هل الفيلم الوثائقي والتسجيلي واحد؟
حان الوقت لنعيد النظر في بعض مفاهيمنا ومصطلحاتنا المتداولة ونطرح بعض الأسئلة التي تحدد ذلك.
تصوّر فيلماً وثائقياً حول حياة عائلة تقتات على عمل ربّ الأسرة كمرشد سياحي وتختار للمرشد مشهداً يمتطي فيه الحصان ويقف عند نقطة بعيدة من الصحراء وحده.
أو لديك موضوعاً في فيلم وثائقي آخر حول إمرأة تقتات من صيد السمك، فتختار لها لقطة وهي في عرض البحر، أو أثناء نشرها للغسيل على سطح البيت وهي تتحدّث إلى الكاميرا.
مثالان محدّدان يطرحان أسئلة مهمّة: حين طلبت من ربّ الأسرة ركوب الحصان والتوجّه به إلى تلك النقطة البعيدة لتأخذ له هذه اللقطة.. هل كنت لا زلت تمارس الفيلم الوثائقي أم خرجت عن شروطه لكي تتيح للمشاهد صورة شعرية؟
ثم ألم تختر الوقت من النهار (أو الليل) والمكان الذي تود فيه تصوير الفتاة وهي في البحر أم وهي تعتلي سطح المنزل تتحدّث إلى الكاميرا وهي تنشر الغسيل؟
شروط السؤال في المثال الأول تنطبق على الشروط في المثال الثاني: ألم يكن مشهد الفتاة في عرض البحر مُركّباً؟ وإذا لم يكن كذلك، ماذا عن مشهدها وهي تتحدّث بينما تنشر الغسيل.. هل تفعل ذلك في حياتها اليومية؟
في النهاية: ما هي الوثيقة التي يُكنى بها الفيلم غير الروائي؟ وما الفرق بين الفيلم التسجيلي والفيلم الوثائقي؟ أو ليست هناك إختلافات وفوروقات بينهما؟ وماذا عن تدخّل العنصر التركيبي (تركيب مشهد حسب رغبة المخرج ما يعني تدخّله في الحقيقة) في الفيلم الوثائقي (أو التسجيلي إذا أحببت)؟
الكلمة اللاتينية لكلمة “وثائقي” أو “تسجيلي” هي واحدة: Documentary
ومصدرها كلمة Document
والتي تعني “وثيقة”؛ إلا أنّنا في اللغة العربية نملك خياراً بين إسمين هما “وثائقي” و”تسجيلي” ومع ذلك نحن حيارى وأحياناً نتذمّر مطالبين بالإتفاق على ما نريد.

لمَ لا نستفيد من معطيات اللغة ونقسم الكلمة إلى قسمين كل بمعنى يختلف عن الآخر ولو قليلا؟
الوثائقي هو الذي ينضوي تحت شروط التوثيق الفعلية، أمّا التسجيلي فهو الذي يسجل ما يقع أمام الكاميرا.. هل من فرق؟
نعم..بتحقيق فيلم وثائقي، فإن المخرج سيلتزم بالشروط الصارمة للفيلم، ولا يلجأ لإدخال عناصر خارجية، كتلقيح وتركيب، ولا إدارة الشخص في الفيلم كممثل كما نرى الحال منتشراً، الإلتزام هنا هو بتحويل الفيلم إلى وثيقة صادقة مئة بالمئة وخالية من التركيب والتفعيل الجانبي.
الفيلم التسجيلي يستطيع أن يأخذ على عاتقه هذا المنوال من التفعيل كحال المثالين السابقين لأنه يريد أن يسجل طينة حياة وربما يواجه اختيارات من نوع تخصيص العنصر البشري الأول في الفيلم بلقطة يتم تركيب شروطها خلال التصوير؛ كذلك فإن التسجيل يعني أن الكاميرا تصوّر لكي تسجّل وضعاً، وليس بالضرورة لتوثيق حقيقة.
الغطاء المثالي لكلا النوعين هو “الفيلم غير الروائي”، على أساس أنه يشملهما معاً، وهو يشمل أيضاً الفيلم التجريبي، والفيلم التكعيبي، والفيلم الشعري، والفيلم الريبورتاجي وأي فيلم يخلو من عنصر القصّة.
وعلى ذكر الفيلم الريبورتاجي، صرنا نجد هذه الأيام أفلاماً من هذا النوع تُصنّف بكونها وثائقية ما يهدر كلمة الوثائقية ويجعلها مثل موقف أو مرآب سيارات، أي سيارة في وسعها استخدامه.
الريبورتاج هو نوع مختلف تماماً ينص على صياغة فيلم قائم على الحدث الدائر غالباً، أو على موضوع لا يزال يمر بحلقة من ردود الأفعال؛ لذلك هو أنسب لعمل وغاية الفيلم الإخباري أو التعليقي التلفزيوني.
رغم ذلك وجدنا أن الكثيرين لدى الغرب قبل العرب، يستخدمون النوع تحت العنوان العريض لكلمة “وثائقي”.
وإذ تتعدد تلك المسمّيات من دون تصنيف حقيقي، لابد من الإشارة إلى أن التصنيف، إذا ما بقي حرّاً هكذا، ساعد في تعميم ضبابي للمسميات أولاً، وخلط المباديء الفنية ثانياً.
في أي من أفلام / مايكل مور مثل “فهرنهايت 9/11” أو “سيكو”، سنلاحظ الأسلوب الريبورتاجي بارزاً. كلاهما بالخطوط العريضة فيلم تسجيلي (وليس وثائقياً) والأسلوب المستخدم فيه ريبورتاجي، نظرا لكونهما ذلك قد أنتجا لجذب المشاهد إلى فكرة تسجيل موقف.

في الفيلم الأول هو الموقف من سياسة جورج و. بوش حيال السياسة الخارجية، والثاني موقف حيال وضع المؤسسات الصحيّة في الولايات المتحدة بالمقارنة مع وضعها في كندا وفرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى.
والمنطلق فيهما هو صياغة موقف سياسي يجابه موقفاً آخر وبيعه (بالمعنى غير المادّي) إلى المشاهد لكي يشاهده ويبني موقفه الخاص حياله. صياغة هذا النسيج من المواقف المتبادلة تتمحور حول دخول المخرج على الخط كباحث عن الحقيقة كما يراها (وليس أي حقيقة). إنه صاحب الموقف الإجتماعي المعادي للحرب في العراق والمعادي للسياسة الأميركية، والمعادي أيضا لنظام الضمان الإجتماعي الأميركي كما هو قائم اليوم.. بذلك يمارس “مايكل مور” حقّه كمواطن في النقد، هذا التدخل يزيد من تباعد هذا المنوال مثلاً عن منوال أفلام “روبرت فلاهرتي”، مثل “نانوك الشمال”.
هناك ليس من موقف سياسي مطروح بل مجرد تسجيل لنمط حياة ولرحلات الصيد ورتابة العيش وخطورته فوق تلك الصقاع البعيدة؛ هذا الفارق الناتج عن وسيلة التعبير وبؤرة الإهتمام كافية للفصل بين الإثنين كنوعين مختلفين تماماً ولو كانا يبدوان متشابهين كثيرا.
وكنت شاهدت فيلماً فلسطينياً فيما مضى بعنوان “عَ باب الله” للمخرج / إيهاب الخماسية الذي منه استوحيت المثال الثاني في مقدّمة هذا التعليق، فالمخرج يصوّر العائلة حين تطبخ وحين تخرج من البيت وحين يتكلّم أفرادها وحين يركبون المركب الصغير إلى عرض البحر؛ في حين أن كل ذلك ضمن البيئة الحقيقية، إلا أن الكثير منه إذا لم يكن بأسره، تركيب متّفق عليه ما يفرّغ الفيلم من “وثائقيّته” ويضمّه إلى “التسجيلي” و”الريبورتاجي”. طبعاً من الأصعب على الجهات المنتجة أن تمارس مثل هذا التفريق، لكنه ضروري. ومن الإشكالي للمخرج اليوم إنجاز فيلم وثائقي صاف، لكنه أمر مهم، إلى أن يتم ذلك ، فما علينا نحن النقاد إلا أن نمارس هذا التفريق بأنفسنا علماً بأنه من الناحية الفنية لا يوجد تفضيل، فكل فيلم يحمل في كيانه المستقلّ أوضاعه ومستوياته الفنية، إيجابية كانت أم سلبية.
المصادر:ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. M. Moore.jpg مايكل مور خلال تصوير: سيكو،
2. nanook.Robert_Flaherty_Nyla_1920.jpg
3. A bab allah.jpg ع باب الله