تبني يتامى الشرق الأقصى

حسب الفيلم الوثائقي الجديد “هناك نحو ثمانين ألف طفل صيني ولدوا في الصين وتمّ تبنّيهم من قِبل أسر أميركية مختلفة  وذلك منذ العام 1986.ربما هذا الرقم ليس بالملايين ولن يترك اهتماما كافياً بين المشاهدين، لكن  فيلم ليندا نولتن هذا يترك في النفس مرارة حين يتابع المرء حياة أربع صينيات ترعرعن من هذا المكان النصفي بين أن تكون صينياً أو أميركياً.

في مكان نصفي Somewhere Between

 تنطلق المخرجة ذات الخلفية التسجيلية من أقرب نقطة إليها: هي بدورها تبنّت فتاة صينية  جاءت بها من الصين وهي صغيرة. لذلك بقدر ما تفتح شاشتها هنا على موضوع عام تندرج تحت ردائه العديد من القضايا الاجتماعية والعاطفية، بقدر ما هو موضوع خاص يمت للمخرجة بقدر كبير من الاهتمام كونها واحدة من النساء اللواتي يشرفن على عملية إعادة تكوين كاملة من بيئة عاشتها ابنتها، ولو في سنوات مهدها، لبيئة جديدة ومختلفة.
وفي حين أن المخرجة لا تصوّر ابنتها بين الأربعة اللواتي اختارتهم المخرجة لفيلمها (ساعة ونصف)، إلا أن مشاعرها ومداركها في هذا الشأن لا يمكن تفويتها وهي تتابع الفتيات جينا كوك وهايلي بتلر وآن بوكولتي وفانغ لي. لاحظ أن ثلاثة من هؤلاء الفتيات تم تغيير أسماءهن بالكامل، في قرار مزدوج: أمركتهن كاملاً من ناحية وجعلهن يشعرن بأنهن من البيت والعائلة من ناحية أخرى.
الفيلم هو تحقيق عن كل فتاة على حدة من ناحية وكل عائلة من العائلات التي قامت بتبني الفتاة وعادت بها من دار الأيتام في بيكينغ أو في سواها، إلى الولايات المتحدة. وليس من مفاجآت في هذا الصدد، إنما متابعة للحياة الحاضرة للبنات مع التأكيد على تميّز كل منهن تبعاً للنشأة وللخلفية الاقتصادية (ولو ميسورة في معظم الحالات) لكل عائلة.
على الرغم من ذلك، ومن حقيقة أن المخرجة تمارس شأناً كبيراً من التعاطف وتمنح الشخصيات الكثير من الحب ما يترك تأثيره الإيجابي على الفيلم ومشاهديه، إلا أن المشكلة الرئيسية هنا أن المخرجة لا تتعامل مع الأسباب التي دفعت بتلك العائلات لعملية التبنّي. ولم نسمع مرّة أحداً يذكر سبباً حقيقياً أو حتى جزئياً حول السبب الذي من أجله قام بتبنّي طفلة من الصين (ولاحظ أنهن جميعاً إناث). حتى المخرجة لا تطرح على نفسها مثل هذا السؤال. بالتوازي، هناك تغييب لأبعاد المسألة الاجتماعية وأسبابها: كيف ولماذا يستطيع الأميركي، أو سواه، دفع رسوم ما للحكومة الصينية مقابل اختيار يتيم والعودة به إلى الولايات المتحدة. هذا الغياب يترك فراغاً في لب العمل. ما لا يغيب عن بال المخرجة ولا يفوت المشاهد هو أن جميع الفتيات يبدين رغبتهن في العودة إلى الصين للبحث عن ذويهم. لن يرغبن في البقاء، لكن الماضي الغامض لا يزال مصدر أرق.

***********

المشكلة ذاتها في قالب مختلف نراها في الفيلم الصيني (ذي التمويل الأسترالي جزئياً) “33 بطاقة” 33   Postcards   للمخرجة  بولين تشان.

المخرجة ليندا نولتن

إنه فيلم روائي جديد (الأول لمخرجته منذ العام 1999 حين أنجزت فيلماً لافتاً بعنوان “أكاذيب بيضاء صغيرة”) يدور حول فتاة صينية (زو لين) تصل إلى استراليا ضمن فريق موسيقي من الأولاد والفتيات، لكنها سريعاً ما تنفصل عن الفريق لكي تبحث عن ذلك الأسترالي الذي يبعث لها بمعونة اقتصادية كل شهر. تريد أن تتعرّف عليه وتشكره على ما يقوم به، لكنها تكتشف أنه في السجن بسبب تهمة هو بريء منها.
في المرّة الأولى تخفق في الجلوس إليه من وراء قضبانه (أو نافذته السميكة) والتحدّث إليه. اسمه راندال (غاي بيرس) وهو يدّعي، كما الفيلم، أنه شخص جيّد، بريء مما نسب إليه لكنه يمر بتلك الظروف التي لا مناص منها. في البداية يصرف النظر عن مقابلتها، لكن محاولاتها لا تتوقّف فإذا به يستمع إليها ويتقبّل نصائحها التي تبدو في آن معاً ساذجة وحقيقية. كيف يمكن لرجل مثله أن لا يفكّر في مثل ما توعز به هذه الفتاة من ضرورة إعادة البحث عن هدف في الحياة يختلف عن ذلك الذي أودى به إلى السجن أمر غير معروف، كذلك غير معروف السبب الذي من أجله كان راندال، ومنذ سنوات، قرر إعالة هذه اليتيمة في تلك المؤسسة التي تخرّجت منها.
كل هذا والمؤسسة قلقة وتحاول أن تبحث عنها. لكن ما هو مهم فعلاً محاولة المخرجة التوسّع في شخصياتها لتشمل شخصيّتين مساندتين: شقيق راندال الذي يعيش على سرقة السيارات وصاحب الكاراج الذي يقبل استلام هذه السيارات لبيعها، وابنه الذي يتوعّد الفتاة ذات السادسة عشر من العمر بنظراته الشرسة.
قد يقبل المرء أن الفريق الصيني سوف لن يجد الفتاة في الوقت المناسب، لأن هناك قصّة يجب أن تُروى تنص على ما تمر به الفتاة من تجارب وما تحدثه من اختلاف في قلوب بعض هذه الشخصيات، لكن كيف يقبل أن وجودها لا يُثير أسئلة الاستراليين أنفسهم؟ حين تشتد الأزمة ويصبح وجود الفتاة في استراليا على المحك، تندفع موظّفة اجتماعية معنيّة بمثل هذه الحالات (الممثلة كلوديا كارفان) لإصدار قرار لا التباس فيه يتيح للفتاة البقاء في استراليا. كيف وتبعاً لأي قانون؟ لن نعرف ولا يبدو أن المعرفة كانت في أولويات المخرجة ذات الأصل الفييتنامي.
كما يخلو الفيلم السابق من جوهر يمتد عمقاً لأصل الأزمة النفسية والاجتماعية، يفعل هذا الفيلم ولو أن نجاحه في إثارة الاهتمام بمسألة التفاوت بين الثقافات والمفاهيم وارد.

**********

لو بحثنا، سنجد من بين الألف والأربع مئة فيلم عن موضوع التبنّى الأبيض للعرق الآسيوي البعيد حفنة من الأفلام الأميركية فقط. والمثير أن أشهرها لا يزال فيلماً ذا رسالة يمينية انتقدت كثيراً لاتجاهها ذاك وقام بها سنة 1968 الممثل  (لنحو 168 فيلم) والمخرج (لفيلمين فقط) جون واين عبر فيلم حربي بعنوان “القبعات الخضر”.
كانت الحرب الفيتنامية مازالت في الواجهة. الأميركيون والغربيون يخرجون بتظاهرات مطالبين خروج القوّات الأميركية من فيتنام وترك ذلك البلد يقرر مصيره بنفسه. الصورة ذاتها متكررة في أكثر من حرب.  السياسة الأميركية الخارجية كانت آنذاك كما هي اليوم: يجب أن يفكّر العالم بما يخدم مصالحها وأن تنتمي الدول كلّها إلى فلك سياستها، خصوصاً تلك الدول التي محط نزاع بين الأيديولوجيات، كما كان، بالنسبة للولايات المتحدة على الأقل، وضع فيتنام.

جون واين أمام فييتنام

في خضم كل ذلك، قرر جون واين، الذي وقف لجانب المكارثية وقام ببطولة أفلام معادية للشيوعية في الخمسينات، تحقيق فيلم عن حرب الفيتنام يؤازر فيه موقف الولايات المتحدة السياسي. في الحقيقة، يجب أن يدرك الناقد أنه لا يستطيع أن يحجر الحريّة على رأي مخالف لرأيه. نعم يحق لمخرج يميني أن يصنع فيلماً يعتبر فيه أن ما تقوم به السياسة الأميركية في العراق أو في ليبيا أو في فلسطين سياسة بنّاءة، تماماً كما يحق لمخرج يساري أن يصنع فيلماً مناوئاً يقول فيه العكس. لذلك اختلفت مع الآخرين حين شتموا “القبّعات الخضر” وكالوا له الشتائم.
إنه قصّة كولونيل أميركي كبير اسمه كيربي (واين) يقوم بمهمّة تنفيذ خطّتين تقتضي الأولى بالدفاع عن معسكر ضد قوّات الفييتكونغ المناهضة، وثانيها خطف قائد عسكري فييتنامي شمالي لإنجاز ضربة عسكرية ضدّه ورجاله ومنح القوّات الأميركية درجة أعلى للمساومة. خلال كل ذلك، يتعرّف الكولونيل على صبي فييتنامي يعيش الحرب ويطرح الأسئلة. الصبي ودود ومتعاون والكولونيل يمنحه ثقته وعطفه. ففي النهاية يدرك الكولونيل أنه في بلد ليست له يحارب عدوّاً لم يعتد عليه.
في نهاية الفيلم يضع جون واين يده على كتف الصبي وينظران معاً إلى الأفق. الرسالة واضحة: تبنّي السياسة الأميركية لجيل الغد الفييتنامي الذي سيتطلّع للديمقراطية والحرية متجاوزاً محن الحرب. هناك من كتب حينها أن المشهد “يفضح” النوايا الأميركية وأنه “يؤكد” على النظرة الاستعمارية للولايات المتحدة، كما لو كان يتوقّع ما هو مختلف من سينمائي ينتمي إلى اليمين. هل كان على ذلك السينمائي أن يقتل الصبي بدم بارد حتى ينال الفيلم إعجاب المنتمين إلى الجانب الآخر؟
لست يمينياً، بل أنا سينمائيّ مما يجعل طرح الموقف السياسي على أهمّيته، أقل أهمية من النظر إلى الفيلم كعمل سينمائي أوّلاً وقبل كل شيء والحكم عليه من خلال فنّه وتقنياته بالدرجة الأولى ثم تقييم رسالته السياسية وسط قوسي الحاجة إلى ذلك. هذا التجاوز لا يزال معمولاً به والكثير من النقد العربي لا يزال يتمحور حول مسألة إذا ما أعجب “الناقد” بالرسالة السياسية أو بالموضوع المحكي وليس بكيفية صياغة ذلك الموضوع والتعبير عنه.


إعلان