام الذي يتحدّثون عنه، وعندما عبّرت عن هذا اليأس وعن هذه القناعة الشّخصيّة قالت منظّمة التّحرير في تلك الفترة إنّني خنت الفلسطينيّين لأنّني عبّرت عن تشاؤم لأنّ الفلسطيني يقتل الفلسطيني، لأنّني لما صوّرت الفيلم “حماس” لم توجد الحركة في تلك الفترة، لكنك تشعر بأن الاتّجاه الذي تسلكه المنظّمة لا يعكس تطلّعات غزّة، وعندما تبرز هذا اليأس وتشعر بأنّ “إسرائيل” متمركزة بشكل يكاد يكون نهائياًّ ورأيت العلاقات بين الفلسطيني القاطن هناك ليس الفلسطيني الذي جاء من هناك أو من بلد آخر، بين الفلسطيني الذي بقي هناك و بين الإسرائيلي علاقة تكاد أن تكون عضويّة ( ثنائيّة الموت و الحياة) فأصابني نوعٌ ليس باليأس و لكن نوع من الواقعيّة التي أردت أن أصوّرها بمرارتها، هذه المرارة التي صدمت بعض الأطراف والآن ندم الكثيرون على بعض التّصريحات و قالوا إنّ ” رضا الباهي ” كان عنده نوعٌ من الاستكشاف فقلت لهم ” الله يخلّيكم ” مَن يريد أن يقولها لي فَلْيقلْها لي على السّطح و لا يعتذر خِفْيةً في مصعد .
 
* ماهي علاقتك بالسّلطة عمومًا، بالسّلطة السياسيّة في تونس، أي العلاقة بالسّياسي  ” le politique ”.
علاقتي بالسّياسي هي أنني كنت حذرًا، أيام ظهور الفيلم أخذ منّي ” جواز السفر و” أوقفت عنّي ” المنحة ” لأنّني كنت أدرس في باريس ( هذا وقع لي مع النّظام التونسي زمن بورقيبة ) ثمّ بعده في عصر ” بن علي ” منعت من فيلم اسمه “زمن الجرذان” لذا فعلاقتي بالسّلطة تميّزت بعدم التملّق ولم أصنعْ أفلامًا مثل غيري عن ” السّابع من نوفمبر ” و لم أنْسقْ و لم أُمْض على المناشدة بأنْ يرشّح ” بن علي ” نفسه مرّةً أخرى كما فعل بعض الفنّانين والمثقّفين عندنا.  طبعًا، هذا ليس شرفًا و لكنّه موقف سياسي مبدئي، ثمّ أنا أرى أنّ حياتنا زاخرة خاصّةً أنّني درست علم الاجتماع .هناك كثير من السّينمائيّين، بعد أن نالوا شهادة  ” البكالوريا ” (الثانوية العامة)، ذهبوا لدراسة السّينما ثمّ عادوا، لكنّهم لم يحصلوا على شهادات أخرى ليصبح عندهم نوعٌ من الحريّة، ونوعٌ من بُعد النّظر، ونوعٌ من عمْق الثّقافة، وشيء لا اسميه الاعتزاز ولكن الأنفة و الكبرياء لأنه لديك قناعاتك و أنت تعرف في نفس الوقت أنّ هذا النّظام لا يعطي شيئاً إلاّ بمقابل، لكن،لا شيء عندي أقدّمه له لأنّني مُصرّ من البداية، فأنا تعلّمت في سينما الهواة كشْف ما يجري و فضْحه .
 
* السّلطة طبعًا لها وجوهٌ و لها تشكّلات أدّتْ إلى بعض الالتباس في مواقفك خاصة عندما حاضرت أنت و” خالد يوسف ” عن الثورة في مهرجان الجزيرة للأفلام التسجيلية وفُهم كلامك في حديثك عن التطرّف الدّيني أنك ضدّ الدّين أو أنّ السّينما ضدّ الدّين فلو ترفعْ هذا الالتباس؟
لا أعتقد أنني ضد الدين أو أن السينما ضد الدين ولكن الأخ ” خالد ” سامحه الله أراد أن يظهر نفسه غير مُنتمٍ إلى المتديّنين، وتلك قناعته، أما أنا  فقد قلت عليّ أن أكون حذرًا مع أيّ سلطة ستأتي في تونس حتّى و لو كانت دكتاتوريّة باسم الدين. أرى أنّه يجب أن أكون حذِرًا أكثر حتّى من النّاس الذين قاموا بالثورة، لأنّنا نعرف تاريخيًّا أنّ الذي ينتصر في الثّورة ويصل إلى الحكم عادةً ما يغيّر قانون اللّعبة مهْما كان لونه، و مهما كانت اتّجاهاته. فعلى الشّعب إذَنْ و على الشّباب وعلى الفنّان الحقيقي الواقعي الحقّ أن يكون حذِرًا ويقظًا لكي يواصل رسالته. بالنّسبة لى السّلطة الدينيّة، أنا مسلم و جدّي مسلم و أبي مسلم و حاجّ و أنا مواظب على صلاتي، و هذه مسألة شخصيّة بحتة ولا يعنيني أن آخذ اعترافا من الآخرين بأنني مسلم، لكن لن أسلّم لأيّ كان حتّى ولو كان يشاركني اعتقادي بل بالعكس، من يشاركني أفكاري هو الذي سأقف له بالمرصاد.

* أنت تتحدّث عن موقف من موقعك بوصفك مبدعًا دائمًا يخشى السّلطة مهْما كانت.
بالضّبط.

فيلم صندوق عجب

* مهْما كانت !
مهْما كانت السّلطة، حتّى إن كانت السّلطة منّي و إليّ و تعبّر عنّي و أنا أنتخبها.

* و لكنّك أنت على المستوى السّياسي ككائن سياسي تخيّلك كمخرج، ككائن سياسي أنت مواطن تونسي، أتوقّع أنّك تتعايش مع الجميع و لا تُقْصي أحدا.
أبدًا، لا يمكن أن نُقصيَ أحدا، خاصّة وأنّ مجموعة من هؤلاء النّاس الذين كانوا يعانون من الإقصاء هم الذين سيعبّرون عن تطلّعات الشّعب بمن فيهم الجناح الدّيني أو الجناحُ ذو المرجعيّة الدّينيّة .

* هذا يجرّنا إلى الحديث عن الثّورة و تونس و السّينما، الآن كلّ المخرجين و المبدعين في تونس كانوا يندبون حظّهم و يتذمّرون من النّظام، الآن  فُتحت  الأبواب، ألاَ تخشى من “انفلاتٍ سينمائي” شبيه بالانفلاتٌ أمني ؟
أوّلاً الغربلة موجودة، و معروف أن ” الشّاطر ” هو الذي سيقفز، يعني أنّ الفيلم الجيّد، الفيلم الذي يرتكز أوّلاً على أرضيّة صحيحة، على تقنية عالية، على إجادة هو الذي سيبقى وهو الذي سيخلّد، طبعًا، الكثير من الزّملاء خرجوا وقت الثّورة وصوّروا مظاهراتٍ واعتصامات ومقابلات مع النّاس، خاصّة أنّه لم يكن هناك طلب ترخيص، و لم تكنْ هناك صعوبات إداريّة كما كان في السّابق. الآن السؤال هو من سيفكّر ؟ كيف ستدير هذا الفيلم؟ من هي الأطراف التي ستبكي، ماذا ستحكي؟ أنت تعرف، الآن، أنّ الثّورة بصدد التّكوين، والسّؤال المطروح أيضا الآن هو كيف ستعاشر الثّورة بكاميراتك ؟ هذا هو المحكّ و هذا هو التحدّي الصّحيح.

* الثورة الآن على الأقلّ  في هذه الأشهر الثلاثة تنتج أفلاماً  وثائقيّة أو هناك بعض المشاريع، بوصفك عاملاً في ميدان السّينما ومبدعاً، لك تفاصيلك و تاريخك، عندما تنجز الوثائقي، هل تنفي عن ذهنك ” رضا الباهي” الرّوائي و السّينما الروائيّة ؟
بالعكس، الفيلم الأخير الذي أجري له عمليّة ” المكساج” ” لمارلون براندو “، الفيلم طبعا روائي يحكي عن التأثير السّلبي للأفلام الأجنبيّة الأمريكيّة و الأوروبيّة التي تصوَّر في بلداننا، فاكتشفت أنّ القرية التي صوّرت فيها يمكن أن تكون مجالا خصبا للاستكشاف -لأنّي كما قلت لك في البداية خلفيّتي هي علم الاجتماع- لذلك لمّا أردت تصوير القرية و تقديم شخصيّاتها، حاولت الابتعاد عن الطريقة الكلاسيكيّة التي نجدها في الرّواية أو في الفيلم الكلاسيكي المصري، فاستعنت برؤية مرتبطة بواقع معين حيث كلّ واحد من الشخصيات يمثّل طبقةً معيّنة و طبقة لها مشاكلها فيصبح  الفيِلْم و كأنّه دراسة اجتماعيّة عن القرية. وكنت أعتقد أنّ هذا الفيلم بعد الثّورة قد مات، وعلى العكس وجدت أنّه بعد الثورة أصبح أكثر فاعلية بناء على ما شاهدته وقت المونتاج، كانت طبقة هذا البطل وعائلته تختزل مجتمعا بأكمله وما يعانيه من مشاكل، سواء كانت المشاكل التي تطرح، مشكلة الكرامة أو الحرية، وصورة الأمريكي الذي يدوسهم كان لا بدّ أن  يخرج بأيّ طريقة من الطّرق من هذا البلد. فكلّ هذه المشاكل وجدناها أساس الفيلم و السّينما.
 فالإضاءة تسلّطت بفضل مسار الثّورة إلى قراءة أخرى للموضوع نفسه. فأنا إذَنْ في الفيلم الوثائقي  أحاول أن أجعل من الشّخصيات التي تحكي كأنّها رواية، لأنه في وقتٍ من الأوقات، يتلاحم الوثائقي و الرّوائي مع بعضهما البعض، فلا تعرف أيّهما الرّوائي .

* المتابع العادي ينتظر من الوثائقي حقيقةً ومن الروائي خيالاً، فلِمَ تخلط هذا بهذا؟ وأين هي الحقيقة ؟
الحقيقة في الوثائقي هي حقيقة المخرج، لا توجد في الوثائقي ولا في الرّوائي حقيقة مطلقة. فأنت المتلقّي و أنا المخرج .البارحة في الحوار، الأخ  ” خالد يوسف ” قال في محاضرته أشياء حسب رأيي فيها غلط كبير، من قَبِيل أنّ الفيلم الوثائقي والرّوائي ليس فيهما تلاعبٌ بالحقيقة أبدًا، أو أنّ الفيلم الرّوائي ليس بالتّوثيقي، على العكس أنت تجد في الفيلم الرّوائي مثلاً طريقة اللّباس، طريقة الحكْي، المعمار الذي نصوّر فيه، المكان في الشّارع، مع كلّ هذه حقائق، بعد سنوات، يصبح ذاك الفيلم وثيقةً بدوره .
كما قال إنّ الفيلم الرّوائي لا يتلاعب مخرجوه عادةً، لكن هذا غير صحيح فمخرجو الأفلام الهوليوديّة خاصّةً، يخونون الحقيقة  في الأفلام الروائيّة سواء كانت عن الهنود الأمريكان أو في الأفلام الروسيّة الشّيوعيّة فقد كذبوا في الفيلم الوثائقي كذلك. حين أصوّر مصنعًا أو إضراباً في مصنع، أفكّر في الشّخصيّات التي ستحكي والتي سأقدّمها، والأسئلة التي سأطرحها عليهم، طريقة الفيلم، أين ستكون الزّاوية ؟ تلك الاختيارات تغرّد بالواقع الذي سأفرضه عليك (غير موضوعي) فعلينا أن لا نسلّم بسهولةٍ بأنّ الفيلم التّسجيلي يعطي الواقع، بل هو يعطي الواقع الذي اختاره المخرج.

* كيف تقيِّم الوثائقي العربي وهل عندنا فعلاً الآن ثقافة وثائقيّة بحيث لم يعد الوثائقي مجرد حيوانات فحسب بل صار وسيطًا معرفيًّا جماليًّا، أو سَمِّه ما شئت.
يعني حاليا، تلك المحاولات الأولى من أن ننتقل بالوثائقيّة من الريبورتاج ومن التّسجيلي البحت إلى الفيلم التّعبيري،  الوثائقي التّعبيري الذي فيه ما يسمّى بالتّجريبي الذي فيه من الخيال والتّجريب، ليس التّجريب الذي يجعل الفيلم في دائرة ضيّقة فقط، ويصبح فيه نوعٌ من التّلاعب حتّى بالكاميرا، حتّى في تصوير الحدث أو الشّخصيّة أو( الفلتة) لا يعطيها بطريقة “الدّرجة الأولى “

من فيلم صندوق عجب

الآن مفروض علينا أن ندخل في هذه المرحلة فيصبح الفيلم التّسجيلي مبني على مفهوم الخلق والإبداع .

* التّهمة التي تلصق بالسّينما التونسيّة أنّها سينما جنسيّة، فهل لصقت بك هذه التّهمة وكيف تفسّرها، و كيف تقيّمها، وهل هي صحيحة ؟
لا و الحمد لله، مرّةً أخرى نسلّط الضّوء على ” فريد بوغدير ” في  فيلم ” صيف حلق الوادي ” و فيلم ” عصفور سطح ” و ” مفيدة التّلاتلي ” في ” صمت القصور ” و ” موسم الرّجال ” و ” النّوري بوزيد ” في مجموعة من أفلامه، فهذه مجموعة من الذين رأوْا أنّ بيع المرأة و جنسها وعذريّتها إلى السّوق الغربيّة سيسوّق لهم أفلامهم و مرّةً أخرى يقال إنّ المنتج الغربي باعتبار الإنتاج المشترك مع الغرب، هو الذي يطلب ذلك. أفلامي كلّها أنتجها البلجيكيّون والهولنديّون  والفرنسيّون و لم يفرضوا عليّ شيئا أو قالوا لي صوّرْ صدر امرأة تونسيّة عارية أو قدّمْ الرّجل التّونسي بطريقة ما. لم تلصق بي هذه التّهمة و الحمد لله .

* سؤال كلاسيكي دائما، لماذا لم تنتشر السّينما المغاربيّة في المشرق ؟
هذه تهمة ابتدأ بها بعض الإخوان المصريّين من زمان وهي حكاية اللّهجة، فالموزّع المشرقي، يرى أنّ اللّهجة غير مفهومة ونحن نرى أنّه عند عرْض الفيلم أو المسلسل من سوريا أو الأردن كذا مرّة، على المتفرّجين، يسقط هذا الحاجز و تسقط هذه الكذبة، أنا ذهبت حتّى أبعد من ذلك و أتيت بـ” محمود مرسي” في فيلمي ” شمس الضّباع ” و أتيت بـ ” كمال الشنّاوي “و” مديحة كامل ” و ” ليلى فوزي ” في فيلم ” الملائكة ” و الفيلم باللّهجة المصريّة والموزّع الذي دفع الأموال قبل الفيلم لم يوزّع الفيلم في مصر وقال لي هذا فيلم مِهرجانات يعني هناك مشكلة فيبدو لي أن السّينما  المغاربيّة هي سينما فنيّة راقية، والموزّع الشّرقي سواء في الشّرق الأوسط في مصر أو في الخليج متعوّد على السّهولة، أيْ على الفيلم المصري  التجاري فهو لا يريد أن يقدّم سينما جديدة .

* هل ستكسر الثّورات هذا الحاجز ؟
أتمنّى ذلك، و أنا دائمًا أسعى و لن أستسلم.


إعلان