صمودٌ سينمائيّ بصيغة الجمع

أولئك الذين لا يمتلكون أيّ فكرة عن المخرجين الذين احتفت بهم مؤسّسة Lowave في أسطوانة رقميةDVD تحمل عنوان صمود (بصيغة الجمع)، سوف يعتقدون فوراً بأنّ التيمة المُعلنة تتمحور حول المعنى المباشر للعنوان، وخاصةً ما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي ارتبطت غالباً بهذا المفهوم النضالي، بينما لن يخطر على بالهم معاني أخرى مرتبطة بالصحة، التعليم، الفيزياء، …والسينما.
ولكن، من يعرف التوجهات السينمائية الطليعية للمخرجين الثمانية المُشاركين في هذه المجموعة الأولى، سوف يدرك حالاً بأنّ الإختيارات لم تتشعبّ في اتجاهاتٍ عديدة، متوافقة، أو متعارضة، ولم تجتمع صدفة، أو عشوائياً، وسوف نعثر على قواسم مشتركة بينها ترتكز على رغبة التعبير بطريقة مغايرة من خلال ممارساتٍ شكلية، وتشكيلية لم تنقطع بدورها عن الهموم، والمشاغل اليومية، والمصيرية، وهو ما يُميز التجريب في السينما العربية (المحلية، والمهجرية) عن نظيرتها الأجنبية المُنشغلة أكثر بالجانب الجماليّ البحت، حيث يتعامل السينمائي العربي(أو من أصولٍ عربية) مع مفردات اللغة السمعية/البصرية بطريقةٍ مختلفة عن السائد، وبالآن ذاته، يقدم فكرة تشغله، يُعبّر عنها بإهمالٍ متعمّد للبُنى السينمائية، والدرامية المُتعارف عليها في الأفلام الروائية، والتسجيلية، وهو الذي يجعلها تجريبية بامتيازٍ بالمُقارنة مع أفلام أخرى تستوحى من التجريب، تستثمره، وتجني ثماره بدون أن تكون أفلاماً تجريبية، وهو الأمر الذي يقودني إلى محاولة تقويم أفكاراً منقوصة، وتصحيح أخطاء تصنيفية.
فإذا كان من حقّ أيّ مهرجان تقديم تيماتٍ عامة حول المرأة، الفلاح، أو البيئة،.. وهذا دوره، أجد بأن إدارته، ومبرمجيه ليس من حقهم التصدي لتيماتٍ لا يعرفونها، أو بالكاد، ويشطحوا بعيداً في جمالياتٍ اللغة السينمائية، ومفرداتها كحال التجريب الذي تحتاج الصناعة السينمائية العربية بكاملها (باستثناء قلائل جداً) إلى إعادة النظر في معارفها السطحية عن معانيه، وممارساته، لأنه، في كلّ مرة يتحدث هؤلاء عن هذا الموضوع، أجدهم يتوقفون عند “المومياء” تحفة “شادي عبد السلام”، وأكثر من ذلك، يعتبره البعض فيلماً “مُغيّباً” عن الجمهور، بينما يُغفلون، في نفس الوقت، أفلاماً تجريبية حقيقية مثل “حكاية الأصل، والصورة في قصة نجيب محفوظ المُسمّاة صورة” لمخرجه “د.مدكور ثابت”، وينبهرون ـ فقط ـ عندما يقدم “إيليا سليمان” في أفلامه بعض مشاهده التخيلية، أو لقطاته الطويلة زمنياً، ويصفقون لها كثيراً، ويضعونها في صدارة برنامج عن التجريب في السينما العربية، بينما لا يعدو تجريبها المُفترض أكثر من أسلوبٍ مختلف ينهل من تراث الأفلام الصامتة، “جاك تاتي”، و”باستر كيتون”..على سبيل المثال.
وإذا اعتمدنا على هذا المفهوم السطحيّ، سوف يصل بنا الحال إلى إدراج مئات الأفلام في خانة التجريب، لأننا سوف نعثر في كلّ واحدٍ منها على إضافة شكلية جديدة، أو مختلفة، ويتحول الأمر إلى استسهالٍ مُعيب يُفقد التجريب معانيه، وتصبح كلّ الأفلام التجريبية الحقيقية لا علاقة لها بالسينما أصلاً، ويمكن الافتراض بأنها لم تُنجز بعد، وعلى كلّ السينمائيين التجريبيّين في العالم مشاهدة “المومياء”، و”اليازرلي”، وأفلام “إيليا سليمان” كي يتعلموا منها، فقط، لأنّ مهرجاناً يتطاول على تيماتٍ يجهلها تماماً كما فعل سابقاً عندما أصدر دراساتٍ بحثية عن السينما الخليجية تمتلئ بأخطاء مخزية، ومضحكة، وصلت إلى حدّ اعتبار “تعاونية عَمَان لصانعي الأفلام” الموجودة في الأردن واحدةً من المؤسّسات السينمائية الإنتاجية في سلطنة عُمَان، والإشارة إلى فيلمين روائيين طويلين للمخرج العُماني “خالد الزدجالي”، وهما في الحقيقة، فيلمٌ واحدٌ كان عنوانه قبل التصوير “حكاية زاهر”، وتغير إلى “البوم” بعد إنجازه (كان واضحاً اعتماد الباحث على التصفح والبحث في الإنترنت دون مشاهدة أكثر من ثلاثة أفلام، ونصف من مجموع الأفلام التي تضمّنها بحثه).

ولحسن الحظ، هناك ناشطين سينمائيين في أوروبا ـ أجانب، ومن أصولٍ عربية ـ يُصححون معلوماتنا (بدون قصد التصحيح، لأنهم، ببساطة، لا يعرفون بأننا نرتكب أخطاء تصنيفية) مع أنهم ليسوا متخصصين حصراً فيالسينما العربيّة، ولكنهم يعرفون ـ على الأقلّ ـ معنى السينما التجريبية التي خصصوا كل نشاطاتهم لمُمارستها، التعريف بها، والترويج لها، وبمعرفةٍ دقيقة، وميزانياتٍ متواضعة جداً، تمكنوا من تكوين شبكة معرفية يلتقطون عن طريقها أفلاماً تجريبية من كلّ أنحاء العالم (ومنها عربية لم ينتبه إليها من يتشاطر في برمجة تظاهرة عن التجريب في السينما العربية) يجمعونها في إصداراتٍ موضوعاتية، ويكتبون عنها كما لم يكتب ناقد، أو باحث عربي.
يعيش هؤلاء السينمائيون، والفنانون العرب في الظلّ، ولا يتابع أعمالهم غير نخبة من “المهزوزين سينمائياً”، ولكن، من المؤسف حقاً أن يتبنى مهرجان تظاهرةً ما، ويتفاخر بها، بينما ترتكز برمجتها على أسماء معروفة، وأفلاماً شبعت عروضاً (ماعدا “اليازرلي” لقيس الزبيدي)، وينسى مجموعة كبيرة من السينمائيين العرب الذين أنجزوا، وينجزون أفلاماً تجريبية حقيقية، ومنهم: عمار البيك، هالة العبد الله، أكرم زعتري، رانيا إستيفان، غسان سلحب (تجاربه في الفيديو)…
تقدم الأسطوانة الرقمية التي تحمل عنوان صمود (بصيغة الجمع) لمحة عامة عن الإبداع التجريبي العربي المعاصر، المحليّ، والمهجري عن طريق مختاراتٍ من أفلام ثمانية مبدعين، سبعة منهم يعيشون خارج بلدانهم الأصلية، يشكلون هوياتهم من خلال الإتصال مع الثقافات التي استوعبوها خلال الهجرة، والمنفى :
ـ الجزائرية “زليخة بوعبد الله”، الفلسطيني “تيسير البطنيجي”، المغربي “منير فاطمي”، اللبناني “وائل نور الدين”، الفرنسية من أصولٍ جزائرية “فريدريك دوفو” (فرنسا).
ـ العراقي أسامة الشايبي (الولايات المتحدة).
ـ اللبناني جايس سلوم (كندا).
والإماراتية “لمياء قرقاش” الوحيدة التي درست في بريطانيا، وعادت إلى بلدها الإمارات العربية المتحدة.
مسافرون دائمون، كما تصفهم “سيلكة شميكل” المسؤولة عن مؤسّسة Lowave في النصّ التحليلي المُرافق لمجموعة الأفلام.
مبدعون عالقون في بلدان الهجرة، والمنفى الطوعيّ، أو القسريّ، وتعكس أفلامهم ملامح من القضايا الكبرى التي حملوها معهم في هجراتهم عن عالمٍ عربيّ معقد، وممزق بأزماتٍ داخلية، وخارجية.
تشظي ثقافي ناتج عن تاريخ هذه المنطقة، يحتاج دائماً إلى التركيب، والتجميع، وهي المهمة التي حملها هؤلاء على عاتقهم من خلال اقتراباتٍ جمالية يتقدم فيها الجانب البصري على البناء الحكائي، وكلّ واحدٍ منهم، مهما كان أسلوبه، أو دعامته، يقدم أسئلة جوهرية، إنسانية، سياسية، وجمالية:
ـ تساؤلاتٌ عن الهوية الثقافية المُزدوجة في فيلم ” Dansons”(من إنتاج عام 2003) للجزائرية “زليخة بو عبد الله”.
ـ التمزّق الجغرافي، والثقافي في فيلم ” Transit”(من إنتاج عام 2004) للفلسطيني “تيسير البطنيجي”.
ـ صورة هذه المجتمعات في الوسائل الإعلامية في فيلم” Dieu me pardonne “(من إنتاج عام 2001) للمغربي “منير فاطمي”.
ـ الآلام الشخصية، والداخلية في فيلم ” Wet Tiles”(من إنتاج عام 2003) للإماراتية “لمياء قرقاش”.
ـ التقاليد، والمعاصرة، واختطاف السمات الدينية، وإعادة تشكيلها بصرياً، وصوتياً في فيلم ” Allahu Akbar” للعراقي “أسامة الشايبي”(من إنتاج عام 2003).
ـ العلاقة بين الماضي، والحاضر، واسترجاع صور مؤلمة، ومحاولة طلب الغفران من الضحايا في فيلم ” Untitled Part 3B: (As If) Beauty Never Ends”(من إنتاج عام 2003) لمخرجه اللبناني “جايس سلوم”.
ـ مكانة المرأة في المجتمعات العربية الحالية، ومحاولة استحضار أصول عائلية، وثقافية في فيلمK3 (من إنتاج عام 2003) للفرنسية من أصولٍ جزائرية “فريدريك دوفو”.
ـ نظرة عنيفة لمعمارية مدينة لم تندمل جراحاتها بعد في فيلم ” Ça sera beau – From Beirut with Love ” (من إنتاج عام 2005) لمخرجه اللبناني “وائل نور الدين”.
أعمالٌ خصبة، ثرية، ومتنوعة، تيماتٌ متكررة مثل الهجرة، والنزوح، الهوية، والآخر هي بمثابة تجارب جوهرية لواقعنا الحالي.
في الحقيقة، هذه الأفلام لا تُعارض، أو تُواجه مباشرة نظاماً معيناً أو أنظمة، ولكن تتجسّد مقاومتها بالأحرى إنطلاقاً من التفكير في مادة الصورة، والصوت، ولا يتعلق الأمر هنا بمقاومةٍ سلبية، أو ردود أفعالٍ في مواجهة ظروف احتجاجية عامة، ولا مقاومة نضالية تقترح مشروعاً تحريرياً.
بعد مشاهدتها، سوف نعلم بأنها ليست أفلاماً سياسية، ولكنها ممارسات سينمائية مختلفة لإنجاز سينما بنكهةٍ سياسية، مقاومة إيجابية عن طريق الإبداع، تماماً كما كتب “جيل دولوز” يوماً :
“الإبداع لا يعني التواصل، ولكن المقاومة”.
هوامش:ــــــــــــ
RESISTANCE[S]
صمود (بصيغة الجمع).
صدرت المجموعة الأولى(الأفلام المُشار إليها في هذه القراءة) عام 2006 عن مؤسّسة Lowave بإدارة الألمانية “سيلكة شميكل”.