سينما المؤلّف: هل هي الخرافة التي صدّقناها؟

أدّى الإعتقاد بأن نقاد “الكاييه دو سينما” كانوا أوّل من صاغ مفهوم سينما المؤلّف إلى شيوع خطأ تفصيلي في هذا الشأن، يتعلّق، كما سنرى بعد قليل، بتاريخ النظرية ذاتها.
إنه المفهوم الذي يعتبر أنه إذا ما كان المخرج هو المسؤول الوحيد عن الفيلم  فإنه من باب أولى أن يكون مؤلّفه، أي مبدعه وخالقه.  ولكي يعود الفيلم إليه فإن عليه أن يستخدم عناصر صنع الفيلم وأدواته المختلفة بحريّة كاملة وبعناصر من الإستقلالية والذاتية معاً.  فرنسوا تروفو (1932-1984) كتب مقالة سنة 1954 قال فيها أن الفيلم إذ عليه أن يعبّر عن الأفكار الخاصّة بمؤلّفه، فإنه الحري أن يكون المخرج مؤلّفاً، كما مؤلف الرواية او النص الشعري او اللوحة. وهو الذي قال كذلك “لا توجد أفلام جيّدة وأفلام رديئة بل يوجد مخرجون جيّدون ومخرجون رديئون”.
بالتالي، فإن نظرية فيلم المؤلّف تقتضي بأن يحمل الفيلم توقيع صاحبه. وكان ممكناً، بالأمس،  أكثر من اليوم أن تدخل صالة سينما بعد أن تفوّت المقدّمة وتجلس وتدرك أن الفيلم من إخراج “برغمن” أو “تروفو” أو “وايلدر” أو “هيتشكوك” أو مصرياً:  “صلاح أبو سيف” أو “كمال الشيخ”.

“ألفريد هيتشكوك”

 لكن الغريب أن النظرية المذكورة لا تشمل فعلياً كل المخرجين أصحاب التواقيع الأسلوبية، حتى “ألفرد هيتشكوك” الذي وضع عنه “تروفو” كتاباً من الحوارات، والذي اعتبره نقّاد “الكاييه دو سينما” (شابرول، غودار، رومير، ريفيت من بين آخرين) من بين المخرجين- المؤلّفين، كان موضع ريب عدد آخر من متبنيي النظرية. لكن “هيتشكوك” كان ذا أسلوب خاص به، كذلك “روبرت ألدريتش” و”جوزيف هـ. لويس” و”ألبرتو لاتوادا” و”كمال الشيخ”. لماذا هؤلاء لم يُعتبروا مؤلّفين؟
ولماذا لا يجوز إعتبار “ديفيد وارك غريفيث” مؤلّفاً؟ ما هو الأساس الفعلي لتصنيف من هو المؤلّف ومن هو غير المؤلّف؟

حسب ما سبق فإن المؤلّف هو صاحب الصياغة الفعلية، لكن كيف يمكن لهذه الصياغة أن تتم من دون جهود فنّانين آخرين؟ بالتالي، ماذا يبقى للمخرج من العمل حتى نستطيع إصباغ النعت عليه إذا كان هناك فنانون وفنيين يشاركون المخرج مراحل العمل؟ وهل تأليف رواية باستخدام وسيلة الكتابة أو الطبع على الكومبيوتر هو ذاته التأليف الذي يلجأ لوسيلة تحقيق الفيلم مع عشرات العناصر الرئيسية والثانوية المتفاعلة في تأليف الفيلم؟

حتى لا يبقى الكلام عامّاً يجب أن نلج ما هو أكثر تحديداً. لكن قبل ذلك، واحد من المفاهيم المغلوطة هو أن سينما المؤلّف كانت ظاهرة تم إكتشافها (أو على الأقل الإشارة إليها) في مطلع الخمسينات عندما باشر نقاد “الكاييه دو سينما”، الذين انتقلوا إلى الإخراج مع أواخر الخمسينات، الإشارة إليها والدعوة لها. ذلك لأنه من الثلاثينات كان هناك نقاداً ومخرجون يدعون إليها معتبرين أن هناك مخرجين تميّزهم أساليبهم الفنية ما يمنح كل منهم لقب مؤلّف أو على الأقل، مؤلّف فيلمه.  من هؤلاء النقاد “بول روثا” و”جون غريرسون”. أما نماذج ذلك الجيل فكان من بينهم “وليام فلاهرتي” و”زيوفولود بودفكين” و”سيرغي أيزنشتاين”.

أيضاً تبنّى الناقد الفرنسي “أوريول” في مجلة Du Cinema
ثم في مجلة La Revue du Cinema
دعوى التمييز بين مخرجين منفّذين ومخرجين معبّرين بما يُفيد تصنيف الفريق الثاني بالمؤلّف الحقيقي للعمل السينمائي.
ما غفل عنه بعض نقاد الفترة هي عدم ضم المخرجين التعبيريين الألمان إلي القائمة: “مورناو”، “لانغ”،       ” واين” والمخرج الأميركي/ غريفيث إلى قائمة “المؤلّفين” أسوة بسواهم.
 ذلك ربما كان عائداً إلى أن التيار السائد لدى النقاد الأوروبيين آنذاك  كان ليبرالياً،  ما حثّهم على التعامل أكثر مع مخرجين منتمين إلى نظم يسارية أو هم يساريون في واقع ما يعرضونه أو يحققونه من أفلام. 
ونحن نرى أن هذا التقسيم استمر طويلاً وبل إلى اليوم.
 

“غريفيث”

الإعتقاد الذي ساد النقد السينمائي العربي في أواخر الستينات، حين بدأت الكتابة بخجل، هو أن السينما الأوروبية هي المعين الثقافي الحقيقي والوحيد.
كلاهما اعتبرا طبقيين وإنتقائيين (Elitist) خاطئين؛ تم قبولهما من نقاد يساريين أو ممن اعتبروا أنفسهم يساريين.
 حسب هذا التعبير، كل ما هو ترفيهي خطأ وكل ما هو كلاسيكي خطأ وكل ما هو عاكس لصنعة ثقافية صح. لكن هذا الهضم لمعنى “سينما المؤلّف”  حمل تناقضه في داخله.
 فنقاد السبعينات العرب نظروا إلى “ألفرد هيتشكوك” كـ “مخرج أفلام رعب” (مخرج أعرج) في حين نظر إليه نقاد “الكاييه دو سينما” على أنه فنان كبير.
 كذلك في حين اعتبر النقاد العرب، أو كثر منهم على الأقل، “كلود شابرول” مخرج جيّد، كونه من المنادين والمؤمنين بسينما المؤلّف إلا أنهم لم يكترثوا لحقيقة  أن شابرول كان من دعاة اعتبار هيتشكوك مخرجاً مؤلّفاً، ولم يكن بالطبع مهمّاً أن “شابرول” تأثر بـ “هيتشكوك” في مجمل أعماله حتى مطلع الثمانينات (كذلك بآخرين).
نقاد الفترة نظروا إلى المخرج المصري “كمال الشيخ” ومواطنه “حسن الصيفي” أو اللبناني “محمد سلمان” نظرة  واحدة.

 طبعاً كانوا يعترفون بأن الشيخ مخرج أكثر قدرة حرفية من أي منهما (كما من معظم المخرجين العرب آنذاك وإلى اليوم) لكنهم كانوا يستقبلون أفلامه بتحفّظ كونها لم تكن تدور، إلا لُماماً عن “الواقع” المصري طريقة كمال سليم أو صلاح أبو سيف.
مقارنة “كمال الشيخ” بـ “ألفرد هيتشكوك”، وهي مقارنة درجت منذ ذلك الحين وتحمل بالفعل أسبابها، لم تكن لتزيد من رفع مستوى إعتبار المخرج المعروف صاحب “لن أعترف”، و”الشيطان الصغير”، و”الليلة الأخيرة”، و”الهارب”، و”على من نطلق الرصاص”.
 قليلون جدّاً من النقاد الذين بحثوا في فنّه، حينها، وكثيرون جداً من الذين تجاوزوه طمعاً فيما يسهل بناء أطنان من الكلمات الإنشائية الجاهزة حولهم.
 إثنان على التحديد حازا على الإهتمام: “يوسف شاهين”، كمعبّر فرد صاحب أفلام ذاتية؛ و”صلاح أبو سيف”، كصاحب أسلوب واقعي يطرح من خلاله مشاكل الحارة.

الهوامش: ــــــــــ

1. Francoise Truffaut.jpg  فرنسوا تروفو
2. Alfred_Hitchcock.jpg   ألفرد هيتشكوك
3. Griffith.jpg   د و غريفيث


إعلان