سانتياجو ألفاريز: رائد الفيلم الثوري التسجيلي

 في وقت أصبحت الثورات التي تشتعل في شتى أرجاء العالم العربي هي المحور الذي يستقطب اهتمام الإعلام، وعلى رأسه شبكة “قنوات الجزيرة الفضائية”، أود في هذا المقال أن أسلط بعض الضوء على التجربة السينمائية لأحد أهم السينمائيين التسجيليين الثوريين في تاريخ السينما وهو المخرج الكوبي سانتياجو ألفاريز  Santiago Alvarez  (1919- 1998).

درس “ألفاريز” السينما في الولايات المتحدة وعاد في الأربعينيات الى كوبا حيث عمل لفترة مشرفا على الأرشيف الموسيقي في التليفزيون الكوبي، وعندما أعلن “فيدال كاسترو” نضاله ضد نظام الديكتاتور “باتيستا” في أوائل الخمسينيات، التحق “ألفاريز” بقوات “كاسترو” وتولى مسؤوليات اعلامية وأصبح بعد انتصار الثورة الكوبية عام 1959 وسقوط نظام “باتيستا”، الأب الروحي للسينما في كوبا، والمؤسس الأول لمؤسسة السينما الكوبية الذي يطلق عليها “معهد الفن والصناعة السينمائية في كوبا”، ومنها تخرجت أجيال من السينمائيين العظام الذين أثروا الفن السينمائي بأفلامهم البارزة طوال الستينيات حتى الثمانينيات قبل أن تبدأ سنوات الجفاف في السينما الكوبية لأسباب عديدة.

يمكن القول أيضا أن “سانتياجو ألفاريز” هو أحد كبار التجريبيين في عصرنا، فقد اشتغل على الشكل السينمائي للفيلم التسجيلي، ولم يعتبر نفسه قط “مخرجا تسجيليا” بل “صانع منشورات سينمائية”.
 ولم يكن ينظر الى ما يخرجه من أفلام عديدة في ظل ظروف عسيرة، محكوما بمساحة زمنية ضيقة للغاية، على أنه يصنع أفلاما للتاريخ، أو لكي تصمد في وجه الزمن ويمكن مشاهدتها بعد سنوات وسنوات من قبل النقاد والمؤرخين، بل كان يرى أن مهمته كسينمائي “ثوري” هي ما يمكن أن تحدثه أفلامه من تأثير فوري الآن والآن فقط، من أجل تزويد الجماهير بالوعي الثوري.
وكانت أفلامه تعتمد على تجسيد التناقضات الجدلية بين الصوت والصورة، وبين الهجائية السياسية (خصوصا للسياسة الأمريكية تجاه كوبا والعالم الثالث) والمتعة البصرية، وبين الطابع التعليمي (من خلال تقديم المعلومات وأحيانا كتابة البيانات على الشاشة) وبين الطابع الشخصي الذي يجعله يتمكن من تقديم “رؤيته” الذاتية الساخرة أيضا، وهو أمر مدهش ونادر في هذا النوع من السينما التي يعتقد البعض أنها تندرج في إطار “الدعاية” السياسية.

لم يبدأ “سانتياجو ألفاريز” الإخراج السينمائي إلا بعد أن بلغ الأربعين من عمره، وتمكن من إخراج نحو 600 فيلم تسجيلي، برز في هذه الأفلام جميعها، أسلوبه المميز الذي كان يعتمد على الاستخدام المكثف للصور الفوتوغرافية ولقطات من أفلام هوليوود، والموسيقى القوية والأغاني المعبرة في سياق بصري يتمتع بالانتقالات السريعة في المونتاج، على الطريقة السائدة في الإعلانات التجارية التلفزيونية ولكن في سياق يؤدي إلى رسالة معاكسة تماما، بل إن “ألفاريز” يرى فعلا أن الإعلانات التجارية التي تعرض في التلفزيون في الغرب “أقوى من المنتجات التي تعلن عنها”.

وكان “ألفاريز” يرى مثلا أن سر جاذبية مشروب الكوكا كولا يكمن في أن زجاجة الكوكا كولا صممت على شكل امرأة حتى أصبح الناس في كوبا يصفون المرأة الجذابة بـ”الكوكا كولا”!

ويعتبر “ألفاريز” تلميذا مخلصا للسينمائي الروسي الرائد “دزيجا فيرتوف” Vertov صاحب منهج “سينما الحقيقة” الذي كان يعتمد على اقتناص اللحظة الحية والحدث المباشر وتسجيله وعرضه بحيث يصبح مساهما في “نقل” الواقع والأحداث الجارية إلى المشاهدين.
وهو شكل أقرب إلى ما يسمى بالجريدة السينمائية التي برع “ألفاريز” في إخراجها.
 وكان “ألفاريز” يفخر بقدرته على مواكبة الحدث مباشرة، وكان يردد عبارته الشهيرة “من يضرب أولا يضرب مرتين”.
 وقد أخرج فيما بعد، في أوائل السبعينيات فيلمه الشهير “النمر قفز وقتل.. لكنه حتما سيموت.. سيموت.. سيموت” عن المغني والشاعر الشيلي الكبير “فيكتور هارا” Jara الذي قتل على أيدي العسكر بعد انقلابهم الشهير على حكومة الوحدة الاشتراكية في شيلي بزعامة سلفادور اليندي عام 1973.
وفي هذا الفيلم البديع يستخدم أغاني “هارا” الثورية الرائعة كخلفية لنضال الشاعر الذي دفع حياته ثمنا لموقفه من الفاشية في بلاده.
 وقد أخرج “ألفاريز” هذا الفيلم بعد اغتيال “فيكتور هارا” مباشرة في 16 سبتمبر 1973.
ومن أفلامه المباشرة التي أخرجها مباشرة بعد وقوع الحدث فيلمه عن “تشي جيفارا” الذي أعقب الإعلان عن مصرع “جيفارا” في غابات بوليفيا على أيدي قوات الحكومة وبمعرفة خبراء في المخابرات المركزية الأمريكية عام 1967.

ولم يبرع “ألفاريز” فقط في العمل تحت ضغط المساحة الزمنية الضيقة (كان يتعين عليه أحيانا الانتهاء من عمل الفيلم خلال 48 ساعة فقط)، بل وبميزانيات ضئيلة للغاية أيضا، وباستخدام الكثير من اللقطات (المقرصنة) أحيانا من أفلام هوليوود.
 ومن أقوال “ألفاريز” الشهيرة “إعطني صورتين وموفيولا وبعض الموسيقى وأنا أصنع لك فيلما”.
ومن حسن حظ الأجيال الجديدة من هواة السينما ومخرجيها أن أصبح الكثير من الأفلام البارزة التي أخرجها “ألفاريز” متوفرة اليوم عبر موقع “يوتيوب” على شبكة الانترنت.

من هذه الأفلام “الآن” (1965) الذي يعكس بصدق منهج وأسلوب “ألفاريز” في العمل، في الاستخدام المؤثر للصور والموسيقى والمونتاج، وهو فيلم يكشف العنصرية التي كانت في أوجها في تلك الفترة، بالولايات المتحدة والتي وصلت إلى ذروتها العام 1968 باغتيال “مارتن لوثر كنج”.
 ويقوم الفيلم أساسا على الاستخدام العبقري للصور التي حصل عليها ألفاريز من الجرائد السينمائية الأمريكية، على خلفية بارزة لأغنية المغنية الأمريكية (من أصول سوداء) “لينا هورن” Lena Horn، وكانت هذه الأغنية ممنوعة وقتذاك في أمريكا.
ومشاهدة هذا الفيلم اليوم تعطينا فكرة واضحة عن براعة أسلوب “ألفاريز” وقوة تأثيره على الشاشة، وموهبته الكبيرة في تحليل الصور واللقطات، واستخدامه الذكي للأغنية.

وهناك فيلمه الشهير “ل ب ج” LBJ الذي أخرجه عام 1968، وتشير الأحرف الثلاثة في العنوان، إلى اسم الرئيس الأمريكي ليندون ب . جونسون، الذي كان وراء توسيع الغزو الأمريكي لفيتنام في منتصف الستينيات، وقد اتخذ منه “ألفاريز” هدفا له في عدد من أفلامه، للتعريض به والسخرية منه.
 ويتكون الفيلم من ثلاثة أقسام، القسم الأول تحت حرف “ل” ويرمز إلى مارتن لوثر كنج، والقسم الثاني تحت حرف “ب” ويرمز إلى بوب كنيدي (روبرت)، والثالث تحت حرف “ج” ويرمز إلى جون كنيدي.
 ويتهم “ألفاريز” الرئيس جونسون بإغتيال الشخصيات الثلاث، كما يصوره في صورة الكابوي الأمريكي المتطرف باستخدام الرسوم الكاريكاتورية الساخرة.

والطريف أن المخرج الأمريكي / أوليفر ستون (وهو من المعجبين كثيرا بالتجربة الكوبية واللاتينية عموما في مقاومة الهيمنة الأمريكية) عاد بعد ذلك بنحو 25 عاما لكي يوجه اتهاما مشابها إلى ليندون جونسون بالضلوع في اغتيال كنيدي في فيلمه الشهير “ج  ف ك” JFK ولعله ليس من قبيل المصادفة أن يستخدم ستون ثلاثة أحرف هي اختصار اسم الرئيس كنيدي متأثرا بما فعله “ألفاريز” في فيلمه عن الرئيس جونسون، وكان صاحب موقف متشدد من كوبا، الأمر الذي دفع أوليفر ستون إلى اتهام جونسون (في فيلمه) بالضلوع في عملية اغتيال كنيدي بالتعاون مع المخابرات الأمريكية، تحديدا بسبب موقف كنيدي “الناعم” تجاه كوبا كما يتردد في الفيلم).

وفي فيلم “79 ربيعا” 79 Springs يخرج “ألفاريز” فيلمه الأكثر شاعرية، والذي يعكس رؤيته الشخصية كمبدع، تجاه شاعر وقائد هو الزعيم الفيتنامي هوشي منه، مباشرة بعد وفاته عام 1969 وكان في التاسعة والسبعين من عمره وقتذاك، وهو مغزى عنوان الفيلم.
 هذا الفيلم قصيدة شعر سينمائية في استخدام المونتاج للربط بين اللقطات في سياق بصري أخاذ، للتعبير عن عبقرية هوشي منه، وحبه الكبير لشعبه.
ويستخدم “ألفاريز” أيضا طريقة تفتيت الصورة، والكتابة على الشاشة، واللقطات التي تتجمد فجأة، والاختفاء التام للصورة في الظلام، ثم العودة بشكل مفاجيء في النهاية مع إعادة تجميع عنوان الفيلم بعد تفتيته، والاستخدام الخلاب لموسقى باخ، وطلقات الرصاص التي يظهر على خلفيتها عنوان يقول لنا أن “الأمريكيين ستحل بهم الهزيمة”.

كان هذا عصر الثورة في العالم، خلال حقبة الستينيات، وكان “سانتياجو ألفاريز” ابنا لهذه الثورة التي اجتاحت أمريكا اللاتينية، ولذلك لم يكن يصنع أفلامه فقط للجمهور في كوبا، بل للجمهور في عموم القارة اللاتينية.
 ولذا كان يرى أن من الضروري، الربط بين ما يتابعه من أخبار متعاقبة في جرائده السينمائية التي ولد من رحمها الكثير من الأفلام التسجيلية الخلابة، وبين الأخبار التي سبقتها في عموم القارة، منها يستمد صوره ولقطاته، ومن خلال قدرته الخاصة في العمل على الصور فوق طاولة المونتاج، كان يتشكل الفيلم بايقاعه المميز المؤثر. وكان تأثير الصور التي يصنعها “ألفاريز” كبيرا، وأظنه لايزال كذلك، رغم أن البعض يمكن أن يعتبر أن الزمن قد تجاوز أفلامه اليوم.
إلا أن من يشاهدها سيجد أنها لاتزال تتمتع بالقدرة على الصمود للزمن، وإلهام الكثير من صناع السينما التسجيلية خاصة ونحن نعيش عصر الثورات العربية.

ومن الطريف أن المخرج الأمريكي “ترافيس ويلكرسون” كان يصور فيلما في كوبا عام 1994، وقد أصر على ضرورة القيام بزيارة إلى “ألفاريز” وكان يحتفل وقتها بعيد ميلاده السابع والسبعين.
وبعد أن جلس واستمع لهذا العبقري قرر اسقاط مشروع الفيلم الذي جاء إلى كوبا لتصويره وتصوير فيلم عن “ألفاريز” نفسه.
 واشترط عليه “ألفاريز” أن يشاهد أفلامه أولا، فقضى أسبوعين يشاهد بلا توقف عشرات الأفلام التسجيلية التي أخرجها “ألفاريز”.
وقد منحه “ألفاريز” عددا من النسخ السينمائية من أفلامه قبل أن يعود إلى الولايات المتحدة لعرضها على من يهتمون هناك بدراسة أعمال هذا المخرج.


إعلان