بين صمت الغفلة واحتفاء الذاكرة.. ديمومة الأسطورة

1-  مقدمة
لسائل أن يسأل: ما يمكن أن يجمع شريطين وثائقيين أحدهما يتطرّق إلى شتات الأمازيغ  (البربر) في تونس والثاني يتناول المسيرة الرياضيّة لحارس كرة قدم؟
إذا تعدّينا البديهيات وهي أنّ العملين من إخراج تونسي و من إنتاج الجزيرة الوثائقية وأنهما يتطرّقان إلى إرث تونسي، نلاحظ أنّ كلاهما يرتكز في مرجعيته على الذاكرة.
في هذا الإطار، لا بدّ لنا أن ننبّه إلى شيئين: أولا أنّ عمليّة الكتابة السينمائية ترتكز على التعبير عن وجهة نظر المخرج وحده، ممّا ينجرّ عنه انتقاء للمادة المقدّمة و اختيار لكيفيّة طرحها. هذا يعني إقصاء لمادة أخرى.    ثانيّا، أنّ الذاكرة نفسها، جماعيّة كانت أو تاريخيّة، تنتهج نفس طريقة الإقصاء. فهي لا تسجّل سوى ما يتماشى مع قناعتها الآنية، أو بالأحرى ما يتماشى مع مصالح و قانعات من يملك الحكم السياسيّ أو السلطة الثقافيّة أو النفوذ الاجتماعي.
الشريط الأول، “بربريات، قرى الصمت التونسيّة” من إخراج التونسي أكرم عدواني ومدّته 26 دقيقة، يدخل الذاكرة عن طريق تناول غير مدقّق لتاريخ البربر في تونس وتأثير هذا التاريخ على الواقع  الحالي  لشعب وحضارة الأمازيغ.
الشريط الثاني، “الصادق ساسي، عتوقة”، من إخراج المخرج التونسي محمد منذر النمري ومدّته 28 دقيقة، يحاور الذاكرة الجماعيّة للتباهي بماض قريب.
ولعلّ ما يجمع هذين الأثرين أننا نستطلع داخلهما إحساسا بالأسف لضياع، بل للتفريط في مكتسبات و خصوصيات هذين الماضيين، بل نستنشق منهما إقرارا بإمكانية تأثيرهما الكبير على الواقع الحضاري الإنساني وكذلك الرياضي لتونس اليوم إن وقع التعامل التعامل معهما بالصفة الأنسب.
يبقى أنّ نقاط اختلاف العملين تبقى الأكثر وتشمل نوعيّة الشريط الوثائقي وطريقة هيكلته و اللغة والجماليات السينمائية المستعملة.

2- صمت الغفلة
أو لعلّنا نقول تغافل الكلام عن تاريخ تونس البربري، إذ بقي هذا التاريخ تحت طيّ الصمت لمدّة قرون، حتّى أن التونسي أصبح لا يحسّ بل لا يعرف عن هذه الجذور شيئا. ويمكن لشريط أكرم العدواني أن يعتبر محاولة للتعريف بهذا التاريخ و هذا الإرث الحضاري، غير أن العديد من التساؤلات تبقى معلّقة.

الناقد محمد ناصر الصردي

لنبدأ بالعنوان: “بربريات، قرى الصمت التونسيّة”.
استعمال لفظ “بربريات” يوحي لنا بنوع من الشتات و إلى أحداث متفرّقة لا تكتسب لحمة غير موضوعها الأساسي وهو البربر. أمّا لفظ “قرى” فنفهم منه مباشرة أنّ البربر هم أهل قرى، وبصفة غير مباشرة، أنهم ليسوا بأهل مدن و تحضّر. و أخيرا نلاحظ أن لفظ “صمت” يعود على القرى، فهم الفاعل و ليس المفعول بهم، إذا هم اللذين سكتوا و ليسوا باللذين سكتوا عنهم !
ينطلق الشريط بأحد سكان القرى البربريّة وهو يروي لنا قصّة القصر الّذي كان يسكنه البربر وحكاية الحمامتين. وما لا نجده في الشريط هو تفسير لكلمة “القصر”، أو  “القصور” كما ينطقها البربر، فالقصر  يمثّل عندهم بيوت مبنيّة على طوابق، تكون عادة على المرتفعات، يأوون إليها عند الخطر. إذا هي ليست بالبلاط أو بمساكن الملوك و منازل الأمراء.
أما حكاية الحمامتين فتروي لنا كيف أن خلافا بين ألأب و الابن أدّى إلى حتميّة الهجرة حتى لا يندثر البربر، وعلى هذه فهي تأكد مسؤوليتهم في هجرة ديارهم.
وحدّ هذا المستوى بدت تلوح لنا مكوّنات شخصية “أمازيغ” تونس حسب طرح المخرج.
البربر، هذه المفرد العاقل رغم جمعه، كان يسكن قرى جبليّة و قد اختار هجرتها لخلافات نشبت “داخله” حتى لا يندثر كانسان (وليس كبربر)، مبجّلا في ذلك الصمت المطلق و عدم الإفصاح و التعريف بنفسه، بل الانغلاق عليها.
وما يؤكد ذلك أنّ باقي الشريط لا يظهر لنا هذا “البربر” إلّا عبر لقطات جامدة لوجوه ساكنة و ساكتة وفاقدة التعبير أو عبر بعيدة لقرى جبليّة لا يوجد داخلها حركة  أو حياة.
وحتى يدعم هذه الفكرة و يؤكدها، يشتمل الشريط على ثلاثة شخصيات تُفهم أنّها غير بربريّة.
أوّل هذه الشخصيات، المخرج نفسه الذي يقوم بدور الباحث عن هذه القرى و الذي يجد صعوبة في العثور عليها، وهو في نفس الوقت الرّاوي الوحيد لعمليّة البحث والواصف الوحيد لحالة القرى. و بما أن هذا الرّاوي غير مرئيا وبما أنّ المشاهد لا يسمع سوى صوتا مصدره غير محدّد، يصبح لروايته حجما كبيرا من المصداقية.
ثاني الشخصيات، المصوّر الفوتوغرافي ويقوم بدور الدليل الذي مكّن من العثور على القرى، و طبيعة فنّه تفرض التقاط صورا جامدة وهي الأكثر تعبيرا على جمود وتجمّد المحيط الذي يصوّره، وفي ذلك تأكيد على اختيار المخرج ف�� الاعتماد على لقطات ثابتة. ونشير هنا  إلى أنّ المخرج و المصوّر هما الوحيدان اللذان يقومان بالحركة، داخل إطار الشريط، أمّا بالمشي أو بسير السيّارة.
آخر الشخصيات الثلاث يكون المؤرّخ. التقطه المخرج من زاويّة تحتيّة، تضخّمه بعض الشيء، تفتح على سماء صافيّة زرقاء. وقد ظهر المؤرّخ محاطا بنوع من الشعاع. و حتّى وإن كنت أرجّح هذه الشعاع إلى خطأ في الإضاءة، فهذا لا يمنع من تأكيده إلى الفكرة التي أستنتجها وهي الإحساس بقدسيّة المتدّخل الثالث و بقدسيّة كلامه، معتمدا في ذلك على أن قراءة الأثر الفنّي لا تعتمد على نوايا المبدع بل تعتمد على الأثر نفسه.
اقتصر ت شهادات المؤرّخ على إخبارنا على الوضع الحالي للبربر دون التطرّق إلى تاريخهم إلّا عبر إحصائيات غير مدقّقة تؤكّد حالة الاندثار التي يوجد عليها البربر ومعتبرة أن هذا الوضع ليس وليد العصر، بل هو موغل في القدم وسببه عدم قدرة الأمازيغ على التأقلم مع الحداثة وتشبثهم بتقاليد قديمة (الرعي، الفلاحة،…) و انغلاقهم على أنفسهم (طريقة الزواج).

كامل الدراسة


إعلان