رموز: المُخْرج الفرنسي “لوك مولي”

الهادي خليل

بَدَأَ المُخرج الوثائقي الفرنسي “لوك مولي” مسيرته كناقد في مجلّة “كرّاسات السّينما” (Les Cahiers du Cinéma) الشّهيرة. وُلد بفرنسا سنة 1937 وعاشر كثيرا أهمّ رموز مَا عُرِف بـ”الموجة  الجديدة” الفرنسية (La Nouvelle Vague) وخاصّةً المخرج “جان لوك غودار” (Jean-Luc Godard) الذي كان زعيم هذا التيّار السّينمائي. “غودار” مُعْجب كثيرا بأعمال “مولي” الوثائقيّة ويعتبره أهمّ سينمائيّ فرنسيّ في هذالمجال.
 أنجز “لوك مولي” أفلامًا وثائقيّة طريفة وعجيبة تمحورت أغلبها حول ظاهرة الطّبخ والأكل وما تتميّز به من طقوس ومن عادات. كلّنا يعرف شغف السِّيمِيَائِي الفرنسي “رولان بارت” (Roland Barthes) بدلالات الطّعام وبتعبيراتها وتجلّياتها المتعدّدة من حضارة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر. دوّن “بارت” ملاحظاته الدّقيقة عن الطّعام في ثقافات الشّعوب الاستهلاكيّة في كتابه الشّهير “ميثولوجيات” (Mythologies) الذي أصدره في أواخر الخمسينات. “لوك مولي” هو صِنْوُ “رولان بارت” في الميدان السّينمائي، إذْ تتميّزُ جلّ أفلامه بنزعته التوّاقة إلى رصد العلامات النّاتئة التي تتعلّق بالأشياء وبالبشر. قاسمه المشترك الآخر مع “بارت” هو اهتمامه بالطّعام من خلال كلّ أصنافِهِ.
 أوّل فيلم وثائقيّ صوّره “لوك مولي” سنة 1960 هو شريط قصير بعنوان “طبخ غير مُسْتَوٍ لشريحة لحم” (Un Steak trop cuit). يُدَقِّقُ المخرج، من خلال هذا الفيلم، عن أساليب النّاس في الأكل وعن حركات الأفواه والأيادي وكأنّه يريد استنطاق ماهيّة الجسد بالتّركيز على نهم النّاس وعلى شهواتهم وهم يلتهمون شريحة لحم. ما نلاحظه جليّا في هذا الفيلم هو اعتماد المخرج على النّكتة والسّخرية في تصوير أفواه النّاس والمعالق والسّكاكين التي يستعملونها لتيسير عمليّة قطع اللّحم قطعة بقطعة. ولإبراز هذه السّلوكيّات المأدبيّة، يلجأ المخرج مراراً إلى اللّقطات الكبيرة التي بفضلها نتبيّن ما يكتنف فعل الطّعام من حركات تبدو مقرفة وقبيحة. تتجلّى أناقة شخص ما أو همجيّته من خلال طريقته في الأكل: هذا ما أراد أن يقوله المخرج في هذا الفيلم الاستهلالي.

 الشّريط الذي عرّف بـ”لوك مولي” دوليًّا والذي مكّن النّقّاد والمهتمّين بالشّأن السّينمائي والجمهور العريض ككلّ من اكتشاف فنّان ثاقب النّظرة وطريف الإحساس والتّمشّي هو عمله المأثور الذي صوّره سنة 1979 واختار له عنوان “تشريح أكلة” (Genèse d’un repas). يطرح المخرج، في مشهد فيلمه الافتتاحي، سؤالا بسيطًا: من أين يأتي سمك التنّ والبَيْض والموز الذي يُوَشِّحُ صَحْنِي؟ ينطلق من هذا السّؤال لكي يحقّقَ في دواليب الصّناعة الغذائيّة، وذلك ابتداءً من التّاجر الذي يتزوّد منه يوميًّا بالخضر والغلال واللّحوم. عماد السّينما الوثائقيّة التي يُحبُّها “لوك مولي” هو التّحقيق الدّؤوب الذي ينفذ إلى تفاصيل الأشياء البسيطة واليوميّة التي لا نتفطّن لها إطلاقا. يقوم المخرج بتفكيك اقتصاد غذائيّ، مُقْتَفِيًا كلّ محطّاته من بلد إلى آخر ومصرًّا على كشف مصادر الأكلات والوجبات التي نتناولها يوميًّا.
 أراد “لوك مولي” أن يجعل من فيلمه “تشريح أكلة” فحصًا دقيقًا للعلاقة الشّائكة وغير المتكافئة بين المائدة الغربيّة المهيمنة ودهاليز العالم الثّالث الغذائيّة. بكثير من التّأنِّي والتّروِّي والذّكاء يتمكّن المخرج من فضح غطرسة الشّركات الرّأسماليّة التي تتحكّم في نظامنا الغذائي والتي لا تتوانى في بثّ سمومها في شعوب العالم الثّالث. ما يثير الانتباه حقّا في هذا الفيلم هو حضور المخرج كطرف أساسيّ في هذا التّحقيق المضني، وبذلك نتبيّن أنّ السّينما الوثائقيّة بالنّسبة إلى المخرج الفرنسي هي سينما ذاتيّة في جوهرها وفي روحها، تُصَاغُ من قِبَلِ “أنا” حاضرة ومتوقّدة لا تكتفي بمعاينة المظالم وفضحها بل أيضا تُبْرِزُ مدى التصاقها بالفوضى العارمة التي تُميّز العالم.
 يقول “لوك مولي” في هذا الصّدد: “لا أريد أن أكون سيّد القصّة التي تستهويني وأحرص على تصويرها. ما يهمّني هو توريط نفسي كفرد في انشقاقات هذا العالم وتناقضاته، أي أنّ الفيلم الوثائقي ليس بالشّيء المسطّر مسبقا بل هو فُتحة على الصُّدَف المتتالية”.


إعلان