شروط .. أكاديمية بغداد للسينما
تبدأ المخرجة العراقية “ميسون الباجه جي” حديثها في فيلم ( أكاديمية بغداد للسينما ) من حيث يفترض أنها ستنتهي.
ثمة شريط مصور يعود إلى زمن بهي وجميل ويمكن خداعه ببساطة لأنه يذكر بطفولة “الباجه جي” نفسها وهي تروي شيئا من سيرتها ” الآفلة “.
يمكن استنطاق المفردة ذاتها ، أو التخلي عنها بسرعة قياسية ، إن أردنا استكمال الحديث عن فيلم المخرجة الهولندية “شوشني تان”، وقد بثته فضائية الجزيرة مؤخرا .
تروي “الباجه جي”، وهي ابنة ديبلوماسي عراقي عتيق أمّن لها إمكانيّة حتى أن تحتفظ بشريط مصور عن طفولة ذهبية لم تتوفر – ربما – لزميلها المؤسس معها للأكاديمية “قاسم عبد”، وهو يشاركها مخاض توليد مدرسة للسينما في العاصمة العراقية، وإن اشتركا في حضانة منفى واحد جاءا منه، وفي رأسيهما فكرة واحدة، تكمن في استباق أشد اللحظات هولا في حياة العراقيين بالكاميرا الرقمية الخفيفة، فلم يعد فيها مكان لمنح دراسية تأخذ بعين الاعتبار إمكان توثيق و” تضبير ” كل تلك اللحظات الماضية التي لا تعود.
هذا ما تفعله المخرجة الهولندية حين تستدعي شيئا من طفولة “الباجي جي”. حتى لو بدت على شيء من التظاهر، إلا أن ثمة ما يوحي بأن الأكاديمية السينمائية في طريقها نحو التحول إلى صرح غير مؤقت، ولا يعرف الديمومة أو الاشتعال في نفس الوقت، فثمة ما هو متموّت هنا. لا تكفي رائحة الموت.. لا يكفي انتشال الجثث المتفحمة من تحت الأبنية المدمرة.
قصص الاغتيالات لا تتوقف؛ حتى تلامذة الأكاديمية لا يتوقفون عن الحديث عنها بشيء من التكثيف والتبئير والايجاز المستقيم .

المخرج “عماد علي” الذي انتهى أخيرا من تصوير فيلم وثائقي جديد عن الحريات الصحافية في العراق يدرك معنى هذا الإيجاز.
هو يحل ضيفا عليها لا منتسبا لها ، إذ لا يمكن له أن ينسى محاولة اغتياله حين كان يصور فيلمه ( مقهى الشهبندر ).
هنا يروي حكايته أمام الطلاب المستجدين، حديثه يخيف.. أو حديثه لا يشفي الغليل، ويروي ظمأ السامعين، وليس في ذلك انتقاص من المعنى .
فحياة كل واحد من هؤلاء المستجدين يمكن أن تتحول هدفا لقتلة غامضين يخيفهم ما يصور ويوثق.
قتلة متسللين بين الجموع القليلة المتوفرة للدراسة؛ ربما لا يدركون كنه ما يدور على هذه الأشرطة ، ولكن من يقف خلفهم يدرك تماما معنى أن يُخطف أو يُقتل مصور، أو مخرج .
أفلام كثيرة صوّرت في مناطق خطرة في أوقات سابقة؛ بعض المشاهد أخذت على عجل.. بضع دقائق لم تكن تكفي حتى لوضع الكاميرا على حامل أو حتى على محمل الجد، كان يصور خلالها مشاهد كاملة من الفيلم ؛ من يمكنه أن يصدق أن تصوير فيلم في هذا الحيز المشتعل يشكل هاجسا من أي نوع ؛ ليس كل ما يصور يمكن إضافته إلى مجد الفيلم .ليس كل ما يصور يمكن إضافته إلى رمق السينما الخالصة.
بعض ما صور يستحق مجد الإضافة إلى الإيجاز السينمائي بالطبع حتى لو لم يكن متوافرا صارما على هذا الرمق.
هذا هو ملخص تجربة المخرج العراقي الشاب “عماد علي” وقد حمل عكازيه الحديديين، وفي صدره بضع رصاصات وحسرة وصدى لألم لايغادر.
هو لايمتلك يقينا مثل طفولة المخرجة “الباجه جي”..الألم لا يلمع بعكس الطفولة السعيدة التي لا تستعاد.
الألم لا يغادر أصحابه بالسهولة المتوقعة، بعكس الطفولة الملونة، لكنه لا يبقى خارج إطار الكادر السينمائي الذي يبشر به “قاسم عبد” على سطح الأكاديمية؛ السطح الفقير بالمكونات السينمائية والإضاءة.
هنا البلاتوه الوحيد يتحدد من قدرة هؤلاء الطلاب والطالبات على الاستمرار بطرح الأفكار عن أفلام وثيمات ورؤى جدية يلمسها بعضهم في أفلام زملاء لهم نجحوا في تصويرها رغم كل الحصار المضروب على مصوبات الكاميرات الخفيفة والعدسات التي لا تخفف من غلواء الحرب والدمار واستنطاق كل ما هو مسكوت عنه .
من المؤكد أن سطح الأكاديمية لا يشبه معظم السطوح المجاورة له.

هنا تتدرب العيون وتجرب وتتردد، ليس كل المستجدين متفرغين لبناء الكادر والأفلام والفصول والروايات التي تقال عن طريق الصور؛ هناك حياة صعبة تقبع خلف ظهورهم ، بعضهم يجيء من دكان الحلاقة ليروي فصولا من قصص مرعبة عاشوها أثناء الحرب على العراق وما تبعها من إنعدام أمني.
الحلاقة العصرية ممنوعة .. بقاء حبة البندورة المؤنثة إلى جانب الخيار ممنوع..ثمة ما يوحي بوجود علاقة غير شرعية.
كانت بعض الأحاديث التي تجيء من هؤلاء المرحلين لا تصدق، لكن الأفلام توثق ما بقي من تلك المرحلة السوداء حين لم يكن الإنسان مكلفا في بقائه أو رحيله.
ربما نجا “عماد علي” من موته، لأنه تظاهر بالموت بعد أن تلقى رصاصاتهم؛ ولكن من قال إن قلبه لم يمت، ولم ينفجر مرارا قبل أن يجد من ينقله إلى المشفى.
ربما صدفة صناعة الأحداث التي توجد في بعض أنواع السينما هي من أنقذت علي .. ربما الإيجاز والتكثيف هما من قاداه إلى مقتل زوجته.
ليس مقهى “الشهبندر” الذي كان منيفا يوما هو من يروي سيرته بالرغم من وجود سيرة له.
ما يُروى هو سيرة “عماد علي” الذي كان يحقق فيلما عنه.
تأسست الأكاديمية بعد عام من الحرب على العراق ولم تصمد، فقد تم تفجيرها؛ لم يكن ثمة من يريد بقاءها أو الاستمرار بها.
لماذا هناك فتية يلمحون إلى إمكانية تعلمهم فنون التصوير والاضاءة والإخراج. ثمة مايقلق في الجو . يجب تدمير الأكاديمية ونزع المصطلح من رؤوسهم . ماحدث حينها ليس هو المقلق بحد ذاته ، فهذه سيرة الحروب نفسها حين تنشب وتميل نحو تدمير كل ماهو حي وقابل للعيش . المقلق هو نزع القدرة على التفنن ووجود طرائق الفن التي يطمح إليها الباجه جي وعبد أو يطمحان إلى تحقيقها بين طلاب وطالبات الأكاديمية.
أعيد ترميم الأكاديمية، ولكن لم يكن ممكنا ترميم النفوس من الداخل بالرغم من شجاعة المتنسبين الجدد.
|كل واحد فيهم تقبع خلفه قصة يمكن تصويرها في فيلم، كل واحد فيهم معرض للاغتيال بطريقة “عماد علي”.
هذا جزء من سيناريو لم يكن مكتوبا؛ لم يضع أحد بحسبانه أن يستثمره في بلاتوه معد خصيصا للتصوير، ما تؤمنه الأكاديمية المخنوقة هو سطح على ظهر مبنى للتدرب، وتدريب العين على التقاط كل ما هو سانح في هذا الحياة حين لا يعود ممكنا استيفاء شروط الحياة ذاتها في فيلم، أو في أكاديمية لا يمكن لها أن تحقق شرط الجودة المطلوبة.
( أكاديمية بغداد للسينما ) يمكن أنها تفترض عن حسن نية امكانية تحقيق شرط لتعلم السينما، رغم وجود السينما على بعد أمتار منها من دون امكانية تحقيقها على شريط ممغنط ودال على قوة هذا الفن في إبعاد شبح الفتاوى، التي لا تستقيم مع طفولتي الباجه جي وعبد، حتى حين لاتلتقيان على شريط من نفس النوع .