“نجوم الغانم”..شاعرة السينما الإماراتية

تنتمي المخرجة الإماراتية الشاعرة “نجوم الغانم” إلى نسق كامل من السينمائيين الإماراتيين الذين وفدوا إلى عالم السينما، قادمين من عالم الأدب.. إنها شاعرة معروفة على المستوى الخليجي والعربي في آن، لاتزال على كثير من نشاطها الشعري، وتألقها الإبداعي، الذي يتجلّى عبر مجموعة من الدواوين الشعرية، التي أصدرتها، ومن خلال حضورها في كثير من المواسم والمناسبات الشعرية العربية، في غير عاصمة عربية.

المخرجة الإمارتيّة “نجوم غانم”

ونجوم الغانم، أيضاً، تنتمي إلى الجيل المتقدِّم من السينمائيين الإماراتيين، الذين على أكتافهم، وبإبداعاتهم، نشأت الأفلام، ونهضت السينما، في دولة الإمارات العربية، منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، وصولاً إلى مطالع القرن الحادي والعشرين، حتى باتت هذه السينما اليوم، وبعد مضي عقد ونيف من السنوات، تتقدم شقيقاتها من سينمات دول الخليج العربي، وتقدم أنموذجاً يمكن أن يحتذى بدأبها، وتواترها، وإصرارها على معاندة كل ما يعيق دربها، في الوصول إلى ما هو أوسع من الدولة الإماراتية، والمنطقة الخليجية، طموحاً إلى المجال العربي، إن لم نقل ما هو أوسع.
تتكئ المخرجة “نجوم الغانم”، سينمائياً، على العديد من الأفلام الروائية القصيرة، والوثائقية الطويلة، التي حققتها خلال عقد ونصف من السنوات، حيث تشير المصادر إلى أن سجلها السينمائي يضم فيلمي «الحديقة»، و«آيس كريم»، الروائيين القصيرين، من إنتاج العام 1997، ومن ثم فيلمها الوثائقي الأول «ما بين ضفتين»، عام 1999، الذي ترصد فيه تجربة «العبرة»، ما بين ضفتي خور دبي، قبل أن تعود لإنتاج وإخراج فيلمها الوثائقي الطويل «المريد»، عام 2008. وكانت قبل ذلك قد «حصلت على شهادة البكالوريوس، في الإنتاج والإخراج التلفزيوني، من جامعة أوهايو بأميركا، عام 1996. وكذلك حصلت على شهادة الماجستير، في الإخراج السينمائي، من جامعة غريفيث بأستراليا، عام 1999»، على ما تذكر موسوعة «ويكيبيديا» الإلكترونية.
 كانت المرة الأولى التي أطّلع، شخصياً، على إنتاجها السينمائي، مع فيلمها الوثائقي «المريد»، وهو الفيلم الوثائقي الطويل (مدته 100 دقيقة)، الذي رصدته، منذ ثلاث سنوات؛ عام 2008،، للحديث عن تجربة أحد مشاهير المتصوفة الإماراتيين؛ الشيخ عبدالرحيم المريد (1902 – 2007)، الذي أمكن له أن يكون، بعمره المديد، وتقواه وورعه، وعلمه واجتهاده، صاحب مدرسة، وشيخ طريقة، له مريدوه، وأتباعه، ومنهجه، خاصة وأنه من «أسس الحركة الصوفية، وإنشاد الموالد الدينية في الإمارات»، وامتدت نشاطاته إلى دور الجوار، من سلطنة عُمان، وحتى العراق.
وقد كان لفيلم «المريد» أن حصد العديد من الجوائز في كل من دبي وأبو ظبي: (شهادة تقدير خاصة من مهرجان الخليج السينمائي 2008، جائزة أفضل مخرجة إماراتية للإنجاز في مهرجان دبي السينمائي الدولي 2008، جائزة أفضل فيلم وثائقي خليجي طويل، في مسابقة أفلام من الإمارات 2008)، وأن يلفت الانتباه للمخرجة “نجوم الغانم”، العائدة إلى عالم صناعة الفيلم الإماراتي، بالاشتراك مع زوجها الشاعر/ خالد البدور، الذي سيتعاون معها، دائماً، على صعيد البحث والإعداد والكتابة، كما على صعيد الإنتاج.
هذه المرة، ودون أن تغيب طويلاً، تعود المخرجة “نجوم الغانم”، بفيلمها الوثائقي الجديد «حمامة»، عام 2010، الذي سيكون له نصيب وافر من التقدير، إذ فاز بجائزة أولى، لدى عرضه الأول في مهرجان دبي السينمائي الدولي، قبيل نهاية العام 2010، إبان مشاركته في مسابقة «المهر الإماراتي»، التي أطلقها مهرجان دبي السينمائي للمرة الأولى، كما فاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي في الخليج للعام 2011، وذلك في ختام أعمال مهرجان الخليج السينمائي الرابع، المنعقد في دبي فيما بين 14 – 20/4/2011.
«حمامة»، وهو فيلم وثائقي متوسط الطول (مدته 62 دقيقة)، يأخذ اسمه من السيدة «حمامة الطنيجي»، الشخصية الرئيسية، بل المركزية الوحيدة، التي يقوم الفيلم عليها.
«حمامة»، امرأة إماراتية طاعنة في السن، حتى حافة النهايات، تلتقطها المخرجة نجوم الغانم، بالتعاون مع كل من خالد البدور، وسلطان العميمي، اللذين يشكلان فريق البحث والإعداد، ليقعوا جميعاً على نموذج فريد، يمكن له أن يلخص تاريخ منطقة كاملة، وخلاصة تجارب أجيال متتالية، تمتد على مدى قرابة قرن من الزمن.
تقيم «حمامة»، في منطقة «الذيد»، في الشارقة، وحيدة بعد رحيل الزوج تلو الزوج، ووفاة ابنها الوحيد، وزواج بناتها.

 تصرُّ هذه السيدة العجوز على العيش في بيتها، لا تغادره، بل تحوم حوله، دون أن تبتعد كثيراً.. وفي أفيائه تمارس حياتها، بدأب يفوق دأب النملة النشيطة؛ وفضلاً عن عنايتها بكل تفاصيل يومياتها المعيشية، فإن الأمر الأهمّ في حياتها، سيبدو في أنها تقوم بممارسة العلاج الشعبي، بمختلف أنواعه، بدءاً من الكيّ، والتدليك، وصولاً إلى وصف العلاجات والأدوية، التي تعدها من الخلطات العشبية، والمواد الطبيعية.
يلتقط الفيلم نموذجه هذا، ويُحسن تخيّره من بين ما يمكن العثور عليه من شبيهاتها، إذ سنرى على مدى ساعة وقليل من الدقائق، إلى أي درجة مدهشة يمكن لهذه المرأة الاستحواذ على اهتمام المشاهد، وجذبه للمتابعة، والتأمل في نموذجها.
 إنها مزيج من العفوية والبساطة، والخبرة والتجربة المديدة، تضفي عليها هالة من البريق، من خلال قدرتها على التعامل مع الكاميرا، والتحرك أمامها بحرية تليق بمحترفي التعامل مع عدستها، خاصة وهي تطوي الثمانين من العمر، في مكان غارق بفطريته.
لن تكفّ «حمامة»، عن الأحاديث المسترسلة، سوف تشرِّق وتغرِّب في تفاصيل حياتها، بدءاً من التفاصيل الخاصة والحميمية، وصولاً إلى الأحاديث العامة، التي تثري معرفتها بشؤونها اليومية، وهمومها الحياتية.
 تتحول «حمامة» بفضل اعترافاتها المتدفقة إلى ما يشبه كتاباً مفتوحاً، تتملاه الكاميرا، صفحة إثر أخرى، داخل البيت والأسرة، وفي الجوار، ومع المرضى الذين لا يكفون عن التردد إليها، باحثين عن علاج عجز الطب الحديث عن إقناعهم بقدرته على القيام به، وليس انتهاء بذهابها إلى المزرعة، حيث لها بعض الأبقار والأغنام، وأشياء من موارد رزق، تمنحها الكفاف، وتفيض به هدايا وتبرعات على «صاحب نصيب».
منذ البدء سوف يلفتنا الفيلم، وهو يتقدم بأناة وهدوء للدخول في موضوعه، وتعريفنا إلى «حمامة»، التي منحت الفيلم اسمه، وعنوانه، وستكون راية شهرته، كما ستكون جذوة إشكالياته، والمشكلات التي سوف تعترضه، إتكاء على قناعة البعض، الذاهبة إلى حدّ أن الفيلم مسّ بعضاً مما لا يجوز الاقتراب منه، ونثر أشياء ينبغي لها أن تبقى مطوية إلى الأبد، في مجتمع من أبرز سماته المحافظة والتقليدية، رغم كل ما شهده من تحديث، يبدو أنه لم يطل سوى تفاصيل استعمالية في الحياة، ولم يقارب العقليات، ولا الذهنيات المترسخة والمتوارثة، جيلاً بعد جيل.
تتعامل «حمامة» المرأة، بانفتاح مع كبير من صنّاع «حمامة» الفيلم.. تمضي معهم الأوقات التي يريدون؛ وتتجاوب مع كل ما يطلبون.. يدخلون بالكاميرا غرفة نومها، ويحضرون لحظة صلاتها، ويتواجدون في غرفة جلوسها، ويرافقونها في المطبخ، والفناء، وحتى الشارع أمام البيت؛ يذهبون معها إلى المتجر الشعبي، الذي تشتري منه ما تحتاج لتركيب أدويتها، الخاصة، ويحضرون جلسات العلاج من كيّ وتدليك وتشخيص.. يرقبونها جالسة، ومستلقية، بين أيدي نوم خفيف، بات قلَّما يزروها.
تعترف المرأة بالكثير من تفاصيل زواجها الأول، والثاني؛ رحيل ابنها؛ وزواج بناتها.. قناعاتها الشخصية، وقراراتها الفردية.. حتى تكاد ترسم التاريخ النفسي والاجتماعي لبيئة إماراتية خالصة. بيئة تنفر من مفردات الحداثة والمعاصرة، كما تنفر «حمامة»، من فكرة مرور شارع مسفلت أمام بيتها، لأنه سيحرمها من ساعة جلوس، عند العصر، على حصيرة أمام البيت، تشرب القهوة، وتراقب المارة، وتستقبل من يأتيها لعلاج، أو تزجية وقت!..
ستقول «حمامة» إنها ما عادت قادرة على الرؤية بشكل سليم تماماً، لتقدمها في السن، وبسبب ضربة نالتها من كبش أو بقرة، شوشت رؤية عينها؛ وستعتمد الكاميرا أسلوباً فنياً يقوم على تشويش الصورة، عندما نراها من وجهة نظر «حمامة»، لتعود الصورة صافية تماماً عندما نراها من وجهة نظرنا نحن، وسوف ينضبط هذا الأسلوب على مدى الفيلم، اللهم باستثناء لقطة واحدة، ما كان لها أن تكون مشوشة، على ما نعتقد!..
محاولات للسرد الشاعري، يقدمها الفيلم في أكثر من فصل فيه. يترك مساحات للصمت، والتأمل، وأخرى للمونولوج والاعترافات، وتالية للحوار بين بعض الشخصيات، اللازمة الحضور «أقارب حمامة»، والداعمة له، وغيرها لتصريحات وشهادات مختصين من طراز «د. حورية كاظم»، التي أرادت التأكيد على أهمية ما تفعله «حمامة» من طب شعبي، أو تصريحات وشهادات لأقارب «حمامة» المعايشين لها. ومع الموسيقى الرقيقة، سيأتي غناء شعبي، بصوت جميل، وأداء رائق «هاجر الرئيسي»، وشيء من تلاوة قرآنية.. كل هذا مما منح شريط الصوت في الفيلم، غنى وتدفقاً، وثراء.
صورة باهرة، وحركة كاميرا مدروسة، ولقطات ومشاهد تكاد تقترب من الفن التشكيلي، والرسم بالكاميرا، إلى حدّ اللوحات الفنية، المأخوذة من مكان سيبدو للوهلة الأولى على غاية من البساطة. مجموعة بيوت بيضاء، في مكان مفتوح على المدى، يتوارى خلف رابية، وامتداد رملي يكاد يحاصر كل شيء. ومع ذلك فإن الكاميرا وباقترابها من تفاصيل، هنا وهناك، أغنت المشهدية البصرية لهذا الفيلم، زاد من أناقتها المونتاج السلس، والصوت المتقن التنفيذ.
يمكننا هنا، وفي حالة فيلم «حمامة»، القول إنه يكاد يكون النموذج الناجح لتكاتف وتعاون الجهود المحلية الإماراتية، مع الخبرات والجهود الأجنبية، فمع المخرجة الإماراتية، سيتعاون طاقم أجنبي: مدير التصوير «نيك ديفيدسون»، والمونتير «أيسن رازفي»، موسيقى «زاهر أقه شلي»، هندسة الصوت «رون باغنولو».. ليقدموا جميعاً فيلماً سليماً من النواحي الفنية والتقنية، التي عزَّزت من قوة المضمون، واستثنائية النموذج، وانتهت إلى فيلم على قدر من الجماليات البصرية والسمعية، ومن المهارة التنفيذية، ليشكل بذلك نقلة واسعة في مسيرة المخرجة الشاعرة نجوم الغانم.
ليس ثمة من ضير في القول إن ما بين فيلم المخرجة السابق؛ «المريد»، وهذا الفيلم الجديد، ثمة بون ملفت على كثير من الصعد، إلى درجة ترسِّخ أقدام المخرجة الشاعرة نجوم الغانم في عالم صناعة الفيلم، ليس الإماراتي فقط، بل الخليجي، وربما العربي أيضاً.
يبقى من الجدير ذكره، أن فيلم «حمامة»، وهو إنتاج خاص للمخرجة الشاعرة نجوم الغانم وزوجها الشاعر خالد البدور، عبر مؤسسة «نهار للإنتاج»، فقد لقي الدعم والتمويل من قبل «مؤسسة دبي للترفيه والإعلام»، كما حاز على دعم من مشروع «إنجاز»، في إطار «سوق دبي السينمائي»، أحد فعاليات «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، مما يؤكد أهمية توفر هذه المؤسسات والمشروعات، وضرورة انخراطها في عملية صناعة الأفلام، محلياً وعربياً.


إعلان