“الفنان”.. معبود الجماهير الذي يرفض دخول عصر السينما الناطقة

 

خلال مشاهدة الفيلم الفرنسي “الفنان (L’artist)، يتساءل المرء وهو يتابع المشاهد المتعاقبة من الفيلم الطريف الذي يعتبر مغامرة فنية كبرى، عن ماهية الفن، عن جوهر الإبداع السينمائي تحديدا، ما الذي يشدّنا في السينما، في الأفلام التي تثري خيالنا ووجداننا؟

وتتداعى الأفكار في ذهن المرء وهو يشاهد ويتأمل ويتعجب من قدرة الفنان السينمائي على الابتكار في الخيال، والإحاطة بكل التفاصيل الصغيرة والدقيقة في رسمه للشخصيات، في تجسيده للديكورات، في محاكاته للأساليب، بل وفي قدرته أيضا على المحاكاة الساخرة.

أليست السينما في الأساس، هي فن رواية القصص الممتعة، والقدرة على التعبير عن العلاقة بين شخصين أو مجموعة من الأشخاص في قلب الدنيا، عن المشاعر والأفكار، عن الصراعات الصغيرة، عن قسوة الحياة وعن سعي الإنسان الدائم من أجل التغلب على قيود المكان والزمان، والتحليق فوق الواقع إذا اقتضى الأمر، ولو بالخيال الجميل؟

هذه التساؤلات جميعها تتداعى في ذهن المرء وهو يتابع فيلما بعبقرية الفيلم الفرنسي الذي أثار إعجاب الجميع عند عرضه في الدورة الـ64 من مهرجان كان السينمائي، وكان بعض النقاد قد توقع له الحصول على الجائزة الكبرى للمهرجان، وكان -في رأيي الشخصي- يستحقها دون شك، ذلك لأنه تمكن من الوصول إلى جوهر فن السينما والتعبير عنه بثقة وتمكن وحرفية رفيعة، وترك بصمة لا تمحى في ذاكرة المشاهدين.

أفلام الأبيض والأسود.. حنين إلى سحر السينما الصامتة

“الفنان” فيلم أخرجه الفرنسي “ميشيل هازنافيسيوس” المعروف بأفلامه المثيرة التي تدور في عالم الجاسوسية، ولكن بأسلوب المحاكاة الساخرة لأفلام الجاسوسية القديمة أيضا (خاصة أفلام جيمس بوند التي قام ببطولتها شون كونري في الستينيات)، وتحمل عنوان “أوه أس أس117” (OSS 117).

وقد اختار هذه المرة أن يجعل فيلمه يدور على نمط الأفلام الأمريكية الصامتة، وقد صوره بالألوان ثم حوله إلى الأبيض والأسود، وحدد مقاييس العرض في نسبة 4 إلى 3 التي كانت شائعة في الماضي، واستخدم اللوحات المكتوبة التي تقطع الحدث لتعلق أو تشرح أو تلخص بعض كلمات الحوار الذي لا نسمعه، وجعلها بالإنجليزية.

شوارع هوليود العتيقة.. مسرح الأحداث لمعبود الجماهير

استعان المخرج بالممثل المفضل لديه “جان ديجاردان” الذي سبق أن قام ببطولة أفلام الجاسوسية التي أخرجها، وزوجته الممثلة الفرنسية الأرجنتينية الأصل “بيرنيس بيجو” التي كانت بطلة فيلم “القاهرة.. عش الجواسيس” (Le Caire: Nid d’Espion) لمخرجنا هذا.

ورغم ذلك فقد استعان بعدد كبير من الممثلين المساعدين الأمريكيين والبريطانيين، وجعل الأحداث كلها تدور في لوس أنجلوس وهوليود في العشرينيات، وصور فيلمه في شوارع هوليود القديمة وداخل الأستديو، كما استعان بمؤلف موسيقي منَح الفيلم رونقا خاصا بنغماته الموسيقية التي تحاكي الموسيقى المصاحبة للأفلام الأمريكية الصامتة، خاصة مع هيمنة نغمات البيانو الإيقاعية الناعمة.

قصة الفيلم بسيطة ومثيرة؛ نحن في عام 1927، أمامنا ممثل ونجم من كبار نجوم الفيلم الأمريكي الصامت يدعى “جورج فالنتين”، ينتقل من فيلم إلى فيلم، يفرض شروطه، والمنتجون في ذلك العهد يستجيبون له، فهو “معبود الجماهير”.

عصر الفيلم الناطق.. فن تجاري يزحف على الفن الرفيع

ننتقل إلى عام 1929، حينما بدأت هوليود تتجه إلى الفيلم الناطق، وهو أمر يقاومه ويرفضه “فالنتين” رفضا تاما، لأنه لا يعتبره فنا، وكان هذا أيضا موقف “تشارلي تشابلن” لسنوات طويلة بعد دخول الصوت إلى السينما، فقد ظل يخرج الأفلام الصامتة حتى عام 1940 في فيلم “الديكتاتور العظيم” (The Great Dictator).

ومن خلال هذه الفكرة يطرح الفيلم فكرة الفن الرفيع في مقابل الفن التجاري، والتساؤل هل يجب أن يستجيب الفنان لمتطلبات العصر والصناعة، أم من الأفضل أن يتمسك بمبادئه الفنية، وهل يتعين عليه في هذه الحالة أن يدفع الثمن؟

الممثل الفرنسي جان ديجاردان يحيي جماهيره ومحبيه

أثناء افتتاح أحد أفلامه يقابل “فالنتين” على مدخل دار السينما فتاة جذابة تطلق على نفسها “بيتي ميلر”، وتتميز بخفة الظل والقدرة على الحركة، لذا تستغل وجوده وتظهر في عدد من الصور معه لتلفت الأنظار إليها، فهي ممثلة ثانوية تتطلع إلى النجومية في هوليود.

يقع “فالنتين” في حب “بيتي”، ويرشحها للظهور في دور صغير بأحد أفلامه رغم اعتراض المنتج، وأثناء التصوير لا يستطيع أن يمنع نفسه من التفكير فيها، فيضطرب أداؤه ويضطر المخرج إلى إعادة التصوير مرات ومرات.

“الجمهور يأتي لكي يتفرج علي، وليس لكي يستمع إلي”

ما يحدث بعد ذلك هو أن نجم هذه الممثلة يصعد بقوة، لتصبح إحدى نجوم الفيلم الناطق، في حين يتضاءل حضور “فالنتين”، بعد أن تجاوزه العصر وأصبحت طريقته في الأداء لا تجذب جمهور السينما الجديد، وبسبب إحجامه عن اقتحام مجال الفيلم الناطق بدعوى أن “الجمهور يأتي لكي يتفرج علي، وليس لكي يستمع إلي”.

الممثلة الفرنسية الأرجنتينية الأصل بيرنيس بيجو

سرعان ما تتراكم عليه الديون، فيضطر إلى الاستغناء عن خدم منزله، ويبيع أثاثه كله، ولا يظل مخلصا له سوى سائقه “كليفتون” الذي يرفض الانصراف، بل يصر على انتظاره بسيارته الفاخرة يوميا أمام منزله، وكلبه الصغير المخلص الشجاع الذي ينقذه من الموت، بعد أن كاد أن يختنق مع احتراق منزله، حين حطم في نوبة غضب عارم كل جوائزه ومقتنياته، ثم أشعل النار في شرائط أفلامه القديمة كلها يأسا من استعادة نجوميته.

لكن “بيتي ميلر” لا تزال تتذكره، وتحمل له حبا كبيرا في قلبها حتى بعد أن أصبح بائسا، وهي تمد له يد المساعدة من بعيد دون أن تجعله يعلم، ويدفعها حبها له إلى العودة لانتشاله إلى الحياة من جديد، ورغم وجود كثير من المشاهد الكوميدية الخفيفة في سياق الفيلم، فإننا أساسا أمام مأساة حول صعود وسقوط ممثل في هوليود، بسبب تغير المناخ السينمائي، وهو أمر لا يزال يحدث حتى يومنا هذا.

أسلوب الإخراج.. فكاهة تحمل بصمات كلاسيكية

يحوي الفيلم كثيرا من المشاهد تحاكي ما رأيناه في أفلام أخرى كلاسيكية شهيرة خاصة مثل “متروبوليس” (Metropolis) لـ”فريتز لانغ”، و”المواطن كين” (Citizen Kane) لـ”أورسون ويلز”، كما أن هناك بعض النغمات الموسيقية المقتبسة من الأفلام الصامتة القديمة، في إشارة تقدير وتحية إلى هذه الأفلام التي لعبت دورا في تشكيل وعينا ووعي هذا المخرج الفرنسي بالسينما.

ينجح المخرج كثيرا في مطابقة أسلوب الإخراج في هوليود الصامتة، مثل الإيقاع السريع، والحركة داخل المشهد، وتصميم الديكور واختياراته لزوايا التصوير، الإضاءة الناعمة مع تجسيد التناقض الواضح بين الكتل والفراغات، المبالغة قليلا في الأداء التمثيلي، وبذلك ينجح في إضفاء أجواء أفلام هوليود الصامتة على فيلمه هذا، دون أن يفقد طابعه الشخصي، وإن كان الإفراط في محاكاة بعض النغمات الشائعة من أفلام أخرى شهيرة مثل “دوار” (Vertigo) لـ”هيتشكوك” مثلا؛ قد ساهم في تغريب شعور المتفرج بالفيلم أحيانا.

لكن مخرجنا هذا لا يتوقف فقط عند المحاكاة، بل يبتكر كثيرا من المشاهد الطريفة التي تضفي على الفيلم طزاجة ورونقا خاصا، مثل ذلك المشهد الذي يدور أثناء الحلم في عقل الشخصية الرئيسية “فالنتين” الذي يحلم بدخول الصوت إلى عالمه الصامت، إذ يحلم بريشة وهي تسقط صوتا ضخما، فينهض من نومه مفزوعا.

أداء الأبطال.. حضور قوي بين مقامات التمثيل

يبرز كثيرا دور الممثل الفرنسي الكبير “جان ديجاردان” الذي قام بدور “فالنتين”، بحضوره القوي وقدرته على التنويع والانتقال من المرح إلى الحزن، ومن الرقة الشديدة إلى الغضب، وتجسيد معالم المأساة والانهيار على ملامح وجهه، وتعبيره عن الحب وعن التألم، وعن الكبرياء الذي يرفض الرضوخ، وهو يبدو مثل مزيج مجسد من “دوغلاس سيرك” و”إيرول فلين” و”فريدريك مارش” و”كلارك غيبل”.

الممثل الفرنسي جان ديجاردان الذي قام بدور فالنتين وهو غاضب من الحال التي آل إليها

كما أظهرت “بيرنيس بيجو” في دور “بيتي” حضورها القوي، بوصفها ممثلة تملك القدرات الاستعراضية، والأداء العاطفي، وروح المرح التي تجعلها تبقى حاضرة في ذاكرة الجمهور.

في الختام نقول إن فيلم “الفنان” عمل شجاع أيضا، لأنه يهجر الصوت المجسم، ويدير ظهره لتقنية الفيلم ثلاثي الأبعاد، والشاشة العريضة، لكي يعود إلى عصر البراءة الأول.. عصر السينما.


إعلان