الشاعر سينمائياً.. والسينمائي شاعراً
علي سفر في فيلمه «مطموراً تحت غبار الآخرين»
هذا فيلم كتبه شاعر (إبراهيم الجبين)، وأخرجه شاعر (علي سفر)، ويتناول تجربة شاعر (إسماعيل عامود). يجتمع شاعران سوريان، شابّان، من جيل الحداثة الشعرية، ليحققا فيلماً عن شاعر رائد، سنكتشفه مع الفيلم باعتباره أحد أوائل الشعراء الذين أدخلوا الحداثة الشعرية، من خلال كتابة قصيدة النثر، مبكراً؛ قبيل نهاية النصف الأول من القرن العشرين، وفق ما يؤكد الفيلم، ويرصد بيانه لأجله.
من القاهرة، في 19 تشرين أول/ أوكتوبر 1926، وفي مكتب رئيس النيابة، حيث كانت تدور وقائع محاكمة الأديب «طه حسين» الشهيرة، والتي جاءت إثر إصدار كتابه «الأدب الجاهلي»، ينطلق هذا الفيلم الوثائقي القصير (مدته 30 دقيقة)، مؤسساً لمرجعية تاريخية، تتكئ على حادثة شهيرة، يمكن لها أن تفتح باب السجال، الذي لم ينطفئ بصدد واحد من أهم القضايا التي تمسّ الحال الشعرية العربية، منذ العصر الجاهلي، وحتى مطالع القرن العشرين.
المقتطف من المحاكمة، كما يبرزه الفيلم، يركز على سؤال اللغة؛ (لغة حمير، لغة عدنان)، ومدى إمكانية بقائها قروناً دون أن يجري فيها أو عليها تطوير أوتغيير.
يرفض الأديب طه حسين القول بثبات لغة ما، وعصيانها على سنّة التغيير أوالتطوير؛ونتبين، من المحاكمة أنها كانت قائمة على قدر من المحاججة، دون أن تنتقص من مكانة الأديب المرموقة، إذ يبدو رئيس النيابة لا يكفّ عن استخدام تعبير «حضرتكم»، خلال السؤال، ويبدو الأديب معتداً بنفسه، واثقاً من رؤيته، مؤمناً بقناعاته.. إلى درجة أنه يرفض أن يقدم كشفاً بالمراجع التي يستند إليها، طالباً ممن يريد العودة إلى تلك المراجع، قائلاً: «من شاء، فليبحث بنفسه»!..
يعتمد الفيلم في هذا الفصل منه، على الصورة الفوتوغرافية، وعلى الرسوم التخييلية، التي تقدم مقترحاً بصرياً لوقائع جلسة المحاكمة، ما بين رئيس النيابة من جهة، والأديب طه حسين، من جهة ثانية. تتجول الكاميرا على تفصيلات وتكوينات الرسوم، مبرزة الملامح الشهيرة للأديب “طه حسين”، مركزة على نظرات عيني رئيس النيابة، دون الاهتمام بإبراز ملامحه، غير الشهيرة، أو غير المعروفة تماماً، طبعاً.
ويضيف المخرج مؤثرات بصرية، تريد منح الصور الفوتوغرافية ما يدلل على قدمها، وتوغلها عميقاً في زمن بات اليوم يقارب القرن من السنوات.
ينتقل الفيلم، دون أدنى مقدمات، إلى دمشق العشرينيات، مؤكداً بالتعليق الصوتي، أنها كانت تتوثب للخروج من القديم، ساعية للالتقاء بالجديد، الذي سوف ينبت فيها، أو بين جنباتها، أو على مقربة منها.
أما الانتقالة الثالثة، فتذهب مسافة 230 كم، شمال مدينة دمشق، حيث توجد بلدة «سلمية»، وتحديداً في العام 1928، إذ ستأتي ولادة الشاعر «إسماعيل العامود»، لوالد، كان أحد أفراد فرقة الخيالة.
إذاً، قبل ظهور عنوان الفيلم: «مطموراً تحت غبار الآخرين»، سوف نجد تمهيداً ثلاثياً؛ زمانياً ومكانياً، يبدأ أولاً من «القاهرة»، حيث ثمة حدث تاريخي بارز في سياق الفكر العربي الحديث، وينتقل ثانياً إلى «دمشق»، التي كانت على موعد مع دور جديد في سياق اليقظة العربية، لينتهي ثالثاً في «سلمية»، عند ولادة الشاعر، موضوع الفيلم، وعماده، وحكايته.. ليبدو الفيلم متهملاً في الدخول إلى موضوعه، حريصاً على التأسيس العلمي، المنهجي التاريخي والمنطقي، بغية إثبات أن الانعطافة الحداثية في الشعر العربي، إنما جاءت اتساقاً مع ما كان يمور في أحشاء الواقع العربي، وفي خضم المسار الفكري العربي، الباحث عن مكان تحت ضوء شمس القرن العشرين.

لم تكن تلك اللقطة عابرة، بل لعلها ستكون الدلالة الصارخة، والتكثيف البصري، للفيلم برمّته، ومراده، وغايته.. ثمة يد تزيح التراب، لتكشف عن عنوان كتاب.. إنها تخرجه من الظلمة إلى النور. تضعه أمام الكاميرا، مركِّزة عدستها على العنوان، الذي سيتكرر، أكثر من مرة، ضمن عناوين كتب الشاعر إسماعيل عامود: «الكتابة في دفتر دمشق».
هذه غاية الفيلم. ليس فقط كما تبين اللقطة، بل قبل ذلك كما يفصح عنوان الفيلم ذاته: «مطموراً تحت غبار الآخرين»، ليتنكّب الفيلم عبئاً نبيلاً يتمثل في الكشف عن تجربة هذا الشاعر، الذي لا يمكن للكثيرين الإدعاء أن اسمه على شيوع في الأوساط الأدبية.
إنه على الأقل شاعر لم ينل نصيبه من الشهرة، كما بعض أقرانه ومجايليه، أو كما العديدين ممن ظهروا في إطار أجيال شعرية لاحقة، في عقود تمتد على مدى النصف الثاني من القرن العشرين، وحتى مطالع القرن الحادي والعشرين.
سيعتمد الفيلم، في مهمته تلك، وكذا في بنائه الفني، على التعليق الصوتي، الذي يقصُّ علينا، بداية، معلومات من حياة الشاعر «إسماعيل عامود»؛ وفاة والدته، ودراسته، وانتقاله عام 1943، إلى مدينة «حماة»، واندفاعته إلى الكتابة باعتبارها «حصانه الافتراضي»، وهو ينهل من الشعر العربي: المتنبي، بدوي الجبل، الجواهري، السياب.. ومن ترجمات: شكسبير، اللورد بايرون، بودلير، بوشكين.. وقراءة ما تنشر سوريا ومصر ولبنان والعراق..
وبالمزاوجة مع التعليق الصوتي، الذي سيمتد على مداه، سوف يمنح الفيلم نصيباً وافراً من نصفه الثاني لإجراء مقابلة مطوّلة مع الشاعر «إسماعيل عامود». هناك في مكتبه المترع بالكتب حتى الثمالة. وحيث الشاعر يقف على رأس الثمانين من عمره، حاضر الذاكرة، طازج الحضور. كأنما هو يقلب في دفتر العمر، ويقرأ دونما تلكؤ، إذ يذكر أنه بدأ الكتابة في الصف الخامس الإبتدائي، أي عام 1943، وكان من عادته، حينها، الاطلاع على الصحف: «الأديب» من بيروت، «الصباح» من دمشق، وكان أستاذه في اللغة العربية الشاعر/ أنور الجندي، هو من يؤمن له هذه الصحف، والدوريات الأدبية.. واستمر الحال حتى الصف السادس الابتدائي، في مدينة «حماة»، حيث شرع بالاطلاع على مجلة «النواعير»، التي كان لها أن تحفزه على كتابة بعض المواضيع الانشائية الوجدانية، وخاصة الشعر..
يذكر “إسماعيل عامود” أنه بدأ النشر عام 1946..عامها سوف يحدث جلاء المحتل الفرنسي عن سوريا، فينخرط في «جيش الاستقلال السوري»، وينشر أولى قصائده، في جريدة «الصباح»، مؤسساً لنوع جديد، هو كتابة قصيدة النثر.
يتألق النص المكتوب للفيلم، وهو يتجوّل بلغة أدبية رفيعة بين العديد من النقاط والمحاور ذات العلاقة بالشعر، وقضاياه، وأنماطه.. يمنح قسطاً وافراً من ذاته لقصيدة النثر؛ الموضوع الأساس المرافق لتجربة الشاعر “إسماعيل عامود”، بل ربما هي ما استدعى حضور هذا الشاعر هنا في هذا الفيلم، فهو الشاعر الذي كان مبادراً لدخول هذه المغامرة؛ قصيدة النثر؛ «النوع الفني الملغز، الذي ما زال عالقاً بين الأشكال»، كما يقول التعليق.
قصيدة النثر التي بدت «شكلاً محيراً، وصناعة معقدة، وبسيطة، في آن».. في وقت كانت القصيدة الكلاسيكية، هي المعتاد والمتعارف عليه، وكل ما عداها لا يعدو أن يكون بمثابة «الكفر بالأصالة، والتجديف الأدبي»، الذي لا يتسامح معه النقاد!.. «لقد اختار إسماعيل عامود شكلاً جديداً. ولم يكن صدفة أن يبدأ عصر القصيدة النثرية المستقلة عن قيود القالب والشكل، في وقت عصر الحرية المتجردة من قيود الآخ».
مع النص المكتوب برشاقة، والتعليق الصوتي، والمقابلة/ الحوار، مع الشاعر، يبدو الفيلم وقد اختار لنفسه بنية نثرية تماماً، لا ينتقص منها ميل المخرج لاستثمار معطيات الإلقاء الشعري، مترافقاً مع لوحات تشكيلية، ورسومات، وصور فوتوغرافية، ومؤثرات بصرية، والتخلّي عن الألوان، لصالح اعتماد اللونين الأبيض والأسود. لقد بقي الفيلم ميالاً إلى النثرية في البناء، والسرد، والعرض، ربما قناعة منه أنه يتناول قضية إشكالية، لها مؤيدوها، ولها معارضوها، ولكل وسائله وسبله وأسانيده، في التأييد أو الرفض.
في العديد من مفاصل الفيلم، يتحول إلى مرافعة حقيقية، تستنجد بتجربة الشعر العربي، وقبله الشعر العالمي، للتأكيد على أهمية بل وأصالة فكرة التجديد، كما في اللغة، كذلك في بنيان القصيدة العربية.
فمن جهة، يرى أن «التجديد في الشعر، كان هاجس تجديد في الحياة، وفي التفكير»!.. هكذا فكّر “إسماعيل العامود”، وبعده “محمد الماغوط”، و”أدونيس”، “يوسف الخال”، “نذير العظمة”.. وكذا فعل “بدر شاكر السياب”، و”نازك الملائكة”، و”عبد الوهاب البياتي”..
وسيرى الفيلم أن جديد «جماعة شعر»، كان في «أن تنفلت القصيدة، لأنها الناظم الأكبر للوعي، والذائقة الجمالية، ولأنها السياق الأكثر صرامة في الكتابة العربية، وتالياً في النظام الذهني العربي».
ولا ينسى المرور دون توقّف عند تجربة الشاعر محمود السيد، و«منادى دمشق»، التي اعتُبرت فتحاً في شكل القصيدة الجديدة، ونافذة أمام «قصيدة الرؤيا». ويذكر تجارب كل من: نزيه أبو عفش، وسليم بركات، وإبراهيم الجرادي، وبندر عبد الحميد.. أبطال مشروع قصيدة النثر في السبعينات.. ممن جاهروا باختلافهم، دون أن تسلبهم مجلة «شعر» خصوصيتهم. دون أن ينسى الشاعر رياض الصالح حسين، وحضوره الخاص.
ومن جهة أخرى، يذهب التعليق، بصدد قصيدة النثر، إلى ملامسة أبرز الصفات الملازمة لها، كالانفلات من الشكل، الإيقاع، الموسيقى الداخلية، الألفاظ وتتابعها، والصور وتكاملها، والحالة العامة للقصيدة.. فيمرُّ على “سوزان برنار”؛ «رسولة قصيدة النثر» عند الشعراء الجدد في خمسينيات الثقافة العربية، و”بودلير”، واكتشافه إمكانية استخراج الشعر من السياق النثري، و”رامبو”، وشأنه في «استخلاص عبقرية الشعر من السياق النثري، مع الاعتماد على الصورة والشحنات الانفعالية»!.. كأنما النص الفيلمي، يريد قول كل شيء، ويؤكده، وينتصر له.
ربما لم يكن مهماً ما أورده الشاعر “إسماعيل عامود”، في سياق حديثه، من تقييم أو نقد لشعراء، قدامى وجدد.
ولعل هذا ما أضاف شيئاً إلى قضية الفيلم، خصوصاً مع ميل الشاعر إلى ارتجال الآراء، وممارسة أشياء من الجرأة، في هذا الارتجال؛ خاصة وأنه بقي الصوت الوحيد في الفيلم، الذي يقول ما يشاء، وما يطيب له!.. فيما لم يستعن الفيلم بآراء نقدية، أو شخصيات أخرى، يمكن أن يكون لها نصيب من القول، تأييداً، أو تقويماً، أو حتى معارضة!..
واكتفى التعليق الصوتي، بالحفاظ على ما ذهب إليه النص من قول، وما أراده من غاية فكرية، دون التوقف عند أيّ مما قاله الشاعر، مخالفة أو تأييداً.
|هنا، يبدو كأنما ثمة افتراقاً حدث، وبات الفيلم يسير على خطين متوازيين: النص، وما ذهب إليه، من ناحية الشاعر، وما شاء له من القول، من ناحية ثانية.
وكان على المخرج مهمة صعبة حقيقية، تمثلت في خلق تلك البيئة البصرية، التي يمكن لها، على الرغم من صرامة الموضوع وذهنيته، أن تجمع بين السياقين: مهمة رصد حياة شاعر، يؤمن الفيلم وصنّاعه بأهميته، وبمدى الغبن والظلم الذي لحق به، وجعله «مطموراً تحت غبار الآخرين». ومهمة رصد قضية شائكة، يؤمن الفيلم وصنّاعه بأهميتها، وبضرورة فك الاشتباك بصددها.
لا يتنازع الشاعران الفيلم، ولا يتجاذبانه؛ بل يساند كل منهما الآخر. يكتب الشاعر إبراهيم الجبين، نصاً أدبياً رائقاً، كان له أن يمتد برشاقة على شريط الصوت. وينسج الشاعر علي سفر، نصاً بصرياً وظيفياً، ينأى عن أيّ فذلكات مشهدية، يمكن لها أن تشتت الانتباه عن النص المقروء. وبتزاوج شريطي الصوت والصورة، يتحول الفيلم إلى مرافعة حقيقية، على قدر كبير من التقشف الإنتاجي، نعم!.. ولكنها على ثراء أكبر من المعلومة، والفكرة، والجدل، والراهنية. فثمة غاية كبرى، وراء كل ما نرى!..

ينجو الفيلم من مغبة أن يكون مجرد مرثية للشاعر / إسماعيل عامود، في حياته، على الرغم من نبرة التأسي الواضحة، التي يكاد الفيلم يختتم نفسه بها، إذ يقول: «تنقضي السبعينات، والعامود يبتعد، وغبار الآخرين يعلو». فيدرك الفيلم أن غايته الأولى قد تحققت، في العثور على الشاعر/ إسماعيل عامود: «شاعر، رائد، ومجدد، جسور.. شاعر ينطوي تحت غبار الأسماء التي ظهرت أمامه وخلفه ومن حوله».. ويفيض التعليق عليه بصفة بليغة: «كنقش من فيروز، مطمور تحت الغبار». بينما تبقى مهمته الأخرى معلقة على باب السجال، الذي ندرك أنه لن يتوقف، مع انتهاء الفيلم.
فيلم «مطموراً تحت غبار الآخرين»، للمخرج “علي سفر”، يمكن فهمه على أنه وقفة وفاء نبيلة لواحد من الرواد المغامرين، ممن لم يأخذوا نصيبهم مما يستحقون من حفاوة وتقدير، كما يمكننا فهمه باعتباره دفاعاً عن الذات، من قبل جيل الشباب من المشتغلين على قصيدة النثر.. وبين هذا وذاك، يبقى الأمر لا يفيض عن كونه حق، ولا يقل عن أن يكون واجباً.
نذكر في الختام، أن فيلم «مطموراً تحت غبار الآخرين»، الفائز بذهبية مهرجان القاهرة للإعلام العربي، العام 2008، هو من إنتاج الفضائية العربية السورية.