قراءة في فيلم الصّادق ساسي (عتّوقة)
من الإنسان اللاّهي إلى إنسان الفرجة
أو تحوّلات اللّعب في زمن الصّورة
د. العادل خضر*

“عيطة وشهود…” في مجتمع الفرجة:
إذا أردنا أن نعرف الفرق بين أبطال الأمس ومشاهيرهم في الذّاكرة التّونسيّة (كعليّ بن غذاهم والدّغباجي والبايات الحسينيّين، والأولياء الصّالحين كسيدي بن عروس وسيدي محرز وسيدي بلحسن، والأدباء كعليّ الدّوعاجي وأبي القاسم الشّابّي…)، وأبطال اليوم ومشاهيرهم (كعتّوقة والعقربي وتميم في ملاعب الرّياضة، أو عليّ بن عيّاد والفاضل الجعايبي وتوفيق الجبالي في المسرح، أو علي الرّياحي وعُليّة ولطفي بوشناق في الغناء…)، فإنّ الفرق بين هؤلاء وأولئك هو كالفرق بين المجتمعات التّقليديّة و”مجتمع الفرجة société de spectacle” ( ). فأبطال الأمس ومشاهيرهم هم مجرّد أسماء احتفظت بهم الذّاكرة الجمعيّة، هذا إذا عرّفنا هذه الذّاكرة بأنّها مسكونة بأطياف الموتى والمفقودين والمنسيّين. أمّا أبطال اليوم فهم أبطال مرئيّون، موجودون بالفعل لا بالقوّة، لكنّهم مبذولون دائما للعرض ومتأهّبون دوما لصناعة الفرجة حتّى وإن كان ما يعرضونه للنّاس تافها رتيبا حقيرا ينطبق عليه قول المثل التّونسيّ “عيطة وشهود على ذبيحة قنفود”. فالمهمّ في الفرجة ليس مضمون العرض، وإنّما إقبال النّاس على الفرجة ومشاهدة ما يبذل لهم، أمام أبصارهم، دون المشاركة فيه. وإن أردنا التّعريف بـ”إنسان الفرجة l’homme spectaculaire “، وانطلَقْنا من عبارة الأسقف الإرلندي بركلي Berkely ” أن نكون هو أن نُرى”، لقلنا لا يكون هذا الإنسان ممكنَ الوجود إلاّ إذا رُئِي. ولا يكفي أن تلحظ العينُ شخصَه، أو تشاهد صورته حتّى تتوفّر شروطُ وجوده، وإنّما وجب أن يوجد في مجتمع الفرجة، لأنّ هذا المجتمع بالذّات هو شرط وجود “الإنسان الفرجويّ”، أي الإنسان الّذي تُعرض صورته باطّراد وتواتر شديدين، وتُنشر بكثافة في محافل المدينة، وتنتشر في مواضع عرضها واستعراضها. فمجتمع الفرجة هو لا محالة مجتمع المدينة بامتياز. ففي فضاء المدينة تتجمّع عروض كثيرة إلاّ أنّ القليل منها يصلح للفرجة.
يشبه هذا المجتمع، أي مجتمع الفرجة، في شكله العامّ السّيرك الرّومانيّ. ومعلوم أنّ هذا السّيرك هو أوّل مسرح جَعل من القسوة اختصاصا ومن الموت فرجة. فالسّيرك الرّومانيّ قد كان المكان الّذي نتابع فيه انقلاب المبارزة الحربيّة ومعارك المحاربين إلى عرض من عروض الضّراوة الفاتنة. فإذا تعطّل اليوم النّظام الإعلاميّ العالميّ وأصبح لا يشتغل إلاّ لصناعة الفرجة فلأنّ الفضاء العمومي قد انقلب شيئا فشيئا، وبشكل غير لائق، إلى سيرك. فمجتمع الفرجة قد اتّخذ من السّيرك منوالا، فكلُّ ما يَجِدّ فيه من أمور خطيرة وحوادث تقتضي مواجهتُها الكثيرَ من الحزم يضحي في دنيا العروض موضوعا للفرجة.
وإذا سلّمنا بأنّ “مجتمع التّرفيه المبتدع في العهود الرّومانيّة القديمة قد سجّل عودته في شكل مجتمع فرجة”، فإنّ مجال التّرفيه لم يعد تستقطبه مؤسّسة السّيرك وحدها، وإنّما أفضية جديدة، هي أفضية الملاهي واللّعب والثّقافة، كمدن والت ديزني للألعاب والكازينو والمسارح والملاعب ودور الثّقافة والمقاهي الأدبيّة والنّوادي… وهي على اختلافها أفضية لعب ولهو، ولكنّها في الآن نفسه وسائط مختلفة، جُعل بعضُها لترويض العنف والغضب كملاعب الكرة والكوريدا وحلبات المصارعة والملاكمة والكاتش، واتّخذ بعضها الآخر كالمسرح ومقاهي الأدب ودور السّينما… لامتصاص القلق والخشية والشّفقة… وتطهير المتفرّجين من الانفعالات السّلبيّة. فالفرح والحزن مثلا، أو الألم والكراهية والقلق، أو الإعجاب والإحساس بالظّلم جميعها انفعالات يشعر بها المتفرّج وهو يتابع مقابلة في كرة القدم، وهي انفعالات تذكّرنا بنظريّة التّطهير التّراجيديّة عند أرسطو. غير أنّ التّطهير والتّرويض والامتصاص لا يتحقّق اليوم إلاّ بالفرجة وصناعة الفرجة عبر أبطال الفرجة من مشاهير اللاّعبين والمصارعين والممثّلين والكتّاب المبدعين ورجال السّياسة والمال والموضة…
![]() |