المخرج الإثيوبي “هيلا جريما”.. سينمائي منسي
لا أحد يمكنه أن يتخيل أن في إثيوبيا سينما أو أفلام معروفة للعالم، أو أن إثيوبيا لديها سينمائي كبير على غرار “كيروساوا” الذي وضع السينما اليابانية على خريطة السينما في العالم، أو “ساتيا جيت راي” الهندي، أو “يوسف شاهين المصري”.. لكن “هيلا جيريما” Haile Gerima ينتمي قلبا وقالبا إلى السينما الإفريقية، وإلى سينما العالم الثالث، وتيار السينما المستقلة عموما في العالم.
وهو سينمائي مهموم بقضايا ومشاكل شعبه وشعوب المنطقة التي ينتمي إليها ثقافيا رغم أنه يقيم ويعمل في الولايات المتحدة منذ فترة طويلة حيث يقوم بتدريس السينما.
وقد صنع “جيريما” معظم أفلامه في موطنه الأصلي أثيوبيا؛ ويمكن القول بثقة إن أفلامه تتحدى المقاييس والأسس السائدة في السينما الغربية، فهو مهموم منذ بداية اشتغاله بالإخراج السينمائي، بمحاولة العثور على أسلوب جديد، وجماليات جديدة تعكس خصوصية التجربة الإفريقية، من خلال استخدامه المميز لطريقة رواية حكاية، فهو يجمع بين الأشكال الروائية الشفوية، وبين الأساليب السينمائية الطليعية التي تأثرت دون شك، بالتطور الذي حققه السينمائيون الأوروبيون وسينمائيو أمريكا اللاتينية الذين تمردوا على أساليب هوليوود.
و”هايلا جيريما” هو المخرج الذي حصل فيلمه الأخير “تيزا” Teza (أو العودة) على جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان “فينيسيا” السينمائي العام 2008، ثم عاد بعدها مباشرة ليفوز بجائزة مهرجان “قرطاج” السينمائي الكبرى، بل وبكل الجوائز الرئيسية التي منحها المهرجان في دورته سنة 2008؛ ولكن قبل “تيزا” لم يكن أحد يعرف شيئا عن “جيريما” باستثناء النقاد والدارسين المهتمين بوجه خاص بسينما العالم الثالث.
وقد شاهدت أفلام “جيريما” الأخر قبل “تيزا” عندما احتفى به مركز السينما البريطانية BFI وعرض كل أفلامه في الثمانينيات.
درس “جيريما” المسرح أولا في الولايات المتحدة التي رحل إليها عام 1967، ثم درس الإنتاج السينمائي في أوائل السبعينيات بمعهد “لوس أنجلوس” الشهير في ولاية كاليفورنيا، قبل أن يتمكن خلال فترة وجيزة من ترسيخ أقدامه كمخرج سينمائي طليعي صاحب أسلوب خاص مميز.

طفل المقاومة
في فيلم “طفل المقاومة” Child of Resistance (1973) الذي أخرجه “جيريما” حينما كان لا يزال يدرس السينما، نرى امرأة سوداء يشوب الخوف والاحباط أحلامها المتطلعة إلى نيل حريتها والتحرر من قيود الاضطهاد في المجتمع الأمريكي (كان يتعين على “جيريما” تصوير الفيلم في المحيط الأمريكي أثناء الدراسة).
وتبرز في الفيلم فكرة النضال من أجل الإنعتاق من القهر الطبقي والاستعماري، والأبوي الإقطاعي، وهي فكرة تتكرر في كل أفلام “جيريما”؛ والشخصيات في هذا الفيلم تناضل ضد الظلم والاستغلال،
وخلال النضال ينمو وعيهم بإستمرار، والشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية المرأة التي نراها في حالة تحول. إنها تقضي عقوبة ما في السجن، تتأمل في ذلك الواقع وتلك الظروف الشاقة التي قادتها إلى السجن، وتدرك مدى القهر الذي يعيشه الناس.
وعلى نفس الطريق نرى “دوروثي” الأم الضحية المقهورة في فيلم “بوش ماما” Bush Mama (1979) وهو الفيلم الذي يعبر عن الأفكار السينمائية النظرية لـ “جيريما”، وهي تتعلم كيف تتخذ فعلا إيجابيا يصل بها إلى الذروة بعد أن يقع اعتداء على ابنتها.
ويوضح “جيريما” دائما في أفلامه أنه على الرغم من الآلام العديدة التي يتعرض لها أبطاله إلا أنهم يصلون دائما إلى مرحلة الوعي الإيجابي بالواقع، وبالتالي يتخذون فعلا إيجابيا بعد أن يسحبوا ترددهم.
ويعبر هذا الفيلمان عن فكرة القمع المزدوج الذي يقع على المرأة السوداء فهي أولا تتعرض لقهر الرجل وسيطرته في مجتمع تسود فيه المؤسسة الذكورية بقيمها المعروفة، وثانيا يقع عليها الاضطهاد ضمن ما يواجهه أبناء جلدتها من السود الأمريكيين في مجتمع عنصري.
غير أن “جيريما” يهتم بالشخصية أكثر من اهتمامه بجنس الشخصية؛ ففي فيلم “طفل المقاومة” على سبيل المثال، يمكن أن تكون الشخصية الرئيسية رجلا أو امرأة ورغم أن الفيلم يشيرعلى نحو ما إلى دور المناضلة السوداء “أنجيلا ديفيز”، إلا أن تجربتها بنفس الدرجة يمكن أن تكون تجربة رجل. والشخصيات تتخذ هنا طابعا رمزيا، فالمهم ما تلخصه الشخصية، وبهذا المفهوم هو أقرب إلى أسلوب “يوسف شاهين” في ثلاثيته السياسية (رباعية الهزيمة: الأرض، الإختيار، العصفور، عودة الإبن الضال).
يقول “جيريما”: “إنني لا أرى أن هناك جنسا ما متميزا بنضاله من أجل التحرر. إنني أتناول النظام الذي يضطهد الجميع بالنقد، وأسعى إلى العثور على وسائل جديدة للتعبير السينمائي في محاولة لإكتشاف واقعنا بصدق؛ في هذا الإطار وعلى هذه الأرضية لا تهتم وسائل الإعلام بإمرأة مثل “دوروثي” إلا بعد أن ترتكب جريمة ما، إنها في نظرهم مجرد امرأة سوداء متسولة، هذه هي الصورة المجردة المغرضة التي تركز عليها وسائل الاعلام دون أدنى تحليل للظروف التي تعيش فيها”.
في بداية الفيلم يقدم “جيريما” صورة تفصيلية لما سيحدث في الشارع، ويصل إلى بطلته “دوروثي” وهي تتعرض للاعتداءات اليومية، ففي المشهد الافتتاحي من الفيلم نرى شابا يختطف حقيبة يدها، وتدريجيا وبينما هي تطارد الشاب بلا جدوى، تسير وحدها تبكي، ثم يبدأ العنف الشفوي تجاهها فهي تتعرض لشتى أنواع المضايقات من جانب المارّة، ثم يقطع المخرج في شريط الصوت لنستمع الى المرأة (وهي تتذكر) ورجلا يسألها: هل عندك تلفزيون؟ هل لديك ثلاجة؟.. إلخ وهي الأسئلة التي توجه عادة في مكاتب تقويم الحالة الإجتماعية للفقراء؛ وهو نوع آخر من القمع وإختراق الخصوصية بشكل مباشر؛ و”جيريما” يريد أن يقول لنا أن هؤلاء الفقراء عرضة طيلة الوقت، لشتى أنواع الإعتداءات سواء اللفظية أو المباشرة في وسائل المواصلات العامة، ومن خلال ما تبثه أجهزة الإعلام.
“دوروثي” تخشى العنف، وعندما تشعر بالعنف الذي يمارسه عليها موظف الرعاية الإجتماعية من خلال أسئلته الهجومية تهرب إلى الخيال، تستعين بالعنف المضاد كردّ فعل تعويضي تمارسه ضده ولو في خيالها.
إن “جيريما” هنا يكثف الجانب السيريالي أو الخيالي في حياة البؤساء، إنه يصور العنف اليومي الذي يدور من كلا الجانبين، الأول واقعي تماما، والثاني خيالي؛ والخيال هنا بمثابة نوع من الهروب المنتظم إلى الأمام نتيجة الوضع الإجتماعي العام.
يقول “جيريما”: “إنني أعود إلى تذكر تجاربي الخاصة، وأتعامل مع صور حقيقية أعرفها وسبق لي أن شاهدتها بنفسي خلال إقامتي في الولايات المتحدة، والأمر ليس ببساطة أن مخرجا سينمائيا من إثيوبيا يصور بعض الجوانب الغريبة عليه في أمريكا، فالنضال مشترك بالنسبة لإنسان العالم الثالث، بغضّ النظر عن مكان إقامته”!
حصاد 3 آلاف عام..!!
في عام 1974 عاد “جيريما” إلى بلاده وقضى أسبوعين من إجازته هناك، حيث قام بتصوير فيلم “حصاد 3000 عام” Harvest 3000 Years (يبلغ توقيت عرضه ساعتين ونصف). كانت ظروف التصوير شديدة القسوة فقد كانت الفترة فترة الحرب الأهلية التي اندلعت في البلاد مباشرة في أعقاب الإطاحة بحكم الديكتاتور “هيلا سيلاسي” وقبل قيام حكم آخر ديكتاتوري؛ وقد استخدم “جيريما” ممثلين غير محترفين، من الفلاحين، وصوّر الفيلم بالأبيض والأسود بكاميرا من مقاس 16 ملم.
ويجمع هذا الفيلم بين الواقعية الروائية والتسجيلية المباشرة، وهو يُصوّر نضال الفلاحين في إثيوبيا ضد الإقطاع والقهر الإستعماري، ويعبر الفيلم عن الذاكرة الجماعية للمقهورين من الإثيوبيين.
قطبا الصراع
عنوان الفيلم يشير لآلاف السنين من القمع والقهر الطبقي والاستعماري، وهيمنة الفقر والجهل والمرض والتخلف؛ ويدور الصراع في الفيلم بين قطبين يمثلان ما يحدث في الواقع، الأول هو أحد أبناء الإقطاعيين القدامى أو بقاياهم، وهو يمتلك اقطاعية كبيرة؛ أما الثاني فهو فلاح أجير يعمل في الأرض التي يمتلكها الإقطاعي، ويقوم بتحريض الفلاحين بشكل فردي تماما، ضد استغلال الاقطاعي لهم، وبسبب هذا الطابع الفردي يسقط ضحية للإقطاعي الذي يبالغ في إذلاله وإهانته ويطلق عليه “المدام” (أي المرأة باعتبار أن المرأة كائن أدنى). ولكن الحملة التي سبق أن قادها الفلاح تثمر في النهاية مع ظهور شخص ثالث هو أحد أتباع ذلك الذي يطلقون عليه “المدام” هو الذي سيحمل راية النضال في النهاية ضد الاقطاع، ويجعل “جيريما” المناضل القادم أخيرا مغنيا شعبيا يستخدم الموسيقى في التحريض وشحذ الذاكرة الجماعية كما سنرى أيضا فيما بعد في “تيزا”.
وفي هذا الفيلم تتضح معالم أسلوب “هيلا جيريما” في الإبتعاد عن القوالب التقليدية المعروفة لصورة “البطل”؛ وعندما يكاد المتفرج يعتقد أن الشخصية الرئيسية هي المضمون نفسه، سرعان ما تتلاشى هذه الفكرة من خلال استخدام شريط الصوت الذي يتناقض تماما مع شريط الصورة، ومن خلال المجموع ودوره، فالجماعة هنا تصبح هي البطل الحقيقي.
في الفيلم مشهد مهم نرى فيه الفلاحين وهم يمتطون جيادهم تنتقل بين أيديهم تلك العصا التي تنتزعها بالقوة من يدي الطاغية الاقطاعي والتي كان يضربهم بها.
الرمز والأسطورة
يسعى “جيريما” أيضا إلى تجنب الأساليب الشائعة في السينما الغربية لرواية قصة، فهو يستخدم في رواية قصته الرمز والأسطورة في علاقتهما بالواقع، ويمزج بين الحلم والحقيقة، تماما كما سيعود لكي يفعل ولكن على مستوى شديد الاحترافية وبإمكانيات سينمائية كبيرة في فيلمه الأـشهر “تيزا” (2008).
وفي المشهد الختامي نرى الجنود يأتون للسيطرة على المزرعة وحماية ملاك الأراضي، ونلاحظ مظهر الجنود الذين يرتدون الأحذية الثقيلة، مقابل الفلاحين الحفاة؛ ويلخص المشهد أيضا طبيعة الدور القمعي الذي يلعبه الجيش، فالجيش يتدخل فقط عندما يصبح الإقطاعيون في خطر، لكنهم لا يأتون أبدا لنجدة الفلاحين من الظلم.
يقول “هيلا جيريما”: “إن الكتب التي ظهرت أثناء حكم “هيلا سيلاسي” هي كتب مزيّفة تماما، فهي تزيف التاريخ النضالي للشعب ضد الاستعمار الايطالي، أما الذين يستطيعون حقا رواية الحقيقة فهم أبناء الشعب مثل والدي الذي كان كاتبا وراويا للقصص الشفوية؛ لقد كان راويا متجولا، وأنا فخور به جدا، إنه الرجل الذي ينشد الأغنية في الفيلم، وهو الذي كتبها بنفسه عندما اكتشف بعد رحيل الايطاليين عن البلاد أن الأوضاع ظلت على ما هي عليه منذ ثلاث آلاف سنة. لقد حاول والدي في أغانيه أن يروي الحقائق التي وقعت في تاريخ إثيوبيا، وهي روايات تتداولها الأجيال تباعا.