“ما وراء الحياة”.. بحث الفنان الشاق عن اليقين

كنا نعرف الفيلم التسجيلي أو الوثائقي الحديث باعتباره الفيلم “غير الخيالي”، أي الفيلم الذي لا يتضمن أحداثا أو وقائع متخيلة أو قصصية درامية.

إلا أن فيلم “ما وراء الحياة” Beyond Life (87 دقيقة) تأليف وإخراج / سالمة حسب الله، يدفعنا إلى مراجعة تعريفنا للفيلم غير الخيالي، فهذا الفيلم يجمع بين التسجيلي والروائي، وبين الوثائقي والتمثيلي والدرامي، فهو يحتوي على كل هذه المكونات والأنواع.
وكما أنه يعتبر بحثا شاقا عن الله، عن الحقيقة، حقيقة الوجود، ومغزى الحياة، وما وراء الموت، فهو أيضا مغامرة فنية في البحث عن الشكل، أو بالأحرى محاولة للاستفادة من كل العناصر والأساليب والأشكال الفنية التي يمكن أن تثري الموضوع.

مخرجة الفيلم “سالمة حسب الله”

تنطلق المخرجة من الفلسفة، حينما تعود إلى أرسطو ومحاولته الفاشلة في العثور على إجابة عن ماهية الموت، ومفهوم الروح لكي تنطلق إلى العلم الحديث والبحث العلمي وتتوقف أمام ما يقوله العلماء عن الموت، لكي تنتهي إلى الدين، أي إلى إيمان الإنسان بالخالق، وبالحساب وبالحياة بعد الموت.

الفيلم يتكون من ثلاثة أجزاء، في الجزء الأول تتوقف المخرجة أمام المغزى الفلسفي لفكرة الموت، كيف تعامل معها الفلاسفة ورجال الفكر، وكيف عجزوا عن تقديم تفسير محدد قاطع لها.
والجزء الثاني يبحث في العلاقة بين العلم والإنسان والظاهرة الغيبية أي ظاهرة ما بعد الموت. هنا تستعين المخرجة بمقابلات مع علماء من الجانبين، أي من المؤمنين وغير المؤمنين.
وفي الجزء الثالث تتوقف طويلا أمام التفسير الديني للموت، وتثبت أن الأديان السماوية كلها، تشترك في الإيمان بالحساب وبالحياة بشكل مختلف، بعد الموت، وبالحساب، وبالجنة والنار حتى مع اختلاف المفاهيم والتفسيرات.
تتوقف المخرجة خلال تناولها للأجزاء الثلاثة أمام بعض القضايا الفكرية والظواهر المثيرة مثل ظاهرة الاقتراب من الموت، أو الموت المؤقت قبل  العودة إلى الحياة، ولكي لا تجعل هناك أي شك في وجود هذه الظاهرة، تجري مقابلات مع عدد من العلماء بل والأشخاص الذين مروا بهذه التجربة منهم امرأة كفيفة تروي كيف أنها أثناء إجراء عملية في دماغها داخل غرفة العمليات يمكنها أن تتذكر، وهي التي ولدت كفيفة البصر، ولم يسبق لها أن خبرت رؤية الأشكال والألوان، إنها صعدت إلى سقف الغرفة، واستطاعت أن تشاهد وتستمع إلى فريق الأطباء وهم يتجادلون بشأن حالتها وكيف أنهم اعتقدوا أنها ودعت الحياة للحظة بالفعل بعد توقف المخ تماما عن العمل لعدة ثوان، وتوقف استجابتها لأي منبهات طبية.
ويقوم طبيب متخصص في المخ والأعصاب بتحليل كيفية عمل المخ وكيف أنه حدث في الكثير من المرات، أن توقف المخ البشري والقلب عن العمل دون أن يتوقف “وجود” الإنسان.

لقطة من الفيلم

هنا تتطرق المخرجة إلى مناقشة مفهوم “الوجود” البشري وهل يرتبط بالمادة فقط أي بالمخ وحركته، أم أن هناك شيئا آخر خارج نطاق المخ والجسد كله يتعلق بـ”الروح” التي يمكنها أن تنسلخ عن الجسد تماما وتوجد بمعزل عنه.
ومن ظاهرة الوجود والكينونة إلى العلاقة مع الكون، مع جهل العلم بالكون، خاصة وأنهم لا يعرفون سوى 6 في المائة منه فقط ولا يزال 94 في المائة مما هو موجود في الكون مجهولا، وتطرح تساؤلات أيضا حول ما إذا كان هناك “أكوان” متعددة مشابهة لعالمنا، أم أن عالمنا فريد غير متكرر، وهل هناك كائنات أخرى ترتبط بالعالم، وهل الإنسان هو محور الكون وأنه يحتوي على أشياء من الله في داخله، وماهية تلك الروح الكبرى أو العقل الشامل الأعظم أي الله، وكيف يمكن أن يدرك الإنسان وجوده خاصة مع تلك الشواهد العديدة في الكون على وجوده.

تعتمد المخرجة كما أشرت، على المزج بين التمثيلي والتسجيلي، فهي تلجأ إلى الاستعانة بقصة متخيلة لمجموعة مختلفة الأعمار من الأشخاص يجتمعون في قطار يستقلونه كل منهم يرغب في الذهاب إلى وجهة محددة، لكن المسؤول عن الركاب، هو الذي يمكنه أن يحدد أين ينزل كل منهم، وعندما يأتي دور أحدهم يتوجه إليه ليقوده إلى مصيره الذي ليس من الممكن تغييره.
وعندما يعترض هؤلاء الأشخاص على مسار الرحلة ويتشككون فيها بل ويعتقدون أن هناك أكثر من مسار، يذكرهم حارس العربة بقوله: كيف يمكن أن يكون هناك أكثر من مسار والقطار نفسه يسير من البداية دون أن يتعرض لأي حادث من أي نوع!
هذه القصة تقدمها المخرجة في سياق فيلمها بنوع من الدعابة والمرح مما يخفف كثيرا من قسوة موضوع الموت الذي تتناوله، بل إن بناءها الفيلمي يجعل الموضوع جذابا من المشاهد فهي تستخدم الجرافيك والرسوم والأشكال المتخيلة والموسيقى الناعمة، وتعتمد في مشاهد التمثيل على مجموعة من الممثلين والممثلات يبرعن في تقمص أدوارهم.
وتتداخل قصة المسافرين والقطار مع مشاهد متدرجة تتناول الظواهر المختلفة، التي تدور حول الحياة والموت، مغزى الوجود الإنساني على الصعيد الفلسفي، مع المقابلات التي تجريها المخرجة مع عدد من العلماء والمفكرين ورجال الدين المسيحي والإسلامي والباحثين في فلسفة الأديان، والأشخاص الذين مروا بظاهرة الموت المؤقت أو العودة من الموت، ومنهم من كان ملحدا قبل ذلك ثم أصبح يدرك، عن يقين، وجود الله عز وجل.
وتجعل المخرجة هذه المقابلات تظهر في فيلمها بالأبيض والأسود تمييزا لها عن اللقطات “الخيالية” أو التمثيلية أو المتخيلة.
ورغم تعدد الشخصيات والرؤى والمقابلات إلا أن المخرجة تسيطر على البناء بشكل مدهش وتتمكن من دفع الموضوع وتطويره إلى الأمام دون أن يشعر المشاهد بالملل، ولاشك أن إنفاقها وقتا طويلا في الإعداد للفيلم والقيام بالبحث الشاق للوصول إلى المادة والأشخاص الذين تجري المقابلات معهم، إلا أن الفيلم يبدو متماسكا، متدفق الإيقاع رغم تكرار بعض الأفكار والانتقال أحيانا بين المتحدثين في الفيلم دون استخدام اللقطات الدخيلة التي تفصل بينهم.
وقد اختارت صاحبة الفيلم أن تجعل فيلمها ناطقا باللغة الانجليزية، مع وجود ترجمة عربية على شريطه، لكي تنقل مفهومها الإيماني إلى العالم.
وسالمة حسب الله مخرجة الفيلم تعمل بشكل مستقل وقد سبق لها إخراج فيلم تسجيلي وخمسة أفلام للأطفال.


إعلان