“فرنسوا تروفو” مكتبة باريسية توثق لسينما التجريبية
في بداية هذا العام، كنت أتردد على المكتبة البلدية التي تحمل اسم المخرج الفرنسي “فرانسوا تروفو” المُتخصصة بكلّ ما يتعلق بالسينما، والمُتاحة للجمهور مجاناً، أو باشتراكٍ سنويٍّ زهيد تستقطعه مصلحة الضرائب.
في هذه المكتبة، وغيرها أمارس طقوس البحث عن أفلامٍ نادرة (يكتب عنها أحدنا بدون أن يشاهدها)، وبالآن ذاته، أتزوّد بما أرغب من الأفلام التي لم أشاهدها بعد، أو أحتاج إلى مشاهدتها من جديد.
في أحد الأركان، هناك دفتر ملاحظاتٍ يسجل فيه الزوار عناوين الأفلام غير المتوفرة حالياً، لم يكن في ذهني عنواناً معيناً، خاصةً عندما أخبرتني إحدى الموظفات، بأنّ المكتبة بصدد تجهيز خزينة مخصصة للسينما التجريبية، وفنّ الفيديو(وثائق مكتوبة، سمعية/بصرية، وأفلام)، وخلال محادثتنا القصيرة تلك، تبيّن لي بأنها تع��ف عن السينما التجريبية أكثر مني، حتى أنني خجلت من نفسي، فقد تخطت تلك المفاجأة المبهجة أقصى حدود توقعاتي.
بعد أسابيع، وبالتحديد في بداية شهر آذار/مارس، وجدت صالة القراءة وقد تحولت إلى معرضٍ للسينما التجريبية، حيث توزعت فوق طاولاتها عيناتٍ من الكتب، والأفلام بهدف لفت الأنظار إليها.
وفي أماكن متعددة فوق منصة الاستقبال استقرّ دليل أرشيفيّ (114 صفحة) يوثق كلّ المقتنيات الجديدة المكتوبة، الصوتية، والمرئية (مقالات، دراسات، صحف، كتب، أفلام، سيناريوهات، أسطوانات أفلام، كتالوغات مهرجانات، ومجلات..)، شعرت بأنني صغير جداً في وسط هذا الكمّ الرهيب الذي يحتاج رُبما إلى حياةٍ أخرى كي أتمكن من قراءته، ومشاهدته، بدون حساب الإضافات التي سوف تجد طريقها يومياً إلى المكتبة.
كنت في ذلك الوقت منشغلاً بمشاهدة أفلام قصيرة تصلني من كلّ أنحاء العالم كي أختار منها قائمة أولية للمسابقة الدولية لأحد المهرجانات التي أتعاون معها، بالإضافة لمشاغل تنظيمية، وفنية تتعلق بنفس المهرجان، ولهذا اكتفيت بالحصول على نسخةٍ من الدليل الأرشيفيّ، وبعض النشرات الإعلامية، والبرامج الخاصة بمؤسّساتٍ أخرى، ومنها البرنامج التفصيلي لـ”مُلتقى الصور” المُحاذي تماماً للمكتبة.
انتهى ذاك المهرجان، وبدأت المشاركة في مهرجانٍ آخر، وتحددت مهمتي بملاحقة الأفلام العربية القصيرة، والتسجيلية من المغرب العربي، أو المُنجزة عن طريق مخرجين من أصولٍ عربية يعيشون في بلدان المهجر، وبين قوسين، لا أعرف لماذا أفقد يوماً بعد يوم حماس الكتابة عن السينما العربية، ويزداد يأسي من إمكانية تطورها، وعدم اقتناعي بكلّ هذه الضجة التي نفتعلها عنها، وحولها، وكما لجأت يوماً إلى فرنسا، ألجأ دائماً إلى سينماتٍ أخرى، وبشكلٍ خاصّ السينما التجريبية، وفنّ الفيديو، وكلّ ما يحوم حولهما من سينماتٍ مختصرة كما يُسميها الثنائي الفرنسي “فريدريك دوفو”، و”ميشيل أمارجيه”.

اليوم، أتصفحُ مرةً أخرى، وبإمعانٍ، الدليل الأرشيفي لمكتبة “فرانسوا تروفو”، وأكتشف بأنه لا يتضمّن فحسب قوائم أرشيفية عن المقتنيات الجديدة، ولكن أيضاً، معلوماتٍ رُبما تكون معروفة بالنسبة للمتخصصين المغرمين، ولكنها مفيدة جداً للجمهور العادي، ومثيرة لفضول البحث، القراءة، والمشاهدة.
أولى المعلومات التي لفتت انتباهي، مقدمة تعريفية تشرح الأسباب التي شجعت إدارة المكتبة على تخصيص خزينة خاصة بالسينما التجريبية، ومن ثمّ المادة الأرشيفية التي توزعت في أربع محاور:
ـ قائمة بالمقتنيات المكتوبة، وتمّ أرشفتها وُفق العناوين التالية:
مؤلفات عامة، سينما تجريبية، وفنّ الفيديو، مهرجانات، معارض، بلدان، مقابلات، سينمائيون تجريبيون.
ـ قائمة بالأفلام، وتمّ أرشفتها وُفق العناوين التالية:
أنواع، أنتولوجيا تجمع أعمالاً ذات تيمة واحدة، وثائق فيلميّة حول المخرجين.
ـ قائمة بالوثائق الصوتية.
ـ قائمة بالمواقع المتخصصة.
في قسم البلدان، هناك مؤلفات عن السينما التجريبية، وفنّ الفيديو في ألمانيا، النمسا، بلجيكا، كندا، إسبانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، وهذا أمرٌ طبيعي، ولكن، اللافت للانتباه، بأنّ الهند ـ مصنع الأحلام ـ تمتلك سينماها التجريبية أيضاً، وهذا ما يوضحه كتابٌ مرجعيّ بعنوان :
“سينما Prayoga : أفلام تجريبية، وفيديو هندية 1913 – 2006 من تأليفٍ جماعيّ (Prayoga باللغة السنسكريتية تعني تجريب).
الصفحات المخصصة للأنواع (كان المُفترض تسميّتها ممارسات) تقدم نبذةً مبسّطة عن كلّ واحدٍ منها، وتُدرج المؤلفات التي تتوافق معها، وهي كما جاءت في ترتيبٍ أبجديٍّ لاتينيّ :
ـ أفلام التحريك التجريبية.
ـ الفنّ الرقمي.
ـ فنّ الفيديو.
ـ الطليعة السينمائية.
ـ التجارب الفيلمية.
ـ الأفلام التجريدية.
ـ الأفلام اللاحكائية.
ـ الأفلام النضالية.
ـ الأفلام البنائية.
ـ الأفلام المُنجزة من بقايا الأفلام المهملة.
ـ اليوميات الفيلمية.
ـ الحركة الحروفية.
ـ التجليات المباشرة.
ـ القصائد السينمائية.
ـ سينما الأندرغراوند.

السينما العربية لا مكان لها في هذا الدليل مع أنّ أحد المهرجانات العربية الكبرى احتفى في دورته الرابعة عام 2010 بالسينما التجريبية العربية (منذ الستينيّات حتى اليوم)، وذلك من خلال برنامج يحمل عنواناً طموحاً “خرائط الذات”، وكان الهدف ـ بحسب تصريحات الإدارة ـ تقديم (مقترحاً جمالياً بخصوص التراث السينمائي المُغيّب، وغير المعروف على نطاقٍ واسع، وذلك من خلال تركيزه على أفلامٍ عربية ذات بنى فردية، وجمالية، وإبداعية،…)، وأثمرت تلك (المُبادرة الفريدة على نطاقٍ عالمي) ـ كما تصفها أدبيات هذا المهرجان ـ اختيار أربعة أفلام هي :
“المومياء” (مصرـ 1973)، “اليازرلي” (سورية ـ 1972)، “يد إلهية” (فلسطين ـ 2002)، “سجل اختفاء” (فلسطين ـ 1996) ـ جهات الإنتاج غير دقيقة، وخاصة ما يتعلق بفيلميّ “إيليا سليمان” ـ
وإذا سلمنا بعرض “اليازرلي” للمخرج العراقي “قيس الزبيدي” لمرةٍ واحدة فقط في سورية، ولكن، الأفلام الثلاثة الأخرى شبعت عرضاً في كلّ أنحاء العالم (صالات السينما، وشاشات التلفزيون) وهنا، كان يتوّجب على مبرمجي ذاك البرنامج، ومدير المهرجان نفسه، مراجعة ثقافتهم السينمائية، وتحاشي المزايدة على (التراث السينمائي المغيب، وغير المعروف عالمياً على نطاق واسع) ـ أفلام “إيليا سليمان” بالتحديد متوفرة في أيّ مكتبةٍ بلدية في فرنسا، وكلّ المحلات التجارية المُتخصصة ـ.
الطريف، لم تنتبه إدارة المهرجان إلى تقديمها لفيلم “المومياء – ليلة أن تحصى السنين” للمخرج “شادي عبد السلام”، وأشارت بأنه (يعتبر أكثر أفلام سينما المؤلف المصرية شهرةً، وقد تمّ ترميمه من قبل مؤسسة “سينما العالم،” و”سينماتك بولونيا”.) ومع ذلك، عرفنا قبل سطور بأنها أقدمت على الكشف عن (تراثٍ سينمائي مغيب، وغير معروف على النطاق العالمي)، وأعتقد بأنه من المفيد ـ حالياً ـ التوقف عن تحليل بيان صحفيّ (لم ينتبه إليه أحدٌ في ذاك الوقت) ينضح بآراءٍ تنظيرية طريفة صرّح بها مدير المهرجان “الأمريكي” عن التجريب في السينما العربية، ولم يجد أمامه غير أفلام (إيليا سليمان، قيس الزبيدي، وشادي عبد السلام ..) نماذج، وهي واحدة من الأخطاء الكبرى التي يرتكبها هذا المهرجان، وبالتحديد، تكريسه لمصطلحاتٍ، ومفاهيم خاطئة، ومن حسن الحظ، هناك من يصحح هذا النقص المعرفيّ، وهذا ما يؤكده دليل مقتنيات مكتبة “فرانسوا تروفو” الذي حرره موظفون لا يدّعي أيّ واحدٍ منهم صفة مهنية تتجاوز حدود عمله، وفيه سوف نعثر على بعض الأفلام الفالتة من نمطية السينما العربية السائدة، ومنها “رائحة الجنس” لمخرجته اللبنانية “دانييل عربيد”، فيلمٌ تسجيليّ بطول 20 دقيقة زمنياً، من إنتاج عام 2008، صدر في اسطوانة رقمية عن طريق BREF المجلة المتخصصة بالأفلام القصيرة، وأدرجه الدليل في قائمة “التجارب الفيلمية” (في الحقيقة، تتجسّد مسحته التجريبية من جرأة الفيلم في التطرّق لموضوع العلاقات الجنسية في المجتمع اللبناني عن طريق أشخاص يتحدثون عن تجاربهم الخاصة)، ويشير الدليل أيضاً إلى “منير فاطمي”، مخرج مغربيّ مازالت أدبيات الثقافة السينمائية العربية تجهله، ولكنّ مؤسسة LOWAVE أصدرت مجموعة من أفلامه في أسطوانة رقمية، يُدرجها الدليل في قائمة “فنّ الفيديو”.
وقبل أن نُصاب بالإحباط من خيبتنا، سوف نجد بأنّ الفرنسيين قد اكتشفوا أيضاً، أو أعادوا اكتشاف بعض السينمائيين التجريبيين العرب، واحتفوا بهم، وهذا ما فعلته نفس المُؤسسة عندما أصدرت سلسلة من الاسطوانات الرقمية تحت عنوان دلاليّ (صمود “بصيغة الجمع”، أفلام تجريبية من الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا)، وفيها قدمت للجمهور أعمال سينمائيين يعيشون في فرنسا، مثل اللبناني “وائل نور الدين”، أو المغربي”منير فاطمي”، أو في بلدانهم مثل الإماراتية “لمياء قرقاش”، وفيلمها “الأرض المُبتلة” من إنتاج عام 2003، والذي قدمته في “مسابقة أفلام من الإمارات” في ذلك العام، ومن المؤسف حقاً، بأنّ إدارة المهرجان الكبير مسحت موقع “المسابقة” عمداً، أو إهمالاً، وكان يعتبر سجلاً تاريخياً لتلك التظاهرة، والسينما الإماراتية، والخليجية منذ عام 2000، والمحزن في هذا التهوّر، ما تزال إدارته، تدعيّ دعمها للسينما المحلية، وكان رئيس المهرجان أول من حاول إلغاء تلك التظاهرة، قبل أن يسلم إدارتها لسينمائيٍّ مبتدئ لا يمتلك أيّ خبرة كاد بدوره الإطاحة بها تماماً، قبل أن تعود إلى الحياة قليلاً بعد أن تسلمها الممثل، والمخرج الإماراتي “علي الجابري” الأكثر مصداقية.