إشكالية عرض الأفلام في القاعات السينما الإيرانية
استطاعت السينما الإيرانية إثبات وجودها وبقوة على الساحة السينمائية العالمية و حصد الكثير من الجوائز الكبرى؛ أشاد النقاد بالمضمون الإنساني و الرؤية الجمالية لنتاج هذه السينما و من الصعب أن تجد أحدا من المهتمين بالسينما لم يشاهد فيلما من أفلام عباقرة هذه السينما من أمثال عباس كيارستمي، محسن مخملباف، جعفر بناهي أو بهمن قبادي في دور العرض العالمية أو المهرجانات السينمائية العربية أو الدولية.
لكن يختلف الوضع بشكل غريب لدى المشاهد و المتابع الإيراني لهذه السينما؛ فإن لم تجد أحدا في إيران يشاهد تلك الأفلام في صالات السينما في إيران بل اعتاد المشاهد الإيراني أن يتابع أفلام هؤلاء

المخرجين بعد أشهر أو سنوات من عرضها في دور السينما العالمية، على شريط فيديو أو قرص دي في دي في أيامنا هذه. لقد عاد الموضوع إلى دائرة الضوء بعد أن أعلن قبل أسابيع مدير دائرة التقييم و الرقابة السينمائية في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي أن فيلم كيارستمي الاخير “نسخة مصدقة”، الذي صور بشكل كامل في خارج البلاد و لم يتطرق إلى أي موضوع داخلي إيراني، سيتم عرضه في صالات السينما؛ هذه البشرى المفاجئة أثارت ضجة إعلامية كبيرة و فرحت الساحة السينمائية بأنها ستتمكن من رؤية النسخة الأصلية والسليمة للـ”النسخة المصدقة”على الشاشة العريضة بعد عرضه في أكثر من 25 دولة بما فيها الولايات المتحدة وفرنسا واستراليا وبريطانيا واسبانيا والجزائر ولبنان وتونس والمغرب وغيرها من الدول. لكن بعد أيام تراجع مدير دائرة التقييم و الرقابة السينمائية عن حديثه، قائلا بأننا لم نجد أي مشكلة موضوعية في محتوي الفيلم، لكن بسبب ملابس ممثلة الفيلم، جوليت بينوش، التي ليست مناسبة لن نتمكن من عرض الفيلم في الصالات، لكننا بدل ذلك سوف نعرض أفلام كيارستمي القصيرة مثل ” بيض البحر ” و ” البط ” و ” طرق كيارستامي ” والتي عرضت في مهرجان الخليج السينمائي الرابع.
لم يفلح الجمهور السينمائي الإيراني بمشاهدة أفلام كيارستامي في دور السينما بعد فيلم “طعم الكرز” الحائز علي السعفة الذهبية لمهرجان كان الذي عرض في صالات محدودة في 1996. منع بعد ذلك فيلمه التالي “سوف تحملنا الريح ” لأسباب غير ¬معلنة وكذلك أيضا فيلمه “عشرة” الذي طُلب منه أن يحذف أربعة لقطات من الفيلم بسبب حجاب الممثلة، لكن رفض كيارستامي ذلك قائلا: إذا حُذِفَت هذه المقاطع سيصبح الفيلم “ستة” بدل “عشرة”! لم يكن كيارستمي وحيدا في ذلك، فأفلام قبادي الأخيرة أيضا لم ترى نورَ صالات السينما في إيران، حيث منع فيلمي “نصف القمر” و “لا أحد يعرف شيئاً عن القطط الفارسية” كما تم عرض فيلم” السلحفاة يمكنها أن تطير” في صالة واحدة و لمدة أسبوع فقط، ليتمكن الفيلم من الترشيح لجائزة الأوسكار من قبل بلاده! كذلك منع فيلم “حالة تسلل” لجعفر بناهي من العرض رغم انه شارك في قسم المسابقة الرسمية لمهرجان فجر الذي يُعتبر أهم مهرجان سينمائي في إيران. و منع أيضا فيلم “الدائرة” لهذا المخرج بعد أن حصل علي جائزة احتفال البيت السينمائي في طهران التي تعتبر من أهم الجوائز الغير حكومية في السينما الإيرانية. و هكذا هو حال فيلم “الذهب الأحمر” حيث طلبت دائرة التقييم بحذف 3 دقائق من فيلم “الذهب الأحمر”، لكن رفض بناهي حذف أي مقطع من فيلمه.
فهنالك الكثير من الأفلام التي لم تعرض في صالات السينما لأسباب مختلفة منها دواعي سياسية أو تحفظات على المخرج أو أحد النجوم، أو حتى على موضوع الفيلم. من الممكن أن يمنع الفيلم من العرض

بسبب أنه لم يلتزم بالإجراءات القانونية اللازمة لصناعة الأفلام في إيران؛ وعلى سبيل المثال منع من العرض فيلم “شيرين” للمخرج كيارستمي لأنه لم يتبع النظام و لم يصنع برخصة وزارة الثقافة و الإرشاد الإسلامي. و كذلك الحال بالنسبة لأفلام مخملباف الأخيرة “صرخة النمل” و “الجنس و الفلسفة”. و الغريب أن التقيد بكافة القوانين والإجراءات المعلنة من قبل السلطات المعنية، لا يضمن بالضرورة عرض الفيلم في صالات السينما، كما الحصول على ترخيص العرض لا يضمن بالضرورة استمرار عرض الفيلم لنهاية موسمه. وهنالك الكثير من الأمثلة منها فيلم ” السحلية (مارمولك) ” للمخرج كمال تبريزي الذي تناول حياة رجال الدين في إطار كوميديا اجتماعية؛ فقد عرض الفيلم لفترة قصيرة و لكنه منع بعد ذلك. و عكس ذلك صحيح أيضا، فمنع الفيلم من العرض، لا يعني بالضرورة أنه لا فرصة له أبدا في الصالات. فبعض الأفلام عرضت بعد سنوات من إنتاجها و بعضها عرضت بعد تغيير الحكومة أو الوزير و هذا لا يعني بالضرورة تشدد اتجاه سياسي و مرونة الآخر، ففي حكومة الرئيس نجاد الحالية أتاح نائب الوزير في الشئون السينمائية الفرصة لعرض فيلم المخرج الإيراني الكبير إبراهيم حاتمي كيا باسم “الأرجواني” في حين منع الفيلم من العرض في حكومة الرئيس خاتمي و بسبب احتجاج وزارة الاستخبارات؛ و الغريب في الأمر أن المخرج الذي يعتبر من وجوه السينما الإيرانية بعد الثورة كان من أنصار موسوي ولم يكن من مناصري نجاد.
منع عرض الأفلام في إيران لا يتبع قانونا ثابتا بالضرورة، و خير دليل على ذلك هو أبو الفضل جليلي صاحب الرقم القياسي في هذا المجال فقد منعت كل أفلام جليلي ال 14 من العرض منذ أول فيلم أخرجه حتى آخرهم دون أن يعني ذلك تخطيه الخطوط الحمراء للنظام مثلا ، لأنّ كل هذه الأفلام عرضت في التلفزيون الرسمي الإيراني، بل اللافت للانتباه هو أن معظم أفلام جليلي هي من إنتاج التلفزيون الرسمي الإيراني، و الأغرب أنه بين الحين والآخر يدعي جليلي من قبل وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي للحضور في لجان تحكيم المهرجانات السينمائية.
يعتقد بعض النقاد بأن تألق السينما الإيرانية وإبداع المنطوي فيها ناتج من ظروف عملها المختلفة تماما عن ظروف العمل السينمائي في أغلب البلدان الأخرى. فإن كان ذلك صحيحا فلابد أن يكون لما أشرنا إليه سالفا، دورا في بزوغ نجم هذه السينما.