“طفل المارثون” صورة الهند في تراجيدياتها المعاصرة

تراجيديات الحياة لا تصنع لوحدها فيلما جيدا، وفي الهند موطن المصائر المأساوية الفردية الكبرى لم تحقق السينمائية الجادة نجاحاتها اعتمادا على موضوعاتها فحسب، بل ومثلها مثل بقية السينمات العالمية، إقترنت بأسماء مخرجين كبار، صنعوا أفلاما درامية مهمة وقليلة بالمقارنة مع حجم الانتاج السينمائي الهندي الضخم معتمدين على توفرهم شروط الصنعة ومهاراتها التقنية والإبداعية.
 وعلى مستوى الوثائقي يبدو الأمر أكثر وضوحا، فمصاعب الحياة والفقر المدقع تنتج كل يوم بل وفي كل ساعة قصصا درامية يصلح بعضها للتحول إلى أفلام وثائقية ناجحة لو إستوفت شروطها، مثل فيلم “طفل المارثون” لـ / جيما أتوال. أهمية دور “جيما” السينمائي لا يكمن في حصولها على مادة وثائقية مثيرة ونادرة، فقصة الطفل “بوديا” التي ذهبت للإشتغال عليها في ولاية أوريسا الهندية، كانت قد انتشرت في وسائل الاعلام، ونقلت الكثير عن موهبته في الجري الطويل (المارثون)، لكن ما ميزها عن غيرها من صناع الوثائقي الخفيف، وعندنا في الوطن العربي الكثير منهم، والذين يذهبون إلى مادتهم المنتقاة، وفي الغالب بعجالة،  ليصوروا بكامراتهم الديجتال ساعات محدودة ثم يعودون إلى مكاتبهم “ليقطعوها” ببرامج حواسيبهم الشخصية ويعلنون بعد مدة قصيرة عن إتمامهم لأفلام وثائقية مهمة ستشارك في مهرجانات “عالمية”!.
 لم تفعل “جيما أتوال” ذلك بل عايشت موضوعها لسنوات، ودرست تفاصيله وصورت خاماتها برويّة وصبر كبيرين ثم عادت وركبتها لتقدم في النهاية فيلما جيد الصنعة مقنع وعميق.
خرج الطفل “بوديا”، من تلك المناطق التي خرج منها أبطال فيلم “المليونير المتشرد” لـ / داني بويب، ومساعده “بوفلين تاندان”، ولهذا كان تركيز وسائل الاعلام عليه كبيرا، ولنفس السبب اختارت “جيما أتوال” الصحفي المحلي “سامباد” ليكون معلقا ومحللا لبعض تفاصيل ومجريات الأحداث التي رافقت حياة الطفل في منطقته التي انقسم سكانها بين مؤيد له ولمدربه ومعارض لهما مثل الحكومة المحلية التي كانت على قناعة من وجود استغلال للطفل، وبين الطرفين ظهرت أطرافا أخرى أرادت تحقيق مصالح خاصة.

 في بداية عامه الرابع كانت “أوريسا” المعزولة والفقيرة متفقة في حبها لطفلها الموهوب ولكن وفيما بعد، تقاطعت المشاعر والمصالح بسبب تدخل عناصر كثيرة على الخط وهذا ما قاله الصحفي “سامبا” في بداية الشريط ليوضح إلتباس المشهد بين العام والخاص: “طفل الأحياء الفقيرة، حصل على اهتمام شديد من وسائل الإعلام وعلى قلوب جميع السكان، وكان حلم مشاركته في الألعاب الأولمبية حلمهم وحلم منطقتهم قبل أن يكون حلمه، فهو طفل لم يعرف المجد ولا الشهرة بعد، ولكنه كان موهوبا دون شك”.
 من الصراع بدأ “طفل المارثون” حركته وظل خلالها بريئا لا يدرك حقيقة ما يدور حوله.. كان يسير حسب هوى الكبار، ويتكلم وفق ما يلقنه الآخرون ويتصرف مثلما يطلب منه، ولهذا كانت قصته تنشطر إلى وحدات بسبب كثرة الأطراف المتقاطعة مصالحها حولها وحول مستقبله وكان على رأس هؤلاء مدربه “بيرانتشي داس”، الذي اجتمعت فيه الطيبة والشيطنة في آن، وتكفي محاولة وصفه لوحدها، لتثير خلافا محتدما، ولهذا أخذ توصيف الصحفي “سامباد” له بعدا مسرحيا، والمثير أن “أتوال” قد التقطت هذا الجانب فحولت كلامه إلى تعبير بصري، حين استعانت بالرسوم المتحركة لتجسيده، مما أعطى الفيلم أبعادا فيها عناصر درامية ووثائقية والتحريك اشترك وتفاعل معهما.
 دخل المدرب “داس” على خط “بوديا” من الفقر وحاجة والدته “سوكانتي سينغ” إلى المال، فلقد سبق لها أن باعت إبنها بـ 800 روبية هندية، لرجل قاسي القلب كان يضربه ويستغله، وحين عرض عليها “داس” إسترداده مقابل دفع نفس المبلغ إلى صاحبه وافقت دون تردد، فالفقر والخوف من موته جوعا لم يترك لها خيارات كثيرة.
 لقد تحولت ملكية الطفل إلى مدربه، الذي سبق وأن تبنى الكثير من الأطفال ودربهم على لعبة الكراتيه، كونه المدرب الأشهر في منطقته؛ وكان أسلوب تبنيه لهم وتدريبهم يحفز السؤال التالي: لماذا يفعل ذلك؟.. ومن أين له المال ليصرف عليهم ويعيلهم؟ هل كان يفعل هذا حبا بهم أم بما سيجنيه حين يبلغوا الشهرة ويصبحوا أبطالا خاصة وأن معلومات تؤكد حصول “بوديا” على دعم مالي من مؤسسات رياضية عالمية ووصول مساعدات كبيرة من خارج البلاد إليه! السؤال نفسه تحول إلى حجة عند دوائر الشؤون الاجتماعية في خلافها القانوني معه، وكان أيضا حجة “داس” في الدفاع عن نفسه كونه محبا للرياضة ويقدم أبطالا عالميين بإسم منطقته.
 

المدرب “داس” رفقة طفل الماراثون “بوديا”

تطور الصراع بين “داس” والحكومة المحلية كشف لنا حجم الفساد واللعب القذر على المصالح في الهند كلها، فحتى حزب المؤتمر الهندي المعارض اليوم، دخل اللعبة لصالح طموحاته وليس حبا بـ “داس” ولا بطفل المارثون، والدوائر الحكومية نفسها كانت تريد إظهار “حرصها الزائد” على مواطنيها فراحت تضغط عليه، وبالمقابل وبعد سنة، أي في سنه الخامسة، وعندما خطط المدرب “داس” لإشراكه في سباق مارثون كالكتا الكبير كانت قصته قد وزعت المنطقة وقسمتها تماما وخلالها أتاحت لنا تسجيلات “أتوال” فرصة متابعة حركة الصراع فيها ودور وسائل الاعلام في تأجيجها كما قربتنا من حقيقة الفقر السائد وكيف كان يقود الناس إلى أفعال رهيبة، فيما مصالح الأغنياء مؤمنة ولعبة الديمقراطية قائمة في بلد يكفي حجم الفقر فيه إلى نسفها من الأساس.
 لكن التصعيد الكبير تمثل في مطالبة الأم باسترجاع طفلها بعد أن شعرت أنه قد أصبح كما يقال “دجاجة تبيض ذهبا” ووقوف عصابات مناطق البؤس إلى جانبها وتشجيعهم لها بإقامة دعوة ضد “داس”، الذي ظهر وكأنه غير عابيء بالدولة ومؤسساتها ومستهترا بها إلى درجة كان يجد في لعبة الصراع السياسي مأمنا منها، فكان يدير العملية الاعلامية بمهارة يحسد عليها، ولكن بالمقابل كانت الدولة تفكر في الحد من تصرافته، فجاء اعلان موته مفاجئة!
هل قتلته الدولة بنفسها؟ هذا ما ظل سرا.. لقد تصاعد الحدث بموته دراميا وكانت تسجيلات “أتوال” تكشف لنا المزيد من رعب الحياة في مناطق الهند النائية والبعيدة عن القانون.
 لقد أعلن رسميا بأن إثنين من رجال العصابات والمقربين من السلطة قد أطلقا عليه الرصاص طمعا في ماله الذي حصل عليه من الخارج، وبموته انتهت دورة حياة رجل جمع بين طموح الشيطان وحب الرياضة وتحول إلى رمز شعبي وكان هذا آخر ما يطمح إليه كما قال “سامباد”.
لم يقرب موته المال والفقر فقد ظلا مفترقان كما هما، ومع هذا لم تترك “أتوال” عملها عند هذا الحد فظلت تتابعه وإن بتقاطع حتى بلغ “بوديا” الثامنة من العمر، فرأيناه طالبا في قسم داخلي يحصل على منحة حكومية بسيطة تسمح له بممارسة هوايته، فيما الاعلاميون يمارسون مهنتهم كعادتهم،والسياسيون مستمرون في حكمهم وجل القصص وخفاياها تنتهي في الغالب في أدراج مكاتبهم أو تحسمها دوائر نفوذهم السرية كما في حالة “داس” مدرب “طفل المارثون”. 


إعلان