سينما سورية جديدة

من أحدث وأجمل الأفلام السورية الجديدة، التي أمكن مشاهدتها قبيل نهاية العام 2010، سيكون فيلم «انفلونزا»، للمخرج الشاب رياض مقدسي، وهو فيلم روائي قصير (مدته 34 دقيقة)، كانت انطلاقته من خلال المشاركة في «مهرجان دمشق السينمائي الدولي» الأخير، قبل أن يذهب إلى الأردن، حيث سيفوز بجائزة أفضل فيلم عربي قصير، في «مهرجان الأردن السادس للأفلام القصيرة»، ويحطّ رحاله في «مهرجان دبي السينمائي الدولي»، حيث كانت له فرصة التواجد في «سوق دبي السينمائي».

منذ اللقطات الأولى، في المشهد الرائع، الذي يدور في «سوق السمك»، في مدينة سورية راهنة؛ الآن وهنا، يمكن للمشاهد الانتباه إلى حالة من التميز الإبداعي المتألق، يقدمها فيلم «إنفلونزا»، بدءاً من التصوير الممتاز، والإضاءة الفنية البارعة، ونقاء الصوت وصفائه، والإيقاع المونتاجي المتمكن، والمؤثرا البصرية والصوتية، وليس انتهاء بالحضور المتميز لمجموعة من الممثلين السورين الأكفاء: «خالد تاجا، أندريه سكاف، رنا شميس، جرجس جبارة، مازن عباس، شادي دويعر، مهند قطيش، علا الباشا، آلاء أبو عفاش».

الفنانة السورية “رنا شميس”

واضح تماماً أن فيلم «إنفلونزا» يستفيد من أحدث وأعلى التقنيات الرقمية، بصفاء ونقاء، ومهارة، تليق بمخرج محترف، مع أن هذا هو فيلمه الأول!.. إنه مخرج قدير يستطيع إدارة الممثلين، بمستوى احترافي واضح، كما يستعين بمهارات فنية وتقنية، أعادت مدير التصوير والإضاءة: «حنا ورد»، إلى مكانته اللائقة التي لم يغادرها، واحداً من أمهر مدراء التصوير والإضاءة في سوريا، وأكثرهم خبرة ومعرفة، ومواكبة لكل ما هو حديث ومستجد في عالم تقنيات التصوير والإضاءة. كما قدمت اسماً ملفتاً في المونتاج «نازنين مفخم»، تمكن من أداء مهمته ببراعة واضحة، مع الاستعانة بشابين ماهرين، هما الممثل الموهوب شادي دويعر، مستشاراً درامياً، والمخرج الشاب إياس مقداد – مساعد مخرج -، وهو الذي سبق أن رأينا له أفلاماً روائية قصيرة متميزة.

هذا ما نريده، وهذا ما نطمح إليه، في السينما السورية؛ أن تتمازج قدرات الشباب الهواة، ومواهبهم، مع خبرات الكبار، وحرفيتهم، ولاشك أن الحصيلة، ستكون باهية، على ما نزعم، وما نأمل. وربما يمكن لفيلم «أنفلونزا»، أن يكون نموذجاً مثالياً، ومصداقاً لهذا القول. فالفيلم جاء على قدر من البراعة على مستوى الصورة، والصوت، على مستوى الإضاءة، والمونتاج، والبناء الفني، والعناية بالتفاصيل كافة، خاصة على صعيد الديكور؛ هندسة المناظر، التي استطاعت تقديم بيئة غاية في الجمالية، موحية ودالة، عامرة بالألوان، زاد من ذلك العناية بتصحيح الألوان، وخلق التناغمات والتضادات في آن، مع العناية بتوزيع النور والعتمة، الضوء والظل، وحسن استخدام المؤثرات البصرية والصوتية، دون أن ننسى مشاهد التصوير في الماء، وتحت الماء، ولعلها المرة الأولى التي نراها على هذا النحو، في السينما السورية.

على المستوى السمعي البصري، يمثل فيلم «إنفلونزا»، للمخرج رياض مقدسي، درساً نموذجياً في حُسن استخدام واستثمار التقنيات الرقمية، غاية الدقة، وتوظيفها. وإذا كان من نافل القول الإشادة بقدرات ممثل قدير، من طراز الفنان الكبير خالد تاجا، والثناء على تجاربه المتعددة مع المخرجين الشباب، خاصة وقد رأيناه، خلال العامين الأخيرين، متعاوناً مع المخرج الشاب المتميز محمد عبدالعزيز، في فيلميه «نص ملغ نيكوتين»، و«دمشق مع حبي».. وإذا كان من الضروري الإشادة بالحضور المحبب للفنانين: جرجس جبارة، وأندريه سكاف، ورنا شميس، ومازن عباس، وشادي دويعر، ومهند قطيش، والطفل، وسواهم.. فمن الضروري التوقف عند حكاية الفيلم، وعند السيناريو.

بإعتقادي، إن المشكلة الأساسية في فيلم «إنفلونزا» ستتمثل في الحكاية، كما في السيناريو.

مخرج فيلم “أنفلونزا”/ رياض مقدسي

لقد كتب المخرج رياض مقدسي، سيناريو الفيلم، متعاوناً مع باتريشيا دونهيو، وكانت الاستشارة الدرامية مع الممثل الموهوب شادي دويعر، الأمر الذي يعني، (في حدود ما نعلم، لأننا لا نعلم شيئاً عن باتريشيا دونهيو)، أن البنية الحكائية، والسيناريو، بقي نتاجاً شبابياً، بعيداً عن الاستعانة بالخبرات الاحترافية، في مجال كتابة السيناريو، ومعالجته، وتقويم البنية الحكائية، وهو خيار وإن كنا نحترمه، ونقدره، دون أدنى شك، إلا أنه بقي مثلباً، على صعيد المبدأ والفكرة، من حيث كتابة المخرج نفسه للسيناريو، وهو ما لا نحبذه، خاصة وأنه هذا الفيلم ليس من أفلام «سينما المؤلف»، وبالتالي كان عليه الاستعانة بكاتب سيناريو متخصص. كما أن الأمر ذاته بقي مثلباً على صعيد الكتابة والبناء، إذ سنرى أن البنية الدرامية للفيلم قد انكسرت، بشكل لا نرى أنه خدم الفيلم، بل قصمه إلى فيلمين اثنين.

تبدأ الحكاية في الفيلم، بشكل واقعي آخاذ. كما قلنا: في سوق السمك، في مدينة سورية راهنة؛ الآن وهنا. ويعتني الفيلم بتقديم تفاصيل غارقة في الواقعية، تنهل من الحياة اليومية السورية، لمدينة ساحلية، تعتاش من البحر. ثمة من يصطاد السمك، ومن يبيعه، ومن يشتريه. السوق، والمقهى، الحارة، والبيوت، والبحر.. وتنوعات لشخصيات من روح البيئة.

وإذ يعتمد الفيلم، منذ البداية، على أسلوب الصوت الخارجي (فويس أوفر)، بصوت الفنان خالد تاجا، يتحدث عن الحياة، وهمومها، وعن الناس، والسمك، وتقويته للذاكرة؛ الذاكرة التي تستحضر المشاكل، معلناً بذكاء: «لما بتقوى ذاكرتك، بتزيد مشاكلك.. بتتذكر كل الوقت، إنك مانك مبسوط»، ويمضي للحديث عن «الناس اللي فوق»، و«الناس اللي تحت»، والمشاكل المستعصية: «كيف رح تنحلّ مشاكلك، إذا مو إنت سببها؟..»، ليختتم بالقول: «الشي الوحيد اللي إلك هو مشاكلك.. هدول ما حدا رح ياخذن منك.. مبروكين عليك».. كل هذا نسمعه قبل أن نتعرف على الشخصية الرئيسية، التي سيؤديها ببراعة مأثورة عن الفنان خالد تاجا، وسنعرف أنها شخصية تمثل خلاصة شخصيات متعددة، في آن: فهو متشرد، متسول، سكير، و«عواطلي»!.. وفي الوقت نفسه، هو نبيل، إنساني، صادق، على قدر من الوعي، والفهم، والرؤية الثاقبة، والقدرة على إدراك ما يغيب عن الناس الآخرين.. وسيكون في نهاية الفيلم عصياً عن الإصابة بالفيروس الذي أصاب الجميع!..

الفنان “أندريه سكاف”

لا يجوز نقدياً استخدام تعبير «لو»، ولا الزجّ بافتراضاتنا، ولا إبداء تطلباتنا، ولا ينبغي لنا الحديث عما نرغب في رؤيته في الفيلم، وهو غير موجود فيه، أصلاً!.. ولكن من الواضح أن الفيلم، وبعد أن أمضى نصفه الأول واقعياً، بامتياز، وأوحى بالكثير مما سيذهب إليه، افتراضاً، ومما مهَّد له بالكثير من الأقوال والدلالات، مثل نقاشه لواقع الصيادين، والحديث عن حال المدينة، وناسها، والفروقات الطبقية، والمشاكل.. إلا أن الفيلم، بغتة، سوف ينعطف بشكل حاسم، ويتحوّل إلى عالم من الفانتازيا، الناجمة عمّا أسماه الفيلم «فيروس أنفلونزا السمك»، نتاج أكل السمك الميت، وما يتركه هذا الفيروس من آثار على أهالي المدينة. هذه الانعطافة التي جعلت من النصف الثاني من الفيلم، ما يشبه ظلالاً شاحبة للنصف الأول الرائق حقاً، ولم تسمح بالاستثمار الدرامي الحقيقي لكل ما بدأه الفيلم، وكان مبشراً!..

لاشك أن فيلم «إنفلونزا»، يقدم لنا مخرجاً سينمائياً سورياً متميزاً، اسمه: رياض مقدسي، نعتقد، ونتمنى، فعلاً، أن يتمكن من المضي في مسيرته الفنية الإبداعية، والمراكمة على منجزه هذا، مؤكداً لما فيه من إيجابيات، متخلّصاً مما اعتراه من عثرات.
المخرج رياض مقدسي، وفيلمه «إنفلونزا»، يستحقان التقدير والاحترام، ولا ينبغي لهذا الفيلم أن يمرّ عابراً، ففيه جهود وإبداعات متميزة حقاً.


إعلان