“عائلة”.. قصيدة الفقر الحزينة

مايكل ويستروم” يعود غليها للمرّة الثالثة..

في تاريخ السينما الوثائقية هناك مخرجون اشتغلوا على موضوعات أفلامهم أكثر من مرة، وفي الأعم مرتين، يكملون في الثانية ما أسسوه في المرة الأولى، وبهذة الطريقة يوفروا لأنفسهم إمكانية تسجيل المتغيرات التي تطرأ عليها بتفصيل أدق، كونها تتم على مراحل وبمديات زمنية متباعدة، يأخذ خلالها المشاهد مساحته الكافية لمراقبة الفروق الجوهرية التي تحدث على الموضوع المعالج بين المرحلتين، وأيضا تتيح له مجالا أكبر لفهم تفاصيل وجزئيات المادة التسجيلية المطروحة للبحث البصري، غير أن ما قام به السويدي “مايكل ويستروم” مختلف بعض الشيء كونه عاد إلى موضوعه ثلاث مرات وبذلك تميز عمله بالبحث المشبع لمراحل تطور عائلة “بارينتوس” – البيروفية – الفقيرة، وحتى في اختياره هذا شيء من الندرة كونه لم يتناول موضوعا كبيرا يتعلق بحركة سياسية أو ظاهرة اجتماعية، أو حتى بشخصية إشكالية ما، بل اقتصر الأمر كله على مسار تطور حياة عائلة عادية فقيرة رافقها خلال ثلاثين عاما،

بدء معهم من مراحل تكوينهم العائلي الأول يوم كان “دانييل” و”ناتي” شابين في مقتبل العمر، أحبا بعضهما وقررا الزواج في العراء، فلا شيء كان عندهم يوم إلتقاهم “ويستروم” عام 1974 وصوّر فيلمه الأول عنهم “عراب” ماضيا خلاله في تفاصيل تجربة العيش على المزابل والنفايات واتخاذ صناديق الورق منزلا لهما.
كانا عاشقين وأرادا العيش سوية بشروطهما. لم يدعيا موقفا فكريا في اختيارهما هذا ولا انتماءا واعيا إلى حياة عابثة أو رافضة فالمحبان كانا منشغلين باللحظة الإنسانية ولا شيء سواها. التجربة التسجيلية تكررت ثانية حين عاد المخرج السويدي إليهم في البيرو عام 1994 أي بعد عشرين سنة، ليجدهم وقد أصبحوا أربعة أشخاص لكنهما ما زالا يعيشان وطفليهما في فقر مذل ورغمه قاوم حبهم الزمن.
لقد أعطى “ويستروم” لفيلمه هذه المرة إسم “الساحل الآخر” ليميز بين ساحلين أو بين عالمين: عالمه الغربي المترف والآخر البعيد المختلف والغارق في فقره.

أما عودته الثالثة فكانت في “عائلة” ومعه هذة المرة مساعده “ألبرتو هيرسكوفيتس” ليسجلا فيها افتراقا حزينا حدث بين الأم وبيتها، الذي تغير نسبيا نحو الأحسن مقارنة بزيارته الثانية لهم، على ما فيه من مظاهر الفقر والعوز والمليء بهموم تثقل كواهل كل من يعيشون فيه. لقد كبرا الشابان المتحابان ا��آن، ودخلا الخمسينيات من العمر، وأولادهم كبروا أيضا وتزوجوا لكن مشاكلهم لم تنته، ما دامهم في ذات البيت فهم يعيشون أيضا، على خط الفقر، وربما حتى أقل من مستواه كما يحلو للإقتصادين وصف المحرومين من بني البشر أكاديميا، ولكن كما شاهدنا في “عائلة” فإن أثر هذا الخط النفسي والروحي المؤلم يخلخل ببساطة متناهية معنى التسمية نفسها، ووحدهم من يشعرون به قادرون على وصفه بدقة ويعرفون أين تبدأ حدود خطوطه ومتى تنتهي، وما هي أشكالها وألوانها، شريطة توفرهم، طبعا، موهبة السرد وسلاسته، والزوجان البيروفيان يملكانها ولهذا تشجع ويستروم على مرافقتهما والعمل معهما مدة ثلاثين عاما، متقطعة على مراحل، أنجز خلالها وعنهم فقط ثلاثة أفلام اعتمدت كلها وبشكل أساس على مقدرتهما في التعبير عن أحوالهما ووصف عذاباتهما الدفينة وكأنهما شاعران موهوبان يكتبان بسلاسة قصيدة فقرهما الحزينة.

قبل سفرها إلى إسبانبا بحثا عن عمل وفيما هي تقوم بترتيب حقيبتها المهترئة يسألها زوجها عن سبب صمتها فتجيبه: “الفقر والحاجة يلجمان اللسان ونحن فقراء” ثم تصمت لتشيع حزنا على المكان.
على غرار هذا المشهد تتوارد مشاهد أخرى، مكثفة ومعبرة كل كلمة فيها تقال لها معنى وتأثير، فبعد عام من عملها كخادمة فندق في مدريد، ذهبت إلى السوق وإشترت ملابس لأولادها، ولصديقتها المهاجرة قالت “أخيرا تمكنت هنا من شراء ملابس صينية رخيصة مثل التي كنت أشتريها في البيرو”. انتقالها بين ضفتين، وفر لـ”عائلة” إمكانية الخروج من مساحته الضيقة الأولى إلى ثانية أوسع تجلى فيها مشهد المهاجرين أكثر، حين راح يوثق جزءا من حياة الأمريكيين اللاتينيين في “عصر العولمة والانفتاح” وعلى حقيقته، وأن من زاوية الأم “ناتي” التي كدحت ولم تحصل إلا على القليل وقسم منه كان يذهب على شراء بطاقات الهاتف، الذي صار الوسيلة الوحيدة المتاحة لربط عالمين، وفي حرصه على تسجيل مكالماتها مع عائلتها ارتقى مستوى “ويستروم” بعمله كثيرا لأنه وبفضلها صرنا نتابع العائلة على الضفتين ونسجل مقياس درجة الحزن الذي يولده فراقهم لها. لقد كانت “ناتا” على الدوام أُماً جيدة رغم فقرها، وما سفرها سوى تعبير عن رغبتها في حل مشاكلهم وتوفير شروط حياة كريمة لهم،
لقد جازفت في خطوتها وراهنت عليها حلا خارجيا لوضعها الصعب هناك، في البيرو، ذلك البلد الذي لم يحسن أحوال فقرائه طيلة ثلاثين عاما، فأي بلاد تلك التي يزداد فيها الفقراء فقرا وعلى من تقع مسؤلية عوزهم الشنيع؟

هذة الأسئلة “السياسية” ومثلها كانت تأتي لوحدها ونحن نراقب “العائلة” وتفاصيل حياتها البائسة، رغم  أن الشريط لم يكن معنيا بها مباشرة، ولا حاول مسها متعمدا، ومع هذا طرحناها وفكرنا في الذي يبقي البيروفيين فقراء محتاجين طيلة أعمارهم، مع أن المرء لا يعيش حياته إلا مرة واحدة! فأي حياة تلك التي يعيشها هؤلاء في البيرو أو في غيرها من الأماكن؟     


إعلان