قراءة في فيلمي فرحات حشاد والمنصف باي

“شخصيّة القائد”: من توثيق الحقيقة إلى البحث عن نمط سياسيّ أعلى.
أحمد القاسمي
نتحوّل عند العبور من الريبورتاج إلى الدراسة الوثائقيّة من رصد اللّحظة العابرة والموقف الرّاهن ضمن هاجس تواصليّ أساسا إلى تمليّ التّجربة عبر امتدادها في الزّمن تحليلا واستدلالا وإلى توظيف عبقريّة الوسيط البصري توظيفا يعمّق من وقع الأثر فكريّا وجماليّا. وهذا ما يضع المخرج أمام تحديات جسام اختار جمال الدلالي أن يتجشّمها في فيلميه “اغتيال فرحات حشّاد” و” محمد المنصف باي: نهاية عرش” فحاول تقصّي الحقائق المغيبة من سيرة محمد المنصف باي وفرحات حشاد ومساءلة من عايشوا الرّجلين أو بحثوا في تجربتهم تأريخا وتأليفا، وحاول في الآن نفسه تأمين عبور أمين لأثريه من التواصليّ إلى الجماليّ والموقف الشخصيّ خاصّة أنّ الفيلمين تعلقا بقائدين من أبرز قادة المجتمع التونسيّ في النّصف الأول من القرن العشرين، عهد الفعل في التّاريخ مواجهةً مع المستعمر وسعيًا إلى بناء الدولة الوطنيّة.
1) في البحث المضني عن المشهدية:
ولمّا كان الفنّ السينمائي تواصلا بصريّا أساسا بذل المخرج الوسع من جهده لتضمين معلوماته طي الوثيقة الفيلميّة، فاعتمد المشاهد الحربيّة ومواكب للبايات أو لفرحات حشاد يخطب في الجماهير بحماسة. وجعل مشاهد الحياة اليوميّة في حاضرة تونس في النّصف الأوّل من القرن العشرين خلفيّة لعرض علاقة المنصف باي بالأهالي أو لإبراز صورة العمّال التونسيّون وما يعانون من القهر وشظف العيش ولتشرح دوافع فرحات حشاد للانخراط في العمل النّقابيّ واتخاذه مقصد عمله الوطنيّ. وكان المشهد التمثيلي سند المخرج لندرة الوثيقة الفيلميّة فتولىّ الممثّل السوري طوني موسى تجسيد شخصيّة المنصف باي فعرض فترات من إقامته بمنفاه في فرنسا وجسّد حادثة موته المفاجئ وما يمكن أن تثير من احتمالات تسميمه للتّخلص من عبئه. كما اعتمد سينما التحريك لتشخيص حدث اغتيال منظّمة اليد الحمراء لفرحات حشّاد بضاحية رادس. فانفتح الأثران، وإن جاءت هذه المشاهد قصيرة مجتزأة، على النمط الوثائقي التخييلي الذي لا يقدّم الحقيقة التاريخيّة وإنما يعرض نماذج متخيّلة ذات قدرة تمثليّة لما يمكن أن تكون عليه.
ومثّلت الصورة الثّابتة مقصدا بديلا للمخرج كلّما أعوزته الوثيقة الفيلميّة، فعرض من خلالها محمد المنصف باي في مراحل مختلفة من حياته أو أخذ المتفرّج، افتراضيّا، إلى الفضاءات التي كان يرتادها حتى يتمثّل أكثر أحداث تغييب معلن لرمز من رموز التحرّر الوطني في تونس، وعرض صورا لفرحات حشاد في جولاته المختلفة. ودعّم الصّورة بالمقالة الصحفيّة أو الخرائط التّوضيحيّة.
لقد حاول المخرج توفير قدر هائل من الموارد البصريّة واجتهد في جمع وثائق نادرة حتى يكفل لمنجزه شرعيّة الانتماء إلى الفنّ السينمائي وحتى يستجيب لأفق انتظار متفرّج يترصّد المعنى ضمن المفردات البصريّة أساسا. ولكن ولمّا كانت هذه الموارد جاهزة لم يحدّد المخرج سلّم لقطاتها ولا زوايا تصويرها أو عناصر تشكيلها لم تشكّل في فيلمي جمال الدّلالي رؤية جماليّة أو خطابا متماسكا وإنما ظلت مصدرا ثانويا للتوليد الدلالة وتقديم المعلومة التاريخيّة مقارنة بما ميّز الخطاب اللغويّ فيهما من سطوة.
2) الوثائقي الحواري اختيارا جماليا أثيرا:

دفعت طبيعة الوثائق، فوتوغرافيّة كانت أو فيلميّة، بالمخرج إلى جعل المحاورة والشهادات اختيارا أثيرا يجسّد من خلالهما صورة شخصيتيه ويعيد تشكيل مراحل حياتهما. وتوزّعت بين شهادة من قاسم شخصيّتيه مرحلة من حياتهما كالوزير السابق أحمد بن صالح أو كالطبيب سعيد المستيري بالنسبة إلى المنصف باي أو كالزوجة أم الخير ورفاق شاركوا فرحات حشّاد دربه وعايشوا تجربته وسرد من تناهت إليهم أخباره فتولى الأمر حفيداه سعيد باي وخالد بن عمر باي أما القطب الثالث فكان المقاربة التاريخيّة ووجهة النظر المبرّرة وتولاها جامعيون اشتغلوا على تاريخ الحركة الوطنيّة من أمثال الباحثة جوليات بسيس أو عميرة عليّة الصغيّر أستاذ التاريخ المعاصر أو الباحث عدنان المنصّر. وحتى يكتسب أثر “المنصف باي” تناغمه وانسجامه الدّاخلين عهد المخرج أمر التعليق على الأحداث لصوت سارد يردنا من خارج الإطار فيملأ الفراغات ويشرح بعض الشهادات أو يذكّر بسياقها. فكان الفيلمان شهادتين تقلّبان صفحات مسيرة محمد المنصف باي وفرحات حشاد وتنزعان منزعين: فمثّل المنزع الأوّل منزعا إخباريّا تحليليّا يقدّم المعلومة التاريخيّة يتولاها المؤرخ في تكامل كما الأمر في فيلم “اغتيال فرحات حشّاد” أو في حواريّة وجدل يعرضان وجهة النّظر ووجهة النّظر المعاكسة كما الأمر في مواطن من فيلم “المنصف باي” مثل الاختلاف في تقييم حكم الرّجل أو شخصه فتذهب الباحثة جوليات بسيس إلى تحالفه مع ألمانيا النازيّة إبان حربها مع الحلفاء على الأراضي التونسية وتجد في ذلك زلة سياسيّة كبيرة وهنة لا تقلّ فداحة عن ضعفه أمام الفرنسيين وانكساره أمامهم فيما يشير الباحث كلود ناتاف إلى شخصيته السلطويّة الأبويّة وإلى جهوده في حماية اليهود من الجالية التونسيّة ورفضه لإرغامهم على حمل النجمة السداسيّة الصفراء.
![]() |